تحميلات المصحف بكل صيغه

تحميلات

صفة صلاة النبي{ص}تحقيق الشيخ الألباني

صفة صلاة النبي{ص}تحقيق الشيخ الألباني

https://alnukhbhtattalak.blogspot.com/ صفة صلاة النبي{ص}

الأربعاء، 19 أكتوبر 2022

صحيح البخاري/كتاب المحاربين من أهل الردة والكفر

 صحيح البخاري/كتاب المحاربين من أهل الردة والكفر

قلت المدون ابتداءا فإن جزاء المحاربين لله ورسوله وهم

1.فئة كانت مسلمة لكن متآمرة تخللت جموع المسلمين افرادا او عصابات او شرازم فاطلعوا علي خباياهم ثم غذروا بهم من حيث امنهم الناس من المسلمين

2. لم يكتفوا بمحاربتهم الله ورسوله فحسب لكنهم سعوا في الارض فسادا ويحدد هذا الفعل لفظ سعوا - ولفظ: في الارض ولفظ: فسادا 

فالسعي : هو حركة مقصودة الغاية مقصودة النية المصحوبة بالافساد ومن هذا السعي الترصد والتتبع والتجبر ووصولهم تحقيق القتل والاستيلاء علي مقتنيات الفرد المالية والمادية والاغتصاب للزوجة والنساء والاولاد بغدر لا هوادة فيه ولا رحمة  واما الافساد فهو غير الفساد والفرق ان الافساد  هو الامعان المقصود بترصد وتتبع ومراقبة للضحية وهو كل عمل خالف الاصلاح باطلا وزورا وتجهما واعتداءا اما محيط دائرة سعيهم فليس محدودا بحد مكاني ولا زمني حتي يستطيعون ان يروعوا الناس مع اجرامهم  ومسرح افسادهم هو كل الارض بدون حدود جغرافية  ويكون في الغالب عصبة او شرذمة او جماعة تواثقت علي جريمتهم بشكل محدد  

 وجزاءهم التقتيل او التصليب او الموت المحقق لانعدام حياتهم فلفظ الارض لا تتسع لحياتهم والنفي من الارض يعني اعدامهم بحيث لا يبقون عليها فالنف والوجود ضدان متعارضان نسبة الي ملفوظ الارض لان الارض تسع  الشيئ وضده كم الله ان لا يكون لهم وجود عليها وهذا معني النفي المضاف للارض 

= اما التقتيل فهو التفنن في القتل بشكل يضاعف قتلهم مرات عديدة واما التصليب فغير الصلب والفرق ان التصليب عملية متعددة الصلب في اجسادهم  بحيث نقول صلبوا اكثر من مرة  وذلك بدق اياديهم{2} وارجلهم{2 مسمار} واعينهم{2 مسمار} وكل موضع يستجيب لدق مسمار فيه فذك التصليب وهو مؤدي الي معني التقتيل لكن الفارق بينهما ان التقتيل يشمل وسائل اخري تحقق قسوة الموت لهم كالفرم بعد التعذيب بكل اشكاله ومنها التصليب بلا شك 

 ===================
 90 - كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة. وقول الله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتَّلوا أو يصلَّبوا أو تقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} /المائدة: 33/. 

 6417 - حدثنا علي بن عبد الله: حدثنا الوليد بن مسلم: حدثنا الأوزاعي: حدثني يحيى بن أبي كثير قال: حدثني أبو قلابة الجرمي، عن أنس رضي الله عنه قال: قدم على النبي ﷺ نفر من عكل، فأسلموا، فاجتووا المدينة، فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا فصحُّوا، فارتدُّوا وقتلوا رعاتها، واستاقوا الإبل، فبعث في آثارهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، ثم لم يحسمهم حتى ماتوا

 
 [ر:231] 1 - باب: لم يحسم النبي ﷺ المحاربين من أهل الردة حتى هلكوا. 

 6418 - حدثنا محمد بن الصلت أبو يعلى: حدثنا الوليد: حدثني الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أنس: أن النبي ﷺ قطع العرنيين ولم يحسمهم حتى ماتوا.
 [ر:231] 2 - باب: لم يسق المرتدون المحاربون حتى ماتوا. 6419 - حدثنا موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه قال: قدم رهط من عكل على النبي ﷺ، كانوا في الصُّفَّة، فاجتووا المدينة، فقالوا: يا رسول الله، أبغنا رِسْلاً، فقال: (ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله ﷺ). فأتوها، فشربوا من ألبانها وأبوالها، حتى صحُّوا وسمنوا وقتلوا الراعي واستاقوا الذود، فأتى النبي ﷺ الصريخ، فبعث الطلب في آثارهم، فما ترجَّل النهار حتى أتي بهم، فأمر بمسامير فأحميت، فكحلهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم، ثم ألقوا في الحرة، يستسقون فما سقوا حتى ماتوا.
 قال أبو قلابة: سرقوا وقتلوا وحاربوا الله ورسوله. [ر:231] 3 - باب: سمر النبي ﷺ أعين المحاربين. 6420 - حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثنا حمَّاد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك: أن رهطاً من عكل، أو قال: عرينة، ولا أعلمه إلا قال: من عكل، قدموا المدينة، فأمر لهم النبي ﷺ بلقاح، وأمرهم أن يخرجوا فيشربوا من أبوالها وألبانها، فشربوا حتى إذا برئوا قتلوا الراعي واستاقوا النعم، فبلغ النبي ﷺ غدوة، فبعث الطلب في إثرهم، فما ارتفع النهار حتى جئ بهم، فأمر بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، فألقوا بالحرة يستسقون فلا يسقون.
 قال أبو قلابة: هؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله. [ر:231] 4 - باب: فضل من ترك الفواحش. 6421 - حدثنا محمد بن سلام: أخبرنا عبد الله، عن عبيد الله بن عمر، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: (سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل ذكر الله في خلاء ففاضت عيناه، ورجل قلبه معلق في المسجد، ورجلان تحابا في الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه).
 [ر:629] 6422 - حدثنا محمد بن أبي بكر: حدثنا عمر بن علي. وحدثني خليفة: حدثنا عمر بن علي: حدثنا أبو حازم، عن سهل بن سعد الساعدي: قال النبي ﷺ: (من توكَّل لي ما بين رجليه وما بين لحييه توكَّلت له بالجنة).
 [ر:6109] 5 - باب: إثم الزناة. وقول الله تعالى: {ولا يزنون} /الفرقان: 68/. {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} /الإسراء: 32/.
---
6423 - أخبرنا داود بن شبيب: حدثنا همَّام، عن قتادة: أخبرنا أنس بن مالك قال: لأحدثنَّكم حديثاً لا يحدِّثكموه أحد بعدي، سمعته من النبي ﷺ، سمعت النبي ﷺ يقول: (لا تقوم الساعة - وإما قال: من أشراط الساعة - أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا، ويقلَّ الرجال، ويكثر النساء حتى يكون للخمسين امرأة القيم الواحد). [ر:80] 6424 - حدثنا محمد بن المثنَّى: أخبرنا إسحق بن يوسف: أخبرنا الفضيل بن غزوان، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: (لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن، ولا يقتل وهو مؤمن). قال عكرمة: قلت لابن عباس: كيف ينزع الإيمان منه؟ قال: هكذا، وشبك بين أصابعه، ثم أخرجها، فإن تاب عاد إليه هكذا، وشبك بين أصابعه.
[ر:6400] 6425 - حدثنا آدم: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن ذكوان، عن أبي هريرة قال: قال النبي ﷺ: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد).
[ر:2343] 6426 - حدثنا عمرو بن علي: حدثنا يحيى: حدثنا سفيان قال: حدثني منصور وسليمان، عن أبي وائل، عن أبي ميسرة، عن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك). قلت: ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك). قلت: ثم أي؟ قال: (أن تزاني حليلة جارك).
 قال يحيى: وحدثنا سفيان: حدثني واصل، عن أبي وائل، عن عبد الله: قلت: يا رسول الله: مثله. قال عمرو: فذكرته لعبد الرحمن، وكان حدَّثنا، عن سفيان، عن الأعمش ومنصور وواصل، عن أبي وائل، عن أبي ميسرة، قال: دعه دعه. [ر:4207]

6 - باب: رجم المحصن. وقال الحسن: من زنى بأخته حده حد الزاني. 6427 - حدثنا آدم: حدثنا شعبة: حدثنا سلمة بن كهيل قال: سمعت الشعبي يحدث، عن علي رضي الله عنه، حين رجم المرأة يوم الجمعة، وقال: قد رجمتها بسنة رسول الله ﷺ.


6428 - حدثني إسحق: حدثنا خالد، عن الشيباني: سألت عبد الله بن أبي أوفى: هل رجم رسول الله ﷺ؟ قال: نعم، قلت: قبل سورة النور أم بعد؟ قال: لا أدري.


[6449] 6429 - حدثنا محمد بن مقاتل: أخبرنا عبد الله: أخبرنا يونس، عن ابن شهاب قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله الأنصاري: أن رجلاً من أسلم، أتى رسول الله ﷺ فحدثه أنه قد زنى، فشهد على نفسه أربع شهادات، فأمر به رسول الله ﷺ فرجم، وكان قد أحصن.


[ر:4969] 7 - باب: لا يرجم المجنون والمجنونة. وقال علي لعمر: أما علمت: أن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ. 6430 - حدثنا يحيى بن بكير: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وسعيد بن المسيَّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله ﷺ وهو في المسجد، فناداه فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه حتى ردد عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبي ﷺ فقال: (أبك جنون). قال: لا، قال: (فهل أحصنت). قال: نعم، فقال النبي ﷺ: (اذهبوا به فارجموه).


قال ابن شهاب: فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: فكنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلَّى، فلما أذلقته الحجارة هرب، فأدركناه بالحرَّة فرجمناه. [ر:4970] 8 - باب: للعاهر الحجر. 6431 - حدثنا أبو الوليد: حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: اختصم سعد وابن زمعة، فقال النبي ﷺ: (هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، واحتجبي منه يا سودة). زاد لنا قتيبة عن الليث: (وللعاهر الحجر).


[ر:1948] 6432 - حدثنا آدم: حدثنا شعبة: حدثنا محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة: قال النبي ﷺ: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر).


[ر:6369] 9 - باب: الرجم في البلاط. 6433 - حدثنا محمد بن عثمان: حدثنا خالد بن مخلد، عن سليمان: حدثني عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتي رسول الله ﷺ بيهودي ويهودية قد أحدثا جميعاً، فقال لهم: (ما تجدون في كتابكم). قالوا: إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبية، قال عبد الله بن سلام: ادعهم يا رسول الله بالتوراة، فأتي بها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له ابن سلام: ارفع يدك، فإذا آية الرجم تحت يده، فأمر بهما رسول الله ﷺ فرجما.


قال ابن عمر: فرجما عند البلاط، فرأيت اليهودي أجنأ عليها. [ر:1264]

10 - باب: الرجم بالمصلَّى. 6434 - حدثني محمود: حدثنا عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزُهري، عن أبي سلمة، عن جابر: أن رجلاً من أسلم، جاء النبي ﷺ فاعترف بالزنا، فأعرض عنه النبي ﷺ حتى شهد على نفسه أربع مرات، قال له النبي ﷺ: (أبك جنون). قال: لا، قال: (آحصنت). قال: نعم، فأمر به فرجم بالمصلَّى، فلما أذلقته الحجارة فرَّ، فأدرك فرجم حتى مات. فقال له النبي ﷺ خيراً، وصلى عليه.


لم يقل يونس وابن جريج، عن الزُهري: فصلى عليه. سئل أبو عبد الله: هل قوله: فصلى عليه، يصح أم لا؟ قال: رواه معمر، قيل له: رواه غير معمر؟ قال: لا. [ر:4969] 11 - باب: من أصاب ذنباً دون الحد، فأخبر الإمام، فلا عقوبة عليه بعد التوبة، إذا جاء مستفتياً. قال عطاء: لم يعاقبه النبي ﷺ. [ر:6437] وقال ابن جريج: ولم يعاقب الذي جامع في رمضان. ولم يعاقب عمر صاحب الظبي. وفيه: عن أبي عثمان، عن ابن مسعود، عن النبي ﷺ. [ر:503] 6435 - حدثنا قتيبة: حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً وقع بامرأته في رمضان، فاستفتى رسول الله ﷺ فقال: (هل تجد رقبة). قال: لا، قال: (هل تستطيع صيام شهرين). قال: لا، قال: (فأطعم ستين مسكيناً).


[ر:1834] 6436 - وقال الليث، عن عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة: أتى رجل النبي ﷺ في المسجد، قال: احترقت، قال: (مم ذاك). قال: وقعت بامرأتي في رمضان، قال له: (تصدق). قال: ما عندي شيء، فجلس، وأتاه إنسان يسوق حماراً ومعه طعام - قال عبد الرحمن: ما أدري ما هو - إلى النبي ﷺ، فقال: (أين المحترق). فقال: ها أنا ذا، قال: (خذ هذا فتصدَّق به). قال: على أحوج مني، ما لأهلي طعام؟ قال: (فكلوه).


قال أبو عبد الله: الحديث الأول أبين، قوله: (أطعم أهلك). [ر:1833] 12 - باب: إذا أقر بالحد ولم يبين هل للإمام أن يستر عليه. 6437 - حدثني عبد القدوس بن محمد: حدثني عروة بن عاصم الكلابي: حدثنا همَّام بن يحيى: حدثنا إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت عند النبي ﷺ فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً فأقمه علي، قال: ولم يسأله عنه، قال: وحضرت الصلاة، فصلى مع النبي ﷺ، فلما قضى النبي ﷺ الصلاة، قام إليه رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً، فأقم فيَّ كتاب الله، قال: (أليس قد صليت معنا). قال: نعم، قال: (فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو قال: حدَّك).


13 - باب: هل يقول الإمام للمقرِّ: لعلك لمست أو غمزت. 6438 - حدثني عبد الله بن محمد الجعفي: حدثنا وهب بن جرير: حدثنا أبي قال: سمعت يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أتى ماعز بن مالك النبي ﷺ قال له: (لعلك قبَّلت، أو غمزت، أو نظرت). قال: لا يا رسول الله، قال: (أنكتها). لا يكني، قال: فعند ذلك أمر برجمه.


14 - باب: سؤال الإمام المقرَّ: هل أحصنت. 6439 - حدثنا سعيد بن عفير قال: حدثني الليث: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن ابن المسيَّب وأبي سلمة: أن أبا هريرة قال: أتى رسول الله ﷺ رجل من الناس وهو في المسجد، فناداه: يا رسول الله، إني زنيت، يريد نفسه، فأعرض عنه النبي ﷺ فتنحَّى لشقِّ وجهه الذي أعرض قبله، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه، فجاء لشقِّ وجه النبي ﷺ الذي أعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبي ﷺ فقال: (أبك جنون). قال: لا يا رسول الله، فقال: (أحصنت). قال: نعم يا رسول الله، قال: (اذهبوا به فارجموه).


قال ابن شهاب: أخبرني من سمع جابراً قال: فكنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلَّى، فلما أذلقته الحجارة جمز، حتى أدركناه بالحرَّة فرجمناه. [ر:4970] 15 - باب: الاعتراف بالزنا. 6440 - حدثنا علي بن عبد الله: حدثنا سفيان قال: حفظناه من في الزُهري قال: أخبرني عبيد الله: أنه سمع أبا هريرة وزيد بن خالد قالا: كنا عند النبي ﷺ فقام رجل فقال: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه، وكان أفقه منه، فقال: اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي؟ قال: (قل). قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، ثم سألت رجالاً من أهل العلم، فأخبروني: أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم. فقال النبي ﷺ: (والذي نفسي بيده لأقضينَّ بينكما بكتاب الله جل ذكره، المائة شاة والخادم ردّ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها). فغدا عليها فاعترفت فرجمها.


قلت لسفيان: لم يقل: فأخبروني أن على ابني الرجم؟ فقال: أشكُّ فيها من الزُهري، فربما قلتُها، وربما سكتُّ. [ر:2190] 6441 - حدثنا علي بن عبد الله: حدثنا سفيان، عن الزُهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر: لقد خشيت أن يطول بالناس زمان، حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلُّوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن، إذا قامت البيِّنة، أو كان الحمل أو الاعتراف - قال سفيان: كذا حفظت - ألا وقد رجم رسول الله ﷺ ورجمنا بعده.


[ر:2330]

16 - باب: رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت. 6442 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: حدثني إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس قال: كنت أقرئ رجالاً من المهاجرين، منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى، وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها، إذ رجع إلي عبد الرحمن فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان؟ يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمَّت، فغضب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم. قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيِّرها عنك كلُّ مطيِّر، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكناً، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها. فقال عمر: والله - إن شاء الله - لأقومنَّ بذلك أو ل مقام أقومه بالمدينة. قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، فلما كان يوم الجمعة عجَّلت الرواح حين زاغت الشمس، حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو ابن نفيل جالساً إلى ركن المنبر، فجلست حوله تمس ركبتي ركبته، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب، فلما رأيته مقبلاً، قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ليقولنَّ العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف، فأنكر عليَّ وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله، فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذنون قام، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني قائل لكم مقالة قد قُدِّر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدِّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحلُّ لأحد أن يكذب عليَّ: إنَّ الله بعث محمداً ﷺ بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله ﷺ ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلُّوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البيِّنة، أو كان الحبل أو الاعتراف، ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله: أن لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو إن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم. ألا ثم إن رسول الله ﷺ قال: (لا تطروني كما أطريَ عيسى بن مريم، وقولوا: عبد الله ورسوله).


ثم إنه بلغني قائل منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترَّنَّ امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمَّت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرَّها، وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي تابعه، تغرَّة أن يقتلا، وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه ﷺ أن الأنصار خالفونا، واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا علي والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم، لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم، فقلت: والله لنأتينَّهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمَّل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: يوعك، فلما جلسنا قليلاً تشهَّد خطيبهم، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفَّت دافَّة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يحضنونا من الأمر. فلما سكت أردت أن أتكلم، وكنت قد زوَّرت مقالة أعجبتني أردت أن أقدمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر: على رسلك، فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري، إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت، فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقَدَّم فتضرب عنقي، لا يقرِّبني ذلك من إثم، أحب إلي من أن أتأمَّر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تسوِّل لي نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن. فقال قائل من الأنصار: أنا جُذيلها المحكَّك، وعُذيقها المرجَّب، منَّا أمير، ومنكم أمير، يا معشر قريش. فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى فرقت من الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته، وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار. ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قتل الله سعد بن عبادة، قال عمر: وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة: أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين، فلا يتابع هو ولا الذي بايعه، تغرَّة أن يقتلا. [ر:2330] 17 - باب: البكران يجلدان وينفيان. {والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين. الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} /النور: 2 - 3/. قال ابن عيينة: رأفة في إقامة الحد. 6443/6444 - حدثنا مالك بن إسماعيل: حدثنا عبد العزيز: أخبرنا ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن زيد بن خالد الجهني قال: سمعت النبي ﷺ يأمر فيمن زنى ولم يحصن: جلد مائة وتغريب عام.


قال ابن شهاب: وأخبرني عروة بن الزبير: أن عمر بن الخطاب غرَّب، ثم لم تزل تلك السُّنَّة. (6444) - حدثنا يحيى بن بكير: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيَّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ قضى فيمن زنى ولم يحصن: بنفي عام، وبإقامة الحد عليه.


[ر:2190] 18 - باب: نفي أهل المعاصي والمخنثين.

6445 - حدثنا مسلم بن إبراهيم: حدثنا هشام: حدثنا يحيى، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن النبي ﷺ المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وقال: (أخرجوهم من بيوتكم). وأخرج فلاناً، وأخرج عمر فلاناً.


[ر:5547] 19 - باب: من أمر غير الإمام بإقامة الحد غائباً عنه. 6446 - حدثنا عاصم بن علي: حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزُهري، عن عبيد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد: أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي ﷺ وهو جالس فقال: يا رسول الله، اقض بكتاب الله، فقام خصمه فقال: صدق، اقض له يا رسول الله بكتاب الله، إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجم، فافتديت بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم، فزعموا أن ما على ابني جلد مائة وتغريب عام، فقال: (والذي نفسي بيده، لأقضينَّ بينكما بكتاب الله، أما الغنم والوليدة فردّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وأما أنت يا أنيس، فاغد على امرأة هذا فارجمها). فغدا أنيس فرجمها.


[ر:2190] 20 - باب: قول الله تعالى. {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهنَّ بإذن أهلهنَّ وآتوهنَّ أجورهنَّ بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصنَّ فإن أتين بفاحشة فعليهنَّ نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم} /النساء: 25/. غير مسافحات: زواني. ولا متخذات أخذان: أخلاء. 21 - باب: إذا زنت الأمة. 6447 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما: أن رسول الله ﷺ سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال: (إذا زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير).


قال ابن شهاب: لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة. [ر:2046] 22 - باب: لا يثرَّب على الأمة إذا زنت ولا تنفى.

6448 - حدثنا عبد الله بن يوسف: حدثنا الليث، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة أنه سمعه يقول: قال النبي ﷺ: (إذا زنت الأمة فتبيَّن زناها، فليجلدها ولا يثرِّب، ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرِّب، ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر).


تابعه إسماعيل بن أمية، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ. [ر:2045] 23 - باب: أحكام أهل الذمَّة وإحصانهم، إذا زنوا ورفعوا إلى الإمام. 6449 - حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا عبد الواحد: حدثنا الشيباني: سألت عبد الله بن أبي أوفى عن الرجم فقال: رجم النبي ﷺ، فقلت: أقبل النور أم بعده؟ قال: لا أدري.


تابعه علي بن مسهر، وخالد بن عبد الله، والمحاربي، وعبيدة بن حميد، عن الشيباني. وقال بعضهم: المائدة، والأول أصح. [ر:6428] 6450 - حدثنا إسماعيل بن عبد الله: حدثني مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله ﷺ، فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله ﷺ: (ما تجدون في التوراة في شأن الرجم). فقالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، قالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله ﷺ فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة، يقيها الحجارة.


[ر:1264] 24 - باب: إذا رمى امرأته أو امرأة غيره بالزنا، عند الحاكم والناس، هل على الحاكم أن يبعث إليها فيسألها عما رميت به. 6451 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبي هريرة وزيد بن خالد أنهما أخبراه: أن رجلين اختصما إلى رسول الله ﷺ، فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر، وهو أفقههما: أجل يا رسول الله، فاقض بيننا بكتاب الله، وأذن لي أن أتكلم، قال: (تكلم). قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا - قال مالك: والعسيف الأجير - فزنى بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم، فأخبروني أن ما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله ﷺ: (أما والذي نفسي بيده، لأقضينَّ بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فردّ عليك). وجلد ابنه مائة وغرَّبه عاماً، وأمر أنيساً الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر: (فإن اعترفت فارجمها). فاعترفت فرجمها.


[ر:2190] 25 - باب: من أدَّب أهله أو غيره دون السلطان. وقال أبو سعيد: عن النبي ﷺ: (إذا صلَّى، فأراد أحد أن يمرَّ بين يديه فليدفعه، فإن أبي فليقاتله). وفعله أبو سعيد. [ر:487] 6452/6453 - حدثنا إسماعيل: حدثني مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: جاء أبو بكر رضي الله عنه، ورسول الله ﷺ واضع رأسه على فخذي، فقال: حبست رسول الله ﷺ والناس، وليسوا على ماء، فعاتبني وجعل يطعن بيده في خاصرتي، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله ﷺ، فأنزل الله آية التيمم.


(6453) - حدثنا يحيى بن سليمان: حدثني ابن وهب: أخبرني عمرو: أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه، عن أبيه، عن عائشة قالت: أقبل أبو بكر، فلكزني لكزة شديدة، وقال: حبست الناس في قلادة، فبي الموت، لمكان رسول الله ﷺ، وقد أوجعني. نحوه. لكز ووكز واحد.


[ر:327] 26 - باب: من رأى مع امرأته رجلاً فقتله. 6454 - حدثنا موسى: حدثنا أبو عوانة: حدثنا عبد الملك، عن ورَّاد كاتب المغيرة، عن المغيرة قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: (أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغيَر منه، والله أغيَر مني).


[6980]

27 - باب: ما جاء في التعريض. 6455 - حدثنا إسماعيل: حدثني مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيَّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال: (هل لك من إبل). قال: نعم، قال: (ما ألوانها). قال: حمر، قال: (هل فيها من أورق). قال: نعم، قال: (فأنى كان ذلك). قال: أراه عرق نزعه، قال: (فلعل ابنك هذا نزعه عرق).


[ر:4999] 28 - باب: كم التعزير والأدب. 6456/6458 - حدثنا عبد الله بن يوسف: حدثنا الليث: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن عبد الله، عن سليمان بن يسار، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبي بردة رضي الله عنه قال: كان النبي ﷺ يقول: (لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله). (6457) - حدثنا عمرو بن علي: حدثنا فضيل بن سليمان: حدثنا مسلم بن أبي مريم: حدثني عبد الرحمن بن جابر، عمن سمع النبي ﷺ قال: (لا عقوبة فوق عشر ضربات إلا في حد من حدود الله).


(6458) - حدثنا يحيى بن سليمان: حدثني ابن وهب: أخبرني عمرو: أن بكيراً حدثه قال: بينما أنا جالس عند سليمان بن يسار، إذ جاء عبد الرحمن بن جابر، فحدث سليمان بن يسار، ثم أقبل علينا سليمان بن يسار فقال: حدثني عبد الرحمن بن جابر: أن أباه حدثه: أنه سمع أبا بردة الأنصاري قال: سمعت النبي ﷺ يقول: (لا تجلدوا فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله).


6459 - حدثنا يحيى بن بكير: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب: حدثنا أبو سلمة: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله ﷺ عن الوصال، فقال له رجال من المسلمين: فإنك يا رسول الله تواصل، فقال رسول الله ﷺ: (أيكم مثلي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقين). فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً، ثم رأوا الهلال، فقال: (لو تأخر لزدتكم). كالمنكِّل بهم حين أبوا.


تابعه شعيب، ويحيى بن سعيد، ويونس، عن الزُهري. وقال عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ. [ر:1864] 6460 - حدثني عياش بن الوليد: حدثنا عبد الأعلى: حدثنا معمر، عن الزُهري، عن سالم، عن عبد الله بن عمر: أنهم كانوا يُضربون على عهد رسول الله ﷺ إذا اشتروا طعاماً جزافاً، أن يبيعوه في مكانهم، حتى يؤووه إلى رحالهم.


[ر:2017] 6461 - حدثنا عبدان: أخبرنا عبد الله: أخبرنا يونس، عن الزُهري: أخبرني عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه في شيء يؤتى إليه حتى تنتهك من حرمات الله، فينتقم لله.


[ر:3367] 29 - باب: من أظهر الفاحشة واللطخ والتهمة بغير بيِّنة.

6462 - حدثنا علي بن عبد الله: حدثنا سفيان: قال الزُهري، عن سهل بن سعد قال: شهدت المتلاعنين وأنا ابن خمس عشرة، فرَّق بينهما، فقال زوجها: كذبت عليها إن أمسكتها.


قال: فحفظت ذاك من الزُهري: إن جاءت به كذا وكذا فهو، وإن جاءت به كذا وكذا، كأنه وحرة، فهو. وسمعت الزُهري يقول: جاءت به للذي يكره. [ر:413] 6463/6464 - حدثنا علي بن عبد الله: حدثنا سفيان: حدثنا أبو الزناد، عن القاسم بن محمد قال: ذكر ابن عباس المتلاعنين، فقال عبد الله بن شدَّاد: هي التي قال رسول الله ﷺ: (لو كنت راجماً امرأة عن غير بيِّنة). قال: لا، تلك امرأة أعلنت.


(6464) - حدثنا عبد الله بن يوسف: حدثنا الليث: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس رضي الله عنهما: ذكر التلاعن عند النبي ﷺ، فقال عاصم بن عدي في ذلك قولاً ثم انصرف، وأتاه رجل من قومه يشكو أنه وجد مع أهله رجلاً، فقال عاصم: ما ابتليت بهذا إلا لقولي، فذهب به إلى النبي ﷺ فأخبره بالذي وجد عليه امرأته، وكان ذلك الرجل مصفراً، قليل اللحم، سبط الشعر، وكان الذي ادعى عليه أنه وجده عند أهله آدم خدلاً، كثير اللحم، فقال النبي ﷺ: (اللهم بيِّن). فوضعت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده عندها، فلاعن النبي ﷺ بينهما، فقال رجل لابن عباس في المجلس: هي التي قال النبي ﷺ: (لو رجمت أحداً بغير بيِّنة رجمت هذه). فقال: لا، تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء.


[ر:5004] 30 - باب: رمي المحصنات. {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} /النور: 4 - 5/. {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} /النور: 23/. وقول الله: {والذين يرمون أزواجهم} /النور: 6/. {ثم لم يأتوا} الآية /النور: 4/.

6465 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: حدثنا سليمان، عن ثور بن زيد عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: (اجتنبوا السبع الموبقات). قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات).


[ر:2615] 31 - باب: قذف العبيد. 6466 - حدثنا مسدد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن فضيل بن غزوان، عن ابن أبي نعم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم ﷺ يقول: (من قذف مملوكه، وهو بريء مما قال، جلد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال).


32 - باب: هل يأمر الإمام رجلاً فيضرب الحد غائباً عنه. وقد فعله عمر. 6467 - حدثنا محمد بن يوسف: حدثنا ابن عيينة، عن الزُهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قالا: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه، وكان أفقه منه، فقال: صدق، اقض بيننا بكتاب الله، وأذن لي يا رسول الله، فقال النبي ﷺ: (قل). فقال: إن ابني عسيفاً كان في أهل هذا، فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، وإني سألت رجالاً من أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال: (والذي نفسي بيده، لأقضينَّ بينكما بكتاب الله، المائة والخادم ردّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، ويا أنيس اغد على امرأة هذا فسلها، فإن اعترفت فارجمها). فاعترفت فرجمها. [ر:2190]

قال ابن كثير في تفسير الاية:

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

قال ابن كثير


يقول تعالى : { مِنْ أَجْلِ } قَتْل ابن آدم أخاه ظلما وعدوانًا: { كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي: شرعنا لهم وأعلمناهم { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } أي: ومن قتل نفسًا بغير سبب من قصاص، أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية، فكأنما قتل الناس جميعًا؛ لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس، { وَمَنْ أَحْيَاهَا } أي: حرم قتلها واعتقد ذلك، فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار؛ ولهذا قال: { فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } .
وقال الأعمش وغيره، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: دخلت على عثمان يوم الدار فقلت: جئت لأنصرك وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين. فقال: يا أبا هريرة، أيسرك أن تَقْتُل (1) الناس جميعًا وإياي معهم؟ قلت: لا. قال فإنك إن قتلت رجلا واحدًا فكأنما قتلت الناس جميعًا، فانْصَرِفْ مأذونًا لك، مأجورًا غير مأزور. قال: فانصرفت ولم أقاتل.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو كما قال الله تعالى: { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } وإحياؤها: ألا يقتل نفسًا حَرّمها الله، فذلك الذي أحيا الناس جميعًا، يعني: أنه من حَرّم قتلها إلا بحق، حَيِي الناس منه
__________
(1) في أ: "يقتل".

(3/92)


[جميعا] (1)
وهكذا قال مجاهد: { وَمَنْ أَحْيَاهَا } أي: كف عن قتلها.
وقال العَوْفِيّ عن ابن عباس، في قوله: { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } يقول: من قتل نفسًا واحدة حرمها الله، فهو مثل من قتل الناس جميعًا. وقال سعيد بن جبير: من استحل دمَ مُسْلِم فكأنما استحل دماء الناس جميعًا، ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعًا.
هذا قول، وهو الأظهر، وقال عِكْرمة والعوفي، عن ابن عباس [في قوله: { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } يقول] (2) من قتل نبيًا أو إمام عَدْل، فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن شَدّ على عَضد نبي أو إمام عَدل، فكأنما أحيا الناس جميعًا. رواه ابن جرير.
وقال مجاهد في رواية أخرى عنه: من قتل نفسًا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا؛ وذلك لأنه من قتل النفس فله النار، فهو كما لو قتل الناس كلهم.
وقال ابن جُرَيْج (3) عن الأعرج، عن مجاهد في قوله: { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } من قتل النفس المؤمنة متعمدا، جعل الله جزاءه جهنم، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له عذابًا عظيمًا، يقول: لو قتل الناس جميعًا لم يزد على مثل ذلك العذاب.
قال ابن جريج: قال مجاهد { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } قال: من لم يقتل أحدًا فقد حيي الناس منه.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس [جميعا] (4) يعني: فقد وجب عليه القصاص، فلا (5) فرق بين الواحد والجماعة { وَمَنْ أَحْيَاهَا } أي: عفا عن قاتل وليه، فكأنما أحيا الناس جميعًا. وحكي ذلك عن أبيه. رواه ابن جرير.
وقال مجاهد -في رواية-: { وَمَنْ أَحْيَاهَا } أي: أنجاها من غَرق أو حَرق أو هَلكة.
وقال الحسن وقتادة في قوله: { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } هذا تعظيم لتعاطي القتل -قال قتادة: عَظُم والله وزرها، وعظم والله أجرها.
وقال ابن المبارك، عن سلام بن مسكين، عن سليمان بن علي الرِّبْعِي قال: قلت للحسن: هذه الآية لنا يا أبا سعيد، كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: إي والذي لا إله غيره، كما كانت لبني إسرائيل. وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا.
وقال الحسن البصري: { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } قال: وزرًا. { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } قال: أجرًا.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "وقال ابن جرير".
(4) زيادة من أ.
(5) في ر: "ولا".

(3/93)


وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعَة، حدثنا حُيَي (1) بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو قال: جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، اجعلني على شيء أعيش به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حمزة، نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها؟" قال: بل نفس أحييها: قال: "عليك بنفسك". (2) (3)
وقوله: { وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ } أي: بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة { ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ } وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، كما كانت بنو قُرَيْظَة والنَّضير وغيرهم من بني قَيْنُقاع ممن حول المدينة من اليهود، الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحروب أوزارها فدوا من أسروه، وودوا من قتلوه، وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة، حيث يقول: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ (4) إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة: 84 ، 85].
وقوله تعالى: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ } الآية. المحاربة: هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة (5) على الكفر، وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر، حتى قال كثير من السلف، منهم سعيد بن المسيب: إن قرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، وقد قال الله تعالى: { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [البقرة: 205].
ثم قال بعضهم: نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين، كما قال ابن جرير:
حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عِكْرِمَة والحسن البصري قالا (6) [قال تعالى] (7) { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلى { أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه، لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد، إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله، ثم لحق (8) بالكفار قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب.
ورواه أبو داود والنسائي، من طريق عكرمة، عن ابن عباس: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا } نزلت في المشركين، فمن (9) تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه
__________
(1) في ر: "يحيى".
(2) في ر: "عليك نفسك".
(3) المسند (2/175)
(4) في أ: "تردون".
(5) في ر: "صابرة".
(6) في أ: "قال".
(7) زيادة من ر .
(8) في ر: "ألحق".
(9) في ر: "فيمن".

(3/94)


ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا } قال: كان قوم من أهل الكتاب، بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، فخيَّر الله رسوله: إن شاء أن يقتل، وإن شاء أن تقطع (1) أيديهم وأرجلهم من خلاف. رواه ابن جرير.
وروى شعبة، عن منصور، عن هلال بن يَسَاف، عن مُصْعَب بن سعد، عن أبيه قال: نزلت في الحرورية: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا } رواه ابن مردويه.
والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات، كما رواه البخاري ومسلم (2) من حديث أبي قِلابة -واسمه عبد الله بن زيد الجَرْمي البصري-عن أنس بن مالك: أن نفرًا من عُكْل ثمانية، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض (3) وسَقَمت أجسامهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها؟" فقالوا: بلى. فخرجوا، فشربوا من أبوالها وألبانها، فَصَحُّوا (4) فقتلوا الراعي وطردوا الإبل. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم، فأُدْرِكُوا، فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسُمرت (5) أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا.
لفظ مسلم. وفي لفظ لهما: "من عكل أو عُرَيْنَة"، وفي لفظ: "وألقوا في الحَرَّة فجعلوا يَسْتَسْقُون (6) فلا يُسْقَون. وفي لفظ لمسلم: "ولم يَحْسمْهم". وعند البخاري: قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله. ورواه مسلم من طريق هُشَيْم، عن عبد العزيز بن صُهَيب وحميد، عن أنس، فذكر نحوه، وعنده: "وارتدوا". وقد أخرجاه من رواية قتادة عن أنس، بنحوه. وقال سعيد عن قتادة: "من عكل وعُرَينة". ورواه مسلم من طريق سليمان التيمي، عن أنس قال: إنما سَمَلَ النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك؛ لأنهم سملوا أعين الرعاء. ورواه مسلم، من حديث معاوية بن قرة عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرٌ من عُرَينة، فأسلموا وبايعوه، وقد وقع بالمدينة المُومُ -وهو البرْسام-ثم ذكر نحو حديثهم، وزاد: وعنده شباب من الأنصار، قريب من عشرين فارسًا فأرسلهم، وبعث معهم قائفًا يَقْتَصّ (7) أثرهم. وهذه كلها ألفاظ مسلم، رحمه الله. (8)
وقال حماد بن سلمة: حدثنا قتادة وثابت البنَاني وحُمَيْد الطويل، عن أنس بن مالك: أن ناسًا من عُرَينة قدموا المدينة، فاجْتَوَوْها، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا، فصَحُّوا فارتدوا (9) عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في ر: "يقطع".
(2) صحيح البخاري (233) وانظر أطرافه هناك، وصحيح مسلم برقم (1671).
(3) في أ: "المدينة".
(4) في ر: "فنصحوا".
(5) في ر: "وسملت".
(6) في أ: "فيستقون".
(7) في ر: "يقص".
(8) صحيح مسلم برقم (1671).
(9) في أ: "وارتدوا".

(3/95)


في آثارهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسَمَرَ (1) أعينهم وألقاهم في الحرة. قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشًا حتى ماتوا، ونزلت: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية.
وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه -وهذا لفظه-وقال الترمذي: "حسن صحيح". (2)
وقد رواه ابن مردويه من طرق كثيرة، عن أنس بن مالك، منها ما رواه من طريقين، عن سلام بن أبى الصهباء، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: ما ندمتُ على حديث ما ندمت على حديث سألني عنه الحجاج قال (3) أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت: قَدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عُرَيْنة، من البحرين، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقوا من (4) بطونهم، وقد اصفرت ألوانهم، وضَخُمت بطونهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها، حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم عَدَوا (5) على الراعي فقتلوه، واستاقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسَمَر (6) أعينهم، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا. فكان الحجاج إذا صعد المنبر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قطع أيدي قوم وأرجلهم ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا لِحال (7) ذَوْدٍ [من الإبل] (8) وكان يحتج بهذا الحديث على الناس.
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد -يعني ابن مسلم-حدثني سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: كانوا أربعة نفر من عرينة، وثلاثة نفر من عُكْل، فلما أتي بهم قطع أيديهم وأرجلهم، وسَمَل أعينهم، ولم يحسمهم، وتركهم يتَلقَّمون الحجارة بالحرة، فأنزل الله في ذلك: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا أبو مسعود -يعني عبد الرحمن بن الحسن الزجاج-حدثنا أبو سعد -يعني البقال-عن أنس بن مالك قال: كان رهط من عُرَينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم جَهْد، مُصْفرّة ألوانهم، عظيمة بطونهم، فأمرهم أن يلحقوا بالإبل فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فصفت ألوانهم وخمصت بطونهم، وسمنوا، فقتلوا الراعي واستاقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طَلَبهم، فأتي بهم، فقتل بعضهم، وسَمَرَ أعين بعضهم، وقطع أيدي بعضهم وأرجلهم، ونزلت: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلى آخر الآية.
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العُرنيين، وهم من بَجِيلة (9) قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام.
__________
(1) في ر: "وسمل".
(2) سنن أبي داود برقم (4367) وسنن الترمذي برقم (72) وسنن النسائي (7/97).
(3) في أ: "فقال".
(4) في ر: "في".
(5) في أ: "عمدوا".
(6) في ر: "وسمل".
(7) في أ: "بحال".
(8) زيادة من أ.
(9) في أ: "يجيلة".

(3/96)


وقال: حدثني يونس، أخبرنا ابن وَهْب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي الزناد، عن عبد الله بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمر (1) -أو: عمرو، شك يونس-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك -يعني بقصة العرَنيين-ونزلت فيهم آية المحاربة. ورواه أبو داود والنسائي من طريق أبي الزناد، وفيه: "عن ابن عمر" من غير شك. (2)
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن خَلَف، حدثنا الحسن بن حماد، عن عمرو (3) بن هاشم، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن إبراهيم، عن جرير قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قومٌ من عُرَيْنَة حُفَاة مضرورين، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صحوا واشتدوا قتلوا رعَاء اللقاح، ثم خرجوا باللقاح عامدين بها إلى أرض قومهم، قال جرير: فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعدما أشرفوا على بلاد قومهم، فقدمنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسَمَل أعينهم، فجعلوا يقولون: الماء. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "النار"! حتى هلكوا. قال: وكره الله، عز وجل، سَمْل الأعين، فأنزل الله هذه الآية: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلى آخر الآية.
هذا حديث غريب (4) وفي إسناده الرَّبَذيّ وهو ضعيف، وفيه فائدة، وهو ذكر أمير هذه السرية، وهو (5) جرير بن عبد الله البجلي (6) وتقدم في صحيح مسلم أن السرية كانوا عشرين فارسا من الأنصار. وأما قوله: "فكره الله سمل الأعين، فأنزل الله هذه الآية" فإنه منكر، وقد تقدم في صحيح مسلم أنهم سَملوا أعين الرعاء، فكان ما فعل بهم قصاصا، والله أعلم.
وقال عبد الرزاق، عن إبراهيم بن محمد الأسلمي، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من بني فَزَارة قد ماتوا هزلا. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى لقاحه، فشربوا منها حتى صحوا، ثم عمدوا إلى لقاحه فسرقوها، فطُلِبوا، فأتي بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسَمَر أعينهم. قال أبو هريرة: ففيهم نزلت هذه الآية: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }
__________
(1) في أ: "عن أبي عبد الله بن عمر".
(2) تفسير الطبري (10/249) وسنن أبي داود برقم (4369) وسنن النسائي (7/100).
(3) في أ: "عمر".
(4) تفسير الطبري (10/250).
(5) في ر، أ: "وإنه".
(6) قال الشيخ أحمد شاكر في حاشيته على تفسير الطبري (10/248):
"وهذا الخبر ضعيف جدًا، وهو أيضًا لا يصح؛ لأن جرير بن عبد الله البجلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفي فيه، وخبر العرنيين كان في شوال سنة ست، في رواية الواقدي (ابن سعد 2/1/67)، وكان أمير السرية كرز بن جابر الفهري. وذلك قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة 11 من الهجرة، بأعوام.
وهذا الخبر، ذكره الحافظ ابن حجر، في ترجمة "جرير بن عبد الله البجلي"، وضعفه جدا. أما ابن كثير، فذكره في تفسيره (3/139) وقال: "هذا حديث غريب، وفي إسناده الربذي، وهو ضعيف. وفي إسناده فائدة: وهو ذكر أمير هذه السرية. وهو جرير ابن عبد الله البجلي. وتقدم في صحيح مسلم أن هذه السرية كانوا عشرين فارسًا من الأنصار. وأما قوله: "فكره الله سمل الأعين" فإنه منكر. وقد تقدم في صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاء، فكان ما فعل بهم قصاصا، والله أعلم".
والعجب لابن كثير، يظن فائدة فيما لا فائدة له، فإن أمير هذه السرية، كان ولا شك، كرز بن جابر الفهري، ولم يرو أحد أن أميرها كان جرير بن عبد الله البجلي، إلا في هذا الخبر المنكر.

(3/97)


فترك النبي صلى الله عليه وسلم سَمْر الأعين بعدُ.
وروي من وجه آخر عن أبي هريرة.
وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا الحسين بن إسحاق التُسْتَرِيّ، حدثنا أبو القاسم محمد بن الوليد، عن (1) عمرو بن محمد المديني، حدثنا محمد بن طلحة، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن سلمة بن الأكوع قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم غلام يقال له: "يَسار" فنظر إليه يُحسن الصلاة فأعتقه، وبعثه (2) في لقاح له بالحَرَّة، فكان بها، قال: فأظهر قوم الإسلام من عُرَينة، وجاءوا وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم، قال: فبعث بهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى "يسار" فكانوا يشربون من ألبان الإبل حتى انطوت بطونهم، ثم عدوا على "يسار" فذبحوه، وجعلوا الشوك في عينيه، ثم أطردوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم خيلا من المسلمين، أميرهم كُرْزُ بن جابر الفِهْري، فلحقهم فجاء بهم إليه، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم. غريب جدًا. (3)
وقد روى قصة العرنيين من حديث جماعة من الصحابة، منهم جابر وعائشة وغير واحد. وقد اعتنى الحافظ الجليل أبو بكر بن مردُويه بتطريق (4) هذا الحديث من وجوه كثيرة جدًا، فرحمه الله وأثابه.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شَقِيق، سمعت أبي يقول: سمعت أبا حمزة، عن عبد الكريم -وسُئِلَ عن أبوال الإبل-فقال: حدثني سعيد بن جُبير عن المحاربين فقال: كان أناس (5) أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: نبايعك على الإسلام. فبايعوه، وهم كذَبَة، وليس الإسلام يريدون. ثم قالوا: إنا نَجْتوي المدينة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح، فاشربوا من أبوالها وألبانها" قال: فبينا هم كذلك، إذ جاءهم الصريخ، فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قتلوا الراعي، واستاقوا (6) النعم. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فنُودي في الناس: أن "يا خيل الله اركبي". قال: فركبوا لا ينتظر فارس فارسًا، قال: وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم، فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم، فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية. قال: فكان نفْيهم: أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم، ونفوهم من أرض المسلمين. وقتل نبي الله صلى الله عليه وسلم منهم، وصلب، وقطع، وسَمَر الأعين. قال: فما مَثَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلُ ولا بعدُ. قال: ونهى عن المُثْلة، قال: "ولا تمثلوا (7) بشيء" قال: وكان أنس يقول ذلك، غير أنه قال: أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم.
__________
(1) في ر، أ: "بن".
(2) في أ: "فبعثه".
(3) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (7/6) من طريق الحسين التستري به. قال الهيثمي في المجمع (6/249): "فيه موسى بن إبراهيم التيمي وهو ضعيف".
(4) في أ: "بطرق".
(5) في ر: "ناس".
(6) في أ: "وساقوا".
(7) في ر: "وقال لا تمثلوا بشيء".

(3/98)


قال: وبعضهم يقول: هم ناس من بني سليم، ومنهم عُرينة ناس من بَجيلة. (1)
وقد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العُرَنيين: هل هو منسوخ أو محكم؟ فقال بعضهم: هو منسوخ بهذه الآية، وزعموا أن فيها عتابًا للنبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله [تعالى] (2) { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } [التوبة:43] ومنهم من قال: هو منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المُثْلة. وهذا القول فيه نظر، ثم صاحبه مطالب (3) ببيان تأخر الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ. وقال بعضهم: كان هذا قبل أن تنزل الحدود، قاله محمد بن سيرين، وفي هذا نظر، فإن قصتهم متأخرة، وفي (4) رواية جرير بن عبد الله لقصتهم ما يدل على تأخرها (5) فإنه أسلم بعد نزول المائدة. ومنهم من قال: لم يسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم، وإنما عزم على ذلك، حتى نزل القرآن فبيَّن حكم المحاربين. وهذا القول أيضا فيه نظر؛ فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه (6) سمَلَ -وفي رواية: سمر-أعينهم.
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سَمْل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم، وتَركه (7) حَسْمهم حتى ماتوا، قال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك، وعلَّمه (8) عقوبة مثلهم: من القتل والقطع والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم. قال: وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو -يعني الأوزاعي-فأنكر أن يكون (9) نزلت معاتبة، وقال: بل كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم، ورفع عنهم السمل.
ثم قد احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في ذهابهم إلى أن المحاربة (10) في الأمصار وفي السبلان على السواء لقوله: { وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا } وهذا مذهب مالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، والشافعي، أحمد بن حنبل، حتى قال مالك -في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتًا فيقتله، ويأخذ ما معه-: إن هذا محاربة، ودمه إلى السلطان لا [إلى] (11) ولي المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إنفاذ القتل.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تكون المحاربة إلا في الطرقات، فأما في الأمصار فلا؛ لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث، بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه. [والله أعلم] (12)
وأما قوله: { أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ } الآية: قال (13) [علي] (14) بن أبي طلحة عن ابن عباس في [قوله: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ]
__________
(1) تفسير الطبري (10/247)
(2) زيادة من ر، أ.
(3) في أ: "ثم قائله يطالب".
(4) في ر: "في".
(5) في أ: "تأخيرها".
(6) في أ: "إنما".
(7) في أ: "وترك".
(8) في أ: "وعلمهم".
(9) في أ: "تكون".
(10) في أ: "أن حكم المحاربة".
(11) زيادة من ر.
(12) زيادة من أ.
(13) في ر، أ: "فقال".
(14) زيادة من ر، أ.

(3/99)


(1) الآية [قال] (2) من شهر السلاح في قبَّة الإسلام، وأخاف السبيل، ثم ظفر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله.
وكذا قال سعيد بن المسيب، ومجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وإبراهيم النَّخَعي، والضحاك. وروى ذلك كله أبو جعفر بن جرير، وحكي مثله عن مالك بن أنس، رحمه الله. ومستند هذا القول أن ظاهر "أو" للتخيير، كما في نظائر ذلك من القرآن، كقوله في جزاء الصيد: { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } [المائدة: 95] وقوله في كفارة الترفه: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [البقرة: 196] وكقوله في كفارة اليمين: { إِطْعَامُ (3) عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } [المائدة: 89]. [و] (4) هذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية. وقال الجمهور: هذه الآية منزلة على أحوال كما قال أبو عبد الله الشافعي [رحمه الله] (5) أنبأنا إبراهيم -هو ابن أبي يحيى-عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس في قطاع الطريق: إذا قَتَلوا وأخذوا المال قُتلوا وصلبوا، وإذا قَتَلوا ولم يأخذوا المال قُتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض.
وقد رواه ابن أبي شَيْبَة، عن عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن عطية، عن ابن عباس، بنحوه. وعن أبي مجلز، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النَّخَعِي، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، وعطاء الخُراساني، نحو ذلك. وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة.
واختلفوا: هل يُصْلَب حيا ويُتْرَك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب، أو بقتله برمح ونحوه، أو يقتل أولا ثم يصلب تنكيلا وتشديدا لغيره من المفسدين؟ وهل يصلب ثلاثة أيام ثم ينزل، أو يترك حتى يسيل صديده؟ في ذلك كله خلاف محرر في موضعه، وبالله الثقة وعليه التكلان.
ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره -إن صح سنده-فقال:
حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، عن ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب؛ أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس [بن مالك] (6) يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه يخبره: أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العُرَنِيِّين -وهم من بَجِيلة-قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام. قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل، عليه السلام، عن القضاء فيمن حارب، فقال: من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته، ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام، فاصلبه. (7)
وأما قوله تعالى: (8) { أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ } قال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه، فيقام
__________
(1) زيادة من ر، أ.
(2) زيادة من ر، أ.
(3) في ر، أ: "فإطعام" وهو خطأ.
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من أ.
(7) تفسير الطبري (10/250).
(8) في أ: "عز وجل".

(3/100)


عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام.
رواه ابن جرير عن ابن عباس، وأنس بن مالك، وسعيد بن جبير، والضحاك، والربيع بن (1) أنس، والزهري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس.
وقال آخرون: هو أن ينفى من بلده (2) إلى بلد آخر، أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية، وقال الشعبي: ينفيه -كما قال ابن هبيرة-من عمله كله. وقال عطاء الخراساني: ينفى من جُنْد إلى جند سنين، ولا يخرج من أرض الإسلام.
وكذا قال سعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، والحسن، والزهري، والضحاك، ومقاتل بن حيان: إنه ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام.
وقال آخرون: المراد بالنفي هاهنا السجن، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واختار ابن جرير: أن المراد بالنفي هاهنا: أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه.
وقوله: { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي: هذا الذي ذكرته من قتلهم، ومن صلبهم، وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ونفيهم -خزْي لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا، مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة، وهذا قد يتأيد به من ذهب إلى أن هذه الآية نزلت في المشركين، فأما أهل الإسلام فقد ثبت في الصحيح عند مسلم، عن عبادة بن الصامت قال: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء: ألا نشرك بالله شيئًا: ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا يَعْضَه (3) بعضنا بعضًا، فمن وَفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب فهو كفارة له، ومن ستره الله فأمْرُه إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له (4)
وعن علي [رضي الله عنه] (5) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أذنب ذنبًا في الدنيا، فعوقب به، فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبًا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه".
رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: "حسن غريب". وقد سئل الحافظ الدارقطني عن هذا الحديث، فقال: روي مرفوعًا وموقوفًا، قال: ورفعه صحيح. (6)
وقال ابن جرير في قوله: { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا } يعني: شَرٌّ وعَارٌ ونَكَالٌ وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة، { وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي: إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا -في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم (7) به في الدنيا، والعقوبة التي عاقبتهم (8) بها فيها (9) -{ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يعني: عذاب جهنم.
__________
(1) في ر: "عن".
(2) في ر: "بلد".
(3) في ر: "يغتب"، وفي أ: "تغتب".
(4) صحيح مسلم برقم (1709).
(5) زيادة من أ.
(6) المسند (1/99) وسنن الترمذي برقم (2626) وسنن ابن ماجة برقم (2604) والعلل للدارقطني (3/129).
(7) في أ: "جازاهم".
(8) في أ: "عاقبهم".
(9) في ر، أ: "في الدنيا".

(3/101)


وقوله: { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أما على قول من قال: هي في أهل الشرك فظاهر، وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم، فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل، وهل يسقط قطع اليد أم لا؟ فيه قولان للعلماء.
وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عمل الصحابة، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو أسامة، عن مجاهد (1) عن الشعبي قال: كان حارثة (2) بن بدر التميمي من أهل البصرة، وكان قد أفسد في الأرض وحارب، فكلم رجالا من قريش منهم: الحسن بن علي، وابن عباس، وعبد الله بن جعفر، فكلموا عليًا، فلم يؤمنه. فأتى سعيد بن قيس الهمداني فخلفه في داره، ثم أتى عليًا فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادًا، فقرأ حتى بلغ: { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } قال: فكتب له أمانًا. قال سعيد بن قيس: فإنه حارثة (3) بن بدر.
وكذا رواه ابن جرير من غير وجه، عن مجاهد (4) عن الشعبي، به. وزاد: فقال حارثة (5) بن بدر:
ألا أبلغَن (6) هَمْدان إمَّا لقيتَها ... عَلى النَّأي لا يَسْلمْ عَدو يعيبُها ...
لَعَمْرُ أبِيها إنَّ هَمْدان تَتَّقِي الـ ... إلَه ويَقْضي بالكتاب خَطيبُها (7)
وروى ابن جرير من طريق سفيان الثوري، عن السُّدِّي -ومن طريق أشعث، كلاهما عن عامر الشعبي قال: جاء رجل من مَراد إلى أبي موسى، وهو على الكوفة في إمارة عثمان، رضي الله عنه، بعدما صلى المكتوبة فقال: يا أبا موسى، هذا مقام العائذ بك، أنا فلان بن فلان المرادي، وإني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فسادًا، وإني تبت من قبل أن يُقْدر عليَّ. فقام أبو موسى فقال: إن هذا فلان بن فلان، وإنه كان حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا، وإنه تاب من قبل أن يُقْدَرَ عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير، فإن يك صادقا فسبيل من صدق، وإن يك كاذبًا تدركه ذنوبه، فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله.
ثم قال ابن جرير: حدثني علي، حدثنا الوليد بن مسلم قال: قال الليث، وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني، وهو الأمير عندنا: أن عليًا الأسدي حارب وأخاف (8) السبيل وأصاب الدم والمال، فطلبه الأئمة والعامة، فامتنع ولم يُقْدر عليه، حتى جاء تائبًا، وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر:53]، فوقف عليه فقال: يا عبد الله، أعد قراءتها. فأعادها عليه، فغمد سيفه، ثم جاء تائبًا. حتى قدم المدينة من السحر، فاغتسل، ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح، ثم قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه، فلما أسفروا عرفه الناس، فقاموا (9) إليه، فقال:
__________
(1) في ر، أ: "مجالد".
(2) في ر: "جارية".
(3) في ر: "جارية".
(4) في ر، أ: "مجالد".
(5) في ر، أ: "جارية".
(6) في أ: "بلغا".
(7) تفسير الطبري (10/280).
(8) في ر: "وخاف".
(9) في أ: "وقاموا".

(3/102)


لا سبيل لكم عليّ جئت تائبًا من قبل أن تقدروا علي. فقال أبو هريرة: صدق. وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بن الحكم -وهو أمير على المدينة (1) في زمن معاوية-فقال: هذا عليّ (2) جاء تائبا، ولا سبيل لكم عليه ولا قتل. قال: فتُرك من ذلك كله، قال: وخرج عليّ (3) تائبًا مجاهدًا في سبيل الله في البحر، فلقوا الروم، فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم (4) فاقتحم على الروم في سفينتهم، فهربوا منه إلى شقها الآخر، فمالت به وبهم، فغرقوا جميعًا. (5)
__________
(1) في ر: "في إمرته على المدينة".
(2) في ر: "عليًا".
(3) في ر: "عليًا".
(4) في أ: "سفينتهم".
(5) تفسير الطبري (10/284).

وعند ابن رشد قلت المدون الاسطر السابقة هي تعقيب علي الفقهاء ومنهم ابن رشد

بداية المجتهد - كتاب الحرابة 

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

2*كتاب الحرابة.

@-والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية. وذلك أن هذه الآية عند الجمهور هي في المحاربين. 

 وقال بعض الناس: إنها نزلت في النفر الذين ارتدوا في زمان النبي عليه الصلاة والسلام واستاقوا الإبل، فأمر بهم رسول الله ﷺ فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم، 

=والصحيح أنها في المحاربين لقوله تعالى {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} وليس عدم القدرة عليهم مشترطة في توبة الكفار فبقي أنها في المحاربين.

 

  والنظر في أصول هذا الكتاب ينحصر في خمسة أبواب: أحدها: النظر في الحرابة. 

 والثاني: النظر في المحارب. 

 والثالث: فيما يجب على المحارب. 

 والرابع: في مسقط الواجب عنه وهي التوبة. 

 والخامس: بماذا تثبت هذه الجناية.

3*الباب الأول في النظر في الحرابة.

@-فأما الحرابة، فاتفقوا على أنها إشهار السلاح وقطع السبيل خارج المصر، واختلفوا فيمن حارب داخل المصر، فقال مالك: داخل المصر وخارجه سواء؛ واشترط الشافعي الشوكة، وإن كان لم يشترط العدد، وإنما معنى الشوكة عنده قوة المغالبة، ولذلك يشترط فيها البعد عن العمران، لأن المغالبة إنما تتأتى بالبعد عن العمران؛ وكذلك يقول الشافعي: أنه إذا ضعف السلطان ووجدت المغالبة في المصر كانت محاربة، وأما غير ذلك فهو عنده اختلاس؛ وقال أبو حنيفة: لا تكون المحاربة في المصر.

3*الباب الثاني في النظر في المحارب.

@-فأما المحارب: فهو كل من كان دمه محقونا قبل الحرابة، وهو المسلم والذمي.

3*الباب الثالث فيما يجب على المحارب.

@-وأما ما يجب على المحارب، فاتفقوا على أنه يجب عليه حق لله وحق للآدميين واتفقوا على أن حق الله هو القتل والصلب وقطع الأيدي وقطع الأرجل من خلاف، والنفي على ما نص الله تعالى في آية الحرابة. واختلفوا في هذه العقوبات هل هي على التخيير أو مرتبة على قدر جناية المحارب؛ فقال مالك: إن قتل فلا بد من قتله، وليس للإمام تخيير في قطعه ولا في نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه. وأما إن أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير في نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف. وأما إذا أخاف السبيل فقط فالإمام عنده مخير في قتله أو صلبه أو قطعه أو نفيه. ومعنى التخيير عنده أن الأمر راجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام، فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير، فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه، لأن القطع لا يرفع ضرره. وإن كان لا رأي له وإنما هو ذو قوة وبأس قطعه من خلاف. وإن كان ليس فيه شيء من هاتين الصفتين أخذ بأيسر ذلك فيه وهو الضرب والنفي. وذهب الشافعي وأبو حنيفة وجماعة من العلماء إلى أن هذه العقوبة هي مرتبة على الجنايات المعلوم من الشرع ترتيبها عليه، فلا يقتل من المحاربين إلا من قتل، ولا يقطع إلا من أخذ المال، ولا ينفي إلا من لم يأخذ المال ولا قتل؛ وقال قوم: بل الإمام مخير فيهم على الإطلاق، وسواء قتل أم لم يقتل، أخذ المال أو لم يأخذه. وسبب الخلاف هل حرف "أو" في الآية للتخيير أو للتفصيل على حسب جناياتهم؟ ومالك حمل البعض من المحاربين على التفصيل والبعض على التخيير. واختلفوا في معنى قوله {أو يصلبوا} فقال قوم: إنه يصلب حتى يموت جوعا؛ وقال قوم: بل معنى ذلك أنه يقتل ويصلب معا، وهؤلاء منهم من قال: يقتل أولا ثم يصلب، وهو قول أشهب، وقيل إنه يصلب حيا ثم يقتل في الخشبة، وهو قول ابن القاسم وابن الماجشون؛ ومن رأى أنه يقتل أولا ثم يصلب صلى عليه عنده قبل الصلب؛ ومن رأى أنه يقتل في الخشبة فقال بعضهم: لا يصلى عليه تنكيلا له، وقيل يقف خلف الخشبة ويصلى عليه؛ وقال سحنون: إذا قتل في الخشبة أنزل منها وصلى عليه. وهل يعاد إلى الخشبة بعد الصلاة؟ فيه قولان عنه؛ وذهب أبو حنيفة وأصحابه أنه لا يبقى على الخشبة أكثر من ثلاثة أيام. وأما قوله {أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} فمعناه أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم إن عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى. واختلف إذا لم تكن له اليمنى؛ فقال ابن القاسم: تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى؛ وقال أشهب: تقطع يده اليسرى ورجله اليسرى. واختلف أيضا في قوله أو ينفوا من الأرض، فقيل إن النفي هو السجن، وقيل إن النفي هو أن ينفى من بلد إلى بلد فيسجن فيه إلى أن تظهر توبته، وهو قول ابن القاسم عن مالك، ويكون بين البلدين أقل ما تقصر فيه الصلاة، والقولان عن مالك، وبالأول قال أبو حنيفة؛ وقال ابن الماجشون: معنى النفي هو فرارهم من الإمام لإقامة الحد عليهم، فأما أن ينفى بعد أن يقدر عليه فلا؛ وقال الشافعي: أما النفي فغير مقصود، ولكن إن هربوا شردناهم في البلاد بالاتباع، وقيل هي عقوبة مقصودة، فقيل على هذا ينفى ويسجن دائما، وكلها عن الشافعي؛ وقيل معنى أو ينفوا: أي من أرض الإسلام إلى أرض الحرب. والذي يظهر هو أن النفي تغريبهم عن وطنهم لقوله تعالى {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم} الآية. فسوى بين النفي والقتل، وهي عقوبة معروفة بالعادة من العقوبات كالضرب والقتل، وكل ما يقال فيه سوى هذا فليس معروفا لا بالعادة ولا بالعرف.

3*الباب الرابع في مسقط الواجب عنه من التوبة.

@-وأما ما يسقط الحق الواجب عليه، فإن الأصل فيه قوله تعالى {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} واختلف من ذلك في أربعة مواضع: أحدها: هل تقبل توبته؟. والثاني: إن قبلت فما صفة المحارب الذي تقبل توبته؟ فإن لأهل العلم في ذلك قولين: قول إنه تقبل توبته وهو أشهر لقوله تعالى {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} وقول: إنه لا تقبل توبته، قال ذلك من قال إن الآية لم تنزل في المحاربين. وأما صفة التوبة التي تسقط الحكم فإنهم اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال: أحدها أن توبته تكون بوجهين: أحدهما أن يترك ما هو عليه وإن لم يأت الإمام؛ والثاني أن يلقي سلاحه ويأتي الإمام طائعا، وهو مذهب ابن القاسم. والقول الثاني أن توبته إنما تكون بأن يترك ما هو عليه ويجلس في موضعه ويظهر لجيرانه، وإن أتى الإمام قبل أن تظهر توبته أقام عليه الحد، وهذا هو قول ابن الماجشون. والقول الثالث إن توبته إنما تكون بالمجئ إلى الإمام، وإن ترك ما هو عليه لم يسقط ذلك عنه حكما من الأحكام إن أخذ قبل أن يأتي الإمام، وتحصيل ذلك هو أن توبته قيل إنها تكون بأن يأتي الإمام قبل أن يقدر عليه، وقيل إنها إنما تكون إذا ظهرت توبته قبل القدرة فقط، وقيل تكون بالأمرين جميعا. وأما صفة المحارب الذي تقبل توبته، فإنهم اختلفوا فيها أيضا على ثلاثة أقوال: أحدها أن يلحق بدار الحرب. والثاني أن تكون له فئة. والثالث كيفما كانت له فئة أو لم تكن لحق بدار الحرب أو لم يلحق. واختلف في المحارب إذا امتنع فأمنه الإمام على أن ينزل، فقيل له الأمان ويسقط عنه حد الحرابة، وقيل: لا أمان له لأنه إنما يؤمن المشرك. وأما ما تسقط عنه التوبة، فاختلفوا في ذلك على أربعة أقوال: أحدها أن التوبة إنما تسقط عنه حد الحرابة فقط، ويؤخذ بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الآدميين، وهو قول مالك. والقول الثاني إن التوبة تسقط عنه حد الحرابة وجميع حقوق الله من الزنى والشراب والقطع في السرقة، ويتبع بحقوق الناس من الأموال والدماء إلا أن يعفو أولياء المقتول. والثالث أن التوبة ترفع جميع حقوق الله، ويؤخذ بالدماء وفي الأموال بما وجد بعينه في أيديهم ولا تتبع ذممهم. والقول الرابع إن التوبة تسقط جميع حقوق الله وحقوق الآدميين من مال ودم إلا ما كان من الأموال قائم العين بيده.

3*الباب الخامس بماذا تثبت هذه الجناية.

@-وأما بماذا يثبت هذا الحد فبالإقرار والشهادة، ومالك يقبل شهادة المسلوبين على الذين سلبوهم؛ وقال الشافعي: تجوز شهادة أهل الرفقة عليهم إذا لم يدعوا لأنفسهم ولا لرفقائهم مالا أخذوه، وتثبت عند مالك الحرابة بشهادة السماع.

4*فصل في حكم المحاربين على التأويل.

@-وأما حكم المحاربين على التأويل، فإن محاربهم الإمام، فإذا قدر على واحد منهم لم يقتل إلا إذا كانت الحرب قائمة، فإن مالكا قال: إن للإمام أن يقتله إن رأى ذلك لما يخاف من عونه لأصحابه على المسلمين. وأما إذا أسر بعد انقضاء الحرب، فإن حكمه حكم البدعي الذي لا يدعو إلى بدعته، وقيل يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وقيل يستتاب فإن لم يتب يؤدب ولا يقتل، وأكثر أهل البدع إنما يكفرون بالمآل. واختلف قول مالك في التكفير بالمآل ومعنى التكفير بالمآل: أنهم لا يصرحون بقول هو كفر، ولكن يصرحون بأقوال يلزم عنها الكفر وهو لا يعتقدون ذلك اللزوم. وأما ما يلزم هؤلاء من الحقوق إذا ظفر بهم، فحكمهم إذا تابوا أن لا يقام عليهم حد الحرابة، ولا يؤخذ منهم ما أخذوا من المال إلا أن يوجد بيده فيرد إلى ربه. وإنما اختلفوا هل يقتل قصاصا بمن قتل؟ فقيل يقتل وهو قول عطاء وأصبغ؛ وقال مطرف وابن الماجشون عن مالك: لا يقتل، وبه قال الجمهور، لأن كل من قاتل على التأويل فليس بكافر بتة، أصله قتال الصحابة، وكذلك الكافر بالحقيقة هو المكذب لا المتأول.

3*باب في حكم المرتد.

@-والمرتد إذا ظفر به قبل أن يحارب، فاتفقوا على أن يقتل الرجل لقوله عليه الصلاة والسلام "من بدل دينه فاقتلوه" واختلفوا في قتل المرأة وهل تستتاب قبل أن تقتل؟ فقال الجمهور: تقتل المرأة؛ وقال أبو حنيفة: لا تقتل وشبهها بالكافرة الأصلية، والجمهور اعتمدوا العموم الوارد في ذلك؛ وشذ قوم فقالوا: تقتل وإن راجعت الإسلام وأما الاستتابة فإن مالكا شرط في قتله ذلك على ما راوه عن عمر؛ وقال قوم: لا تقبل توبته، وأما إذا حارب المرتد ثم ظهر عليه فإنه يقتل بالحرابة ولا يستتاب، كانت حرابته بدار الإسلام أو بعد أن لحق بدار الحرب، إلا أن يسلم. وأما إذا أسلم المرتد المحارب بعد أن أخذ أو قبل أن يؤخذ، فإنه يختلف في حكمه، فإن كانت حرابته في دار الحرب فهو عند مالك كالحربي يسلم لاتباعه عليه في شيء مما فعل في حال ارتداده. وأما إن كانت حرابته في دار الإسلام، فإنه يسقط إسلامه عنه حكم الحرابة خاصة، وحكمه فيما جنى حكم المرتد إذا جنى في ردته في دار الإسلام ثم أسلم؛ وقد اختلف أصحاب مالك فيه فقال: حكمه حكم المرتد من اعتبر يوم الجناية؛ وقال: حكمه حكم المسلم من اعتبر يوم الحكم. وقد اختلف في هذا الباب في حكم الساحر؛ فقال مالك: يقتل كفرا؛ وقال قوم: لا يقتل، والأصل أن لا يقتل إلا مع الكفر. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

2*كتاب الأقضية

@-وأصول هذا الكتاب تنحصر في ستة أبواب: أحدها: في معرفة من يجوز قضاؤه. والثاني: في معرفة ما يقضي به. والثالث في معرفة ما يقضي فيه. والرابع: في معرفة من يقضي عليه أو له. والخامس: في كيفية القضاء. والسادس: في وقت القضاء.

3*الباب الأول في معرفة من يجوز قضاؤه.

@-والنظر في هذا الباب فيمن يجوز قضاؤه، وفيما يكون به أفضل. فأما الصفات المشترطة في الجواز: فأن يكون حرا مسلما بالغا ذكرا عاقلا عدلا. وقد قيل في المذهب إن الفسق يوجب العزل ويمضي ما حكم به. واختلفوا في كونه من أهل الاجتهاد؛ فقال الشافعي: يجب أن يكون من أهل الاجتهاد ومثله حكى عبد الوهاب عن المذهب؛ وقال أبو حنيفة: يجوز حكم العامي. قال القاضي: وهو ظاهر ما حكاه جدي رحمة الله عليه في المقدمات عن المذهب لأنه جعل كون الاجتهاد فيه من الصفات المستحبة. وكذلك اختلفوا في اشتراط الذكورة؛ فقال الجمهور: هي شرط في صحة الحكم؛ وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الأموال؛ قال الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكما على الإطلاق في كل شيء؛ قال عبد الوهاب: ولا أعلم بينهم اختلافا في اشتراط الحرية؛ فمن رد قضاء المرأة شبهه بقضاء الإمامة الكبرى، وقاسها أيضا على العبد لنقصان حرمتها؛ ومن أجاز حكمها في الأموال فتشبيها بجواز شهادتها في الأموال؛ ومن رأى حكمها نافذا في كل شيء قال: إن الأصل هو أن كل من يتأتى منه الفصل بين الناس فحكمه جائز إلا ما خصصه الإجماع من الإمامة الكبرى. وأما اشتراط الحرية فلا خلاف فيه، ولا خلاف في مذهب مالك أن السمع والبصر والكلام مشترطة في استمرار ولايته وليس شرطا في جواز ولايته، وذلك أن من صفات القاضي في المذهب ما هي شرط في الجواز، فهذا إذا ولي عزل وفسخ جميع ما حكم به ومنها ما هي شرط في الاستمرار وليست شرطا في الجواز، فهذا إذا ولى القضاء عزل ونفذ ما حكم به إلا أن يكون جورا. ومن هذا الجنس عندهم هذه الثلاث صفات. ومن شرط القضاء عند مالك أن يكون واحدا. والشافعي يجيز أن يكون في المصر قاضيان اثنان إذا رسم لكل واحد منهما ما يحكم فيه، وإن شرط اتفاقهما في كل حكم لم يجز، وإن شرط الاستقلال لكل واحد منهما فوجهان: الجواز والمنع، قال: وإذا تنازع الخصمان في اختيار أحدهما وجب أن يقترعا عنده. وأما فضائل القضاء فكثيرة، وقد ذكرها الناس في كتبهم. وقد اختلفوا في الأمي هل يجوز أن يكون قاضيا؟ والأبين جوازه لكونه عليه الصلاة والسلام أميا؛ وقال قوم: لا يجوز؛ وعن الشافعي القولان جميعا، لأنه يحتمل أن يكون ذلك خاصا به لموضع العجز، ولا خلاف في جواز حكم الإمام الأعظم وتوليته للقاضي شرط في صحة قضائه لا خلاف أعرف فيه. واختلفوا من هذا الباب في نفوذ حكم من رضيه المتداعيان ممن ليس بوال على الأحكام، فقال مالك: يجوز؛ وقال الشافعي: في أحد قوليه لا يجوز؛ وقال أبو حنيفة: يجوز إذا وافق حكمه حكم قاضي البلد.

3*الباب الثاني في معرفة ما يقضي به.

@-وأما فيما يحكم، فاتفقوا أن القاضي يحكم في كل شيء من الحقوق كان حقا لله أو حقا للآدميين، وأنه نائب عن الإمام الأعظم في هذا المعنى وأنه يعقد الأنكحة ويقدم الأوصياء، وهل يقدم الأئمة في المساجد الجامعة؟ فيه خلاف، وكذلك هل يستخلف فيه خلاف في المرض والسفر إلا أن يؤذن له، وليس ينظر في الجباة ولا في غير ذلك من الولاة، وينظر في التحجير على السفهاء عند من يرى التحجير عليهم. ومن فروع هذا الباب هل ما يحكم فيه الحاكم تحلة للمحكوم له به، وإن لم يكن في نفسه حلالا، وذلك أنهم أجمعوا على أن حكم الحاكم الظاهر الذي يعتريه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، وذلك في الأموال خاصة لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار". واختلفوا في حل عصمة النكاح أو عقده بالظاهر الذي يظن الحاكم أنه حق وليس بحق، إذ لا تحل حرام، ولا يحرم حلال بظاهر حكم الحاكم دون أن يكون الباطن كذلك هل يحل ذلك أم لا؟ فقال الجمهور: الأموال والفروج في ذلك سواء، لا يحل حكم الحاكم منها حراما ولا يحرم حلالا، وذلك مثل أن يشهد شاهدا زورا في امرأة أجنبية أنها زوجة لرجل أجنبي ليست له بزوجة؛ فقال الجمهور: لا تحل له وإن أحلها الحاكم بظاهر الحكم؛ وقال أبو حنيفة وجمهور أصحابه: تحل له. فعمدة الجمهور عموم الحديث المتقدم، وشبهة أبو حنيفة أن الحكم باللعان ثابت بالشرع، وقد علم أن أحد المتلاعنين كاذب، واللعان يوجب الفرقة، ويحرم المرأة على زوجها الملاعن لها ويحلها لغيره، فإن كان هو الكاذب فلم تحرم عليه إلا بحكم الحاكم، وكذلك إن كانت هي الكاذبة، لأن زناها لا يوجب فرقتها على قول أكثر الفقهاء؛ والجمهور أن الفرقة ها هنا إنما وقعت عقوبة للعلم بأن أحدهما كاذب.

3*الباب الثالث فيما يكون به القضاء.

@-والقضاء يكون بأربع: بالشهادة، وباليمين، وبالنكول، وبالإقرار، أو بما تركب من هذه ففي هذا الباب أربعة فصول.

4*الفصل الأول في الشهادة.

@-والنظر في الشهود في ثلاثة أشياء: في الصفة، والجنس، والعدد. فأما عدد الصفات المعتبرة في قبول الشاهد بالجملة فهي خمسة: العدالة، والبلوغ، والإسلام، والحرية، ونفي التهمة. وهذه منها متفق عليها، ومنها مختلف فيها. أما العدالة، فإن المسلمين اتفقوا على اشتراطها في قبول شهادة الشاهد لقوله تعالى {ممن ترضون من الشهداء} ولقوله تعالى {وأشهدوا ذوي عدل منكم} واختلفوا فيما هي العدالة؛ فقال الجمهور: هي صفة زائدة على الإسلام، وهو أن يكون ملتزما لواجبات الشرع ومستحباته، مجنبا للمحرمات والمكروهات؛ وقال أبو حنيفة: يكفي في العدالة ظاهر الإسلام، وأن لا تعلم منه جرحة. وسبب الخلاف كما قلنا ترددهم في مفهوم اسم العدالة المقابلة للفسق، وذلك أنهم اتفقوا على أن شهادة الفاسق لا تقبل لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ} الآية. ولم يختلفوا أن الفاسق تقبل شهادته إذا عرفت توبته، إلا من كان فسقه من قبل القذف. فإن أبا حنيفة يقول: لا تقبل شهادته وإن تاب. والجمهور يقولون: تقبل. وسبب الخلاف هل يعود الاستثناء في قوله تعالى {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك} إلى أقرب مذكور إليه، أو على الجملة إلا ما خصصه الإجماع، وهو أن التوبة لا تسقط عنه الحد، وقد تقدم هذا. وأما البلوغ فإنهم اتفقوا على أنه يشترط حيث تشترط العدالة. واختلفوا في شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح وفي القتل، فردها جمهور فقهاء الأمصار لما قلناه من وقوع الإجماع على أن من شرط الشهادة العدالة، ومن شرط العدالة البلوغ، ولذلك ليست في الحقيقة شهادة عند مالك، وإنما هي قرينة حال، ولذلك اشترط فيها أن لا يتفرقوا لئلا يجبنوا. واختلف أصحاب مالك هل تجوز إذا كان بينهم كبير أم لا؟ ولم يختلفوا أنه يشترط فيها العدة المشترطة في الشهادة، واختلفوا هل يشترط فيها الذكورة أم لا؟ واختلفوا أيضا هل تجوز في القتل الواقع بينهم؟ ولا عمدة لمالك في هذا إلا أنه مروي عن ابن الزبير. قال الشافعي: فإذا احتج محتج بهذا قيل له: إن ابن عباس قد ردها، والقرآن يدل على بطلانها؛ وقال بقول مالك ابن أبي ليلى وقوم من التابعين، وإجازة مالك لذلك هو من باب إجازته قياس المصلحة. وأما الإسلام فاتفقوا على أنه شرط في القبول، وأنه لا تجوز شهادة الكافر، إلا ما اختلفوا فيه من جواز ذلك في الوصية في السفر لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم} الآية. فقال أبو حنيفة: يجوز ذلك على الشروط التي ذكرها الله؛ وقال مالك والشافعي: لا يجوز ذلك، ورأوا أن الآية منسوخة. وأما الحرية فإن جمهور فقهاء الأمصار على اشتراطها في قبول الشهادة؛ وقال أهل الظاهر: تجوز شهادة العبد، لأن الأصل إنما هو اشتراط العدالة، والعبودية ليس لها تأثير في الرد، إلا أن يثبت ذلك من كتاب الله أو سنة أو إجماع، وكأن الجمهور رأوا أن العبودية أثر من أثر الكفر فوجب أن يكون لها تأثير في رد الشهادة. وأما التهمة التي سببها المحبة، فإن العلماء أجمعوا على أنها مؤثرة في إسقاط الشهادة. واختلفوا في رد شهادة العدل بالتهمة لموضع المحبة أو البغضة التي سببها العداوة الدنيوية، فقال بردها فقهاء الأمصار، إلا أنهم اتفقوا في مواضع على أعمال التهمة، وفي مواضع على إسقاطها، وفي مواضع اختلفوا فيها فأعملها بعضهم وأسقطها بعضهم. فمما اتفقوا عليه رد شهادة الأب لابنه والابن لأبيه، وكذلك الأم لابنها وابنها لها. ومما اختلفوا في تأثير التهمة في شهادتهم شهادة الزوجين أحدهما للآخر، فإن مالكا ردها وأبا حنيفة، وأجازها الشافعي وأبو ثور والحسن؛ وقال ابن أبي ليلى: تقبل شهادة الزوج لزوجه ولا تقبل شهادتها له، وبه قال النخعي. ومما اتفقوا عليه على إسقاط التهمة فيه شهادة الأخ لأخيه مالم يدفع بذلك عن نفسه عارا على ما قال مالك، ومالم يكن منقطعا إلى أخيه يناله بره وصلته، ما عدا الأوزاعي فإنه قال: لا تجوز. ومن هذا الباب اختلافهم في قبول شهادة العدو على عدوه؛ فقال مالك والشافعي: لا تقبل؛ وقال أبو حنيفة: تقبل. فعمدة الجمهور في رد الشهادة بالتهمة ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين" وما خرجه أبو داود من قوله عليه الصلاة والسلام "لا تقبل شهادة بدوي على حضري" لقلة شهود البدوي ما يقع في المصر، فهذه هي عمدتهم من طريق السماع. وأما من طريق المعنى فلموضع التهمة، وقد أجمع الجمهور على أن تأثيرها في الأحكام الشرعية مثل اجتماعهم على أنه لا يرث القاتل المقتول، وعلى وريث المبتوتة في المرض وإن كان فيه خلاف. وأما الطائفة الثانية وهم شريح وأبو ثور وداود فإنهم قالوا: تقبل شهادة الأب لابنه فضلا عمن سواه إذا كان الأب عدلا: وعمدتهم قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} والأمر بالشيء يقتضي إجزاء المأمور به إلا ما خصصه الإجماع من شهادة المرء لنفسه. وأما من طريق النظر، فإن لهم أن يقولوا رد الشهادة بالجملة إنما هو لموضع اتهام الكذب، وهذه التهمة إنما اعتملها الشرع في الفاسق ومنع إعمالها في العادل، فلا تجتمع العدالة مع التهمة. وأما النظر في العدد والجنس، فإن المسلمين اتفقوا على أنه لا يثبت الزنى بأقل من أربعة عدول ذكور، واتفقوا على أنه تثبت جميع الحقوق ما عدا الزنى بشاهدين عدلين ذكرين ما خلا الحسن البصري، فإنه قال: لا تقبل بأقل من أربعة شهداء تشبيها بالرجم، وهذا ضعيف لقوله سبحانه {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} وكل متفق أن الحكم يجب بالشاهدين من غير يمين المدعي، إلا ابن أبي ليلى فإنه قال: لا بد من يمينه. واتفقوا على أنه تثبت الأموال بشاهد عدل ذكر وامرأتين لقوله تعالى {فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} واختلفوا في قبولهما في الحدود، فالذي عليه الجمهور أنه لا تقبل شهادة النساء في الحدود لا مع رجل ولا مفردات؛ وقال أهل الظاهر: تقبل إذا كان معهن رجل وكان النساء أكثر من واحدة في كل شيء على ظاهر الآية؛ وقال أبو حنيفة: تقبل في الأموال وفيما عدا الحدود من أحكام الأبدان مثل الطلاق والرجعة والنكاح والعتق؛ ولا تقبل عند مالك في حكم من أحكام البدن: واختلف أصحاب مالك في قبولهن في حقوق الأبدان المتعلقة بالمال، مثل الوكالات والوصية التي لا تتعلق إلا بالمال فقط؛ فقال مالك وابن القاسم وابن وهب: يقبل فيه شاهد وامرأتان؛ وقال أشهب وابن الماجشون: لا يقبل فيه إلا رجلان. وأما شهادة النساء مفردات، أعني النساء دون الرجال فهي مقبولة عند الجمهور في حقوق الأبدان التي لا يطلع عليها الرجال غالبا مثل الولادة والاستهلال وعيوب النساء. ولا خلاف في شيء من هذا إلا في الرضاع، فإن أبا حنيفة قال: لا تقبل فيه شهادتهن إلا مع الرجال، لأنه عنده من حقوق الأبدان التي يطلع عليها الرجال والنساء. والذين قالوا بجواز شهادتهن مفردات في هذا الجنس اختلفوا في العدد المشترط في ذلك منهن؛ فقال مالك: يكفي في ذلك امرأتان، قيل مع انتشار الأمر، وقيل إن لم ينتشر؛ وقال الشافعي: ليس يكفي في ذلك أقل من أربع، لأن الله عز وجل قد جعل عديل الشاهد الواحد امرأتين، واشترط الاثنينية؛ وقال قوم: لا يكتفي بذلك أقل من ثلاث وهو قول لا معنى له؛ وأجاز أبو حنيفة شهادة المرأة فيما بين السرة والركبة، وأحسب أن الظاهرية أو بعضهم لا يجيزون شهادة النساء مفردات في كل شيء كما يجيزون شهادتهن مع الرجال في كل شيء وهو الظاهر. وأما شهادة المرأة الواحدة بالرضاع، فإنهم أيضا اختلفوا فيها لقوله عليه الصلاة والسلام في المرأة الواحدة التي شهدت بالرضاع "كيف وقد أرضعتكما" وهذا ظاهره الإنكار، ولذلك لم يختلف قول مالك في أنه مكروه.

4*الفصل الثاني.

@-وأما الأيمان، فإنهم اتفقوا على أنها تبطل بها الدعوى عن المدعي عليه إذا لم تكن للمدعي بينة. واختلفوا هل يثبت بها حق المدعي؛ فقال مالك: يثبت بها حق المدعي في إثبات ما أنكره المدعي عليه وإبطال ما ثبت عليه من الحقوق إذا ادعى الذي ثبت عليه إسقاطه في الموضع الذي يكون المدعي أقوى سببا وشبهة من المدعى عليه؛ وقال غيره لا تثبت للمدعي باليمين دعوى سواء كانت في إسقاط حق عن نفسه قد ثبت عليه، أو إثبات حق أنكره فيه خصمه. وسبب اختلافهم ترددهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" هل ذلك عام في كل مدعى عليه ومدع، أم إنما خص المدعي بالبينة والمدعى عليه باليمين، لأن المدعي في الأكثر هو أضعف شبهة من المدعى عليه والمدعى عليه بخلافه؟ فمن قال هذا الحكم عام في كل مدع ومدعى عليه ولم يرد بهذا العموم خصوصا قال: لا يثبت باليمين حق، ولا يسقط به حق ثبت؛ ومن قال إنما خص المدعى عليه بهذا الحكم من جهة ما هو أقوى شبهة قال: إذا اتفق أن يكون موضع تكون فيه شبهة المدعي أقوى يكون القول قوله، واحتج هؤلاء بالمواضع التي اتفق الجمهور فيها على أن القول فيها قول المدعي مع يمينه، مثل دعوى التلف في الوديعة وغير ذلك إن وجد شيء بهذه الصفة، ولأولئك أن يقولوا: الأصل ما ذكرنا إلا ما خصصه الاتفاق، وكلهم مجتمعون على أن اليمين التي تسقط الدعوى أو تثبتها هي اليمين بالله، الذي لا إله إلا هو، وأقاويل فقهاء الأمصار في صفتها متقاربة؛ وهي عند مالك: بالله الذي لا إله إلا هو، لا يزيد عليها، ويزيد الشافعي الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية. وأما هل تغلظ بالمكان؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فذهب مالك إلى أنها تغلظ بالمكان وذلك في قدر مخصوص، وكذلك الشافعي. واختلفوا في القدر، فقال مالك: إن من ادعى عليه بثلاثة دراهم فصاعدا وجبت عليه اليمين في المسجد الجامع، فإن كان مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، فلا خلاف أنه يحلف على المنبر، وإن كان في غيره من المساجد ففي ذلك روايتان: إحداهما حيث اتفق من المسجد، والأخرى عند المنبر. وروى عنه ابن القاسم أنه يحلف فيما له بال في الجامع ولم يحدد؛ وقال الشافعي: يحلف في المدينة عند المنبر، وفي مكة بين الركن والمقام، وكذلك عنده في كل بلد يحلف عند المنبر، والنصاب عنده في ذلك عشرون دينارا؛ وقال داود: يحلف على المنبر في القليل والكثير؛ وقال أبو حنيفة: لا تغلظ اليمين بالمكان. وسبب الخلاف هل التغليظ الوارد في الحلف على منبر النبي ﷺ يفهم منه وجوب الحلف على المنبر أم لا؟ فمن قال إنه يفهم منه ذلك قال: لأنه لو لم يفهم منه ذلك لم يكن للتغليظ في ذلك معنى؛ ومن قال للتغليظ معنى غير الحكم بوجوب اليمين على المنبر قال: لا يجب الحلف على المنبر. والحديث الوارد في التغليظ هو حديث جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله ﷺ قال "من حلف على منبري آثما تبوأ مقعده من النار" واحتج هؤلاء بالعمل فقالوا: هو عمل الخلفاء، قال الشافعي: لم يزل عليه العمل بالمدينة وبمكة. قالوا: ولو كان التغليظ لا يفهم منه إيجاب اليمين في الموضع المغلظ لم يكن له فائدة إلا تجنب اليمين في ذلك الموضع. قالوا: وكما أن التغليظ الوارد في اليمين مجردا مثل قوله عليه الصلاة والسلام "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار" يفهم منه وجوب القضاء باليمين، وكذلك التغليظ الوارد في المكان. وقال الفريق الآخر: لا يفهم من التغليظ باليمين وجوب الحكم باليمين، وإذ لم يفهم من تغليظ اليمين وجوب الحكم باليمين لم يفهم من تغليظ اليمين بالمكان وجوب اليمين بالمكان وليس فيه إجماع من الصحابة، والاختلاف فيه مفهوم من قضية زيد بن ثابت؛ وتغلظ بالمكان عند مالك في القسامة واللعان، وكذلك بالزمان لأنه قال في اللعان أن يكون بعد صلاة العصر على ما جاء في التغليظ فيمن حلف بعد العصر، وأما القضاء باليمين مع الشاهد فإنهم اختلفوا فيه؛ فقال مالك والشافعي وأحمد وداود وأبو ثور والفقهاء السبعة المدنيون وجماعة: يقضى باليمين مع الشاهد في الأموال. وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وجمهور أهل العراق: لا يقضى باليمين مع الشاهد في شيء، وبه قال الليث من أصحاب مالك. وسبب الخلاف في هذا الباب تعارض السماع. أما القائلون به فإنهم تعلقوا في ذلك بآثار كثيرة، منها حديث ابن عباس، وحديث أبي هريرة، وحديث زيد ابن ثابت، وحديث جابر، إلا أن الذي خرج مسلم منها حديث ابن عباس، ولفظه "إن رسول الله ﷺ قضى باليمين مع الشاهد" خرجه مسلم ولم يخرجه البخاري. وأما مالك فإنما اعتمد مرسله في ذلك عن جعفر بن محمد عن أبيه "أن رسول الله ﷺ قضى باليمين مع الشاهد" لأن العمل عنده بالمراسيل واجب. وأما السماع المخالف لها فقوله تعالى {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} قالوا: وهذا يقتضي الحصر فالزيادة عليه نسخ، ولا ينسخ القرآن بالسنة الغير متواترة، وعند المخالف أنه ليس بنسخ بل زيادة لا تغير حكم المزيد. وأما من السنة فما خرجه البخاري ومسلم عن الأشعث بن قيس قال "كان بيني وبين رجل خصومة في شيء، فاختصمنا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: "شاهداك أو يمينه" فقلت: إذا يحلف ولا يبالي، فقال النبي ﷺ" من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان" قالوا: فهذا منه عليه الصلاة والسلام حصر للحكم ونقض لحجة كل واحد من الخصمين، ولا يجوز عليه ﷺ ألا يستوفي أقسام الحجة للمدعي. والذين قالوا باليمين مع الشاهد هم على أصلهم في أن اليمين هي حجة أقوى المتداعيين شبهة، وقد قويت ههنا حجة المدعي بالشاهد كما قويت في القسامة. وهؤلاء اختلفوا في القضاء باليمين مع المرأتين، فقال مالك: يجوز لأن المرأتين قد أقيمتا مقام الواحد؛ وقال الشافعي: لا يجوز له، لأنه إنما أقيمت مقام الواحد مع الشاهد الواحد لا مفردة ولا مع غيره، وهل يقتضي باليمين في الحدود التي هي حق للناس مثل القذف والجراح؟ فيه قولان في المذهب.

4*الفصل الثالث.

@-وأما ثبوت الحق على المدعى عليه بنكوله، فإن الفقهاء أيضا اختلفوا في ذلك، فقال مالك والشافعي وفقهاء أهل الحجاز وطائفة من العراقيين: إذا نكل المدعى عليه لم يجب للمدعي شيء بنفس النكول، إلا أن يحلف المدعي أو يكون له شاهد واحد؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه وجمهور الكوفيين: يقضي للمدعي على المدعى عليه بنفس النكول وذلك في المال بعد أن يكرر عليه اليمين ثلاثا وقلب اليمين عند مالك يكون في الموضع الذي يقبل فيه شاهد وامرأتان، وشاهد ويمين؛ وقلب اليمين عند الشافعي يكون في كل موضع يجب فيه اليمين؛ وقال ابن أبي ليلى: أردها في غير التهمة ولا أردها في التهمة. وعند مالك في يمين التهمة هل تنقلب أم لا؟ قولان. فعمدة من رأى أن تنقلب اليمين ما رواه مالك من "أن رسول الله ﷺ رد في القسامة اليمين على اليهود بعد أن بدأ بالأنصار" ومن حجة مالك أن الحقوق عنده إنما تثبت بشيئين: إما بيمين وشاهد، وإما بنكول وشاهد، وإما بنكول ويمين، أصل ذلك عنده اشتراط الاثنينية في الشهادة؛ وليس يقتضي عند الشافعي بشاهد ونكول. وعمدة من قضى بالنكول أن الشهادة لما كانت لإثبات الدعوى، واليمين لإبطالها وجب إن نكل عن اليمين أن تحقق عليه الدعوى. قالوا: وأما نقلها من المدعى عليه إلى المدعي فهو خلاف للنص، لأن اليمين قد نص على أنها دلالة المدعى عليه، فهذه أصول الحجج التي يقضي بها القاضي. ومما اتفقوا عليه في هذا الباب أنه يقضي القاضي بوصول كتاب قاض آخر إليه، لكن هذا عند الجمهور مع اقتران الشهادة به، أعني إذا أشهد القاضي الذي يثبت عنده الحكم شاهدين عدلين أن الحكم ثابت عنده، أعني المكتوب في الكتاب الذي أرسله إلى القاضي الثاني، فشهدا عند القاضي الثاني أنه كتابه، وأنه أشهدهم بثبوته، وقد قيل إنه يكتفي فيه بخط القاضي، وأنه كان به العمل الأول. واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة إن أشهدهم على الكتابة ولم يقرأه عليهم؛ فقال مالك: يجوز؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز ولا تصح الشهادة. واختلفوا في العفاص والوكاء هل يقضي به في اللقطة دون شهادة، أم لا بد في ذلك من شهادة؟ فقال مالك: يقضي بذلك؛ وقال الشافعي: لا بد من الشاهدين، وكذلك قال أبو حنيفة؛ وقول مالك هو أجرى على نص الأحاديث، وقول الغير أجرى على الأصول. ومما اختلفوا فيه من هذا الباب قضاء القاضي بعلمه، وذلك أن العلماء أجمعوا على أن القاضي يقضي بعلمه في التعديل والتجريح، وأنه إذا شهد الشهود بضد علمه لم يقض به، وأنه يقضي بعلمه في إقرار الخصم وإنكاره، إلا مالكا فإنه رأى أن يحضر القاضي شاهدين لإقرار الخصم وإنكاره، وكذلك أجمعوا على أنه يقضي بعلمه في تغليب حجة أحد الخصمين على حجة الآخر إذا لم يكن في ذلك خلاف. واختلفوا إذا كان في المسألة خلاف، فقال قوم: لا يرد حكمه إذا لم يخرق الإجماع؛ وقال قوم إذا كان شاذا؛ وقال قوم: يرد إذا كان حكما بقياس، وهنالك سماع من كتاب أو سنة تخالف القياس وهو الأعدل، إلا أن يكون القياس تشهد له الأصول والكتاب محتمل والسنة غير متواترة، وهذا هو الوجه الذي ينبغي أن يحمل عليه من غلب القياس من الفقهاء في موضع من المواضع على الأثر مثل ما ينسب إلى أبي حنيفة باتفاق، وإلى مالك باختلاف. واختلفوا هل يقضي بعلمه على أحد دون بينة أو إقرار، أو لا يقضي إلا بالدليل والإقرار؟ فقال مالك وأكثر أصحابه: لا يقضي إلا بالبينات أو الإقرار، وبه قال أحمد وشريح؛ وقال الشافعي والكوفي وأبو ثور وجماعة: للقاضي أن يقضي بعلمه، ولكلا الطائفتين سلف من الصحابة والتابعين، وكل واحد منهما اعتمد في قوله السماع والنظر. أما عمدة الطائفة التي منعت من ذلك، فمنها حديث معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة "أن النبي ﷺ بعث أبا جهم على صدقة فلاحاه رجل في فريضة، فوقع بينهما شجاج، فأتوا النبي ﷺ فأخبروه، فأعطاهم الأرش، ثم قال عليه الصلاة والسلام "إني خاطب الناس ومخبرهم أنكم قد رضيتم، أرضيتم؟ قالوا: نعم، فصعد رسول الله ﷺ المنبر، فخطب الناس وذكر القصة، وقال: أرضيتم؟ قالوا: لا، فهم بهم المهاجرون، فنزل رسول الله ﷺ فأعطاهم، ثم صعد المنبر فخطب، ثم قال: أرضيتم؟ قالوا: نعم، قال: فهذا بين في أنه لم يحكم عليهم بعلمه ﷺ. وأما من جهة المعنى فللتهمة اللاحقة في ذلك للقاضي. وقد أجمعوا أن للتهمة تأثيرا في الشرع: منها أن لا يرث القاتل عمدا عند الجمهور من قتله. ومنها ردهم شهادة الأب لابنه، وغير ذلك مما هو معلوم من جمهور الفقهاء. وأما عمدة من أجاز ذلك، أما من طريق السماع فحديث عائشة في قصة هند بنت عتبة ابن ربيعة مع زوجها أبي سفيان بن حرب حين قال لها عليه الصلاة والسلام وقد شكت أبا سفيان "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" دون أن يسمع قول خصمها. وأما من طريق المعنى فإنه إذا كان له أن يحكم بقول الشاهد الذي هو مظنون في حقه فأحرى أن يحكم بما هو عنده يقين. وخصص أبو حنيفة وأصحابه ما يحكم فيه الحاكم بعلمه فقالوا: لا يقضي بعلمه في الحدود ويقضي في غير ذلك؛ وخصص أيضا أبو حنيفة العلم الذي يقضي به فقال: يقضي بعلمه الذي علمه في القضاء، ولا يقضي بما علمه قبل القضاء. وروي عن عمر أنه قضى بعلمه على أبي سفيان لرجل من بني مخزوم. وقال بعض أصحاب مالك: يقضي بعلمه في المجلس أعني بما يسمع وإن لم يشهد عنده بذلك، وهو قول الجمهور كما قلنا، وقول المغيرة هو أجرى على الأصول، لأن الأصل في هذه الشريعة لا يقضي إلا بدليل وإن كانت غلبة الظن الواقعة به أقوى من الظن الواقع بصدق الشاهدين.

4*الفصل الرابع في الإقرار.

@-وأما الإقرار إذا كان بينا فلا خلاف في وجوب الحكم به، وإنما النظر فيمن يجوز إقراره ممن لا يجوز، وإذا كان الإقرار محتملا رفع الخلاف. أما من يجوز إقراره ممن لا يجوز فقد تقدم. وأما عدد الإقرارات الموجبة فقد تقدم في باب الحدود، ولا خلاف بينهم أن الإقرار مرة واحدة عامل في المال. وأما المسائل التي اختلفوا فيها من ذلك فهو من قبل احتمال اللفظ، وأنت إن أحببت أن تقف عليه فمن كتاب الفروع.

3*الباب الرابع. [على من يقضي، ولمن يقضي]

@-وأما على من يقضي؟ ولمن يقضي؟ فإن الفقهاء اتفقوا على أنه يقضي لمن ليس يتهم عليه. واختلفوا في قضائه لمن يتهم عليه؛ فقال مالك: لا يجوز قضاؤه على من لا تجوز عليه شهادته؛ وقال قوم: يجوز لأن القضاء يكون بأسباب معلومة وليس كذلك الشهادة. وأما على من يقضي؟ فإنهم اتفقوا على أنه يقضي على المسلم الحاضر. واختلفوا في الغائب وفي القضاء على أهل الكتاب فأما القضاء على الغائب، فإن مالكا والشافعي قالا: يقضي على الغائب البعيد الغيبة؛ وقال أبو حنيفة: لا يقضي على الغائب أصلا، وبه قال ابن الماجشون؛ وقد قيل عن مالك لا يقضي في الرباع المستحقة. فعمدة من رأى القضاء حديث هند المتقدم ولا حجة فيه، لأنه لم يكن غائبا عن المصر. وعمدة من لم ير القضاء قوله عليه الصلاة والسلام "فإنما أقضي له بحسب ما أسمع" وما رواه أبو داود وغيره عن علي أن النبي ﷺ قال له حين أرسله إلى اليمن "لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر" وأما الحكم على الذمي، فإن في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها أنه يقضي بينهم إذا ترافعوا إليه بحكم المسلمين، وهو مذهب أبي حنيفة؛ والثاني أنه مخير، وبه قال مالك، وعن الشافعي القولان؛ والثالث أنه واجب على الإمام أن يحكم بينهم وإن لم يتحاكموا إليه. فعمدة من اشترط مجيئهم للحاكم قوله تعالى {فإن جاؤك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم} وبهذا تمسك من رأى الخيار، ومن أوجبه اعتمد قوله تعالى {وأن احكم بينهم} ورأى أن هذا ناسخ لآية التخيير. وأما من رأى وجوب الحكم عليهم وإن لم يترافعوا، فإنه احتج بإجماعهم على أن الذمي إذا سرق قطعت يده.

3*الباب الخامس. [كيف يقضي القاضي]

@-وأما كيف يقضي القاضي، فإنهم أجمعوا على أنه واجب عليه أن يسوي بين الخصمين في المجلس وألا يسمع من أحدهما دون الآخر، وأن يبدأ بالمدعي فيسأله البينة إن أنكر المدعى عليه. وإن لم يكن له بينة فإن كان في مال وجبت اليمين على المدعى عليه باتفاق، وإن كانت في طلاق أو نكاح أو قتل وجبت عند الشافعي بمجرد الدعوى؛ وقال مالك: لا تجب إلا مع شاهد؛ وإذا كان في المال فهل يحلفه المدعى عليه بنفس الدعوى أو لا يحلفه حتى يثبت المدعي الخلطة؟ اختلفوا في ذلك، فقال جمهور فقهاء الأمصار: اليمين تلزم المدعى عليه بنفس الدعوى لعموم قوله عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عباس "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" وقال مالك: لا تجب اليمين إلا بالمخالطة؛ وقال بها السبعة من فقهاء المدينة. وعمدة من قال بها النظر إلى المصلحة لكيلا يتطرق الناس بالدعاوي إلى تعنيت بعضهم بعضا، وإذاية بعضهم بعضا، ومن هنا لم ير مالك إحلاف المرأة زوجها إذا ادعت عليه الطلاق إلا أن يكون معها شاهد، وكذلك إحلاف العبد سيده في دعوى العتق عليه، والدعوى لا تخلو أن تكون في شيء في الذمة أو في شيء بعينه، فإن كانت الذمة فادعى المدعى عليه البراءة من تلك الدعوى وأن له بينة سمعت منه بينته باتفاق. وكذلك إن كان اختلاف في عقد وقع في عين مثل بيع أو غير ذلك. وأما إن كانت الدعوى في عين وهو الذي يسمى استحقاقا، فإنهم اختلفوا هل تسمع بينة المدعى عليه؟ فقال أبو حنيفة: لا تسمع بينة المدعى عليه إلا في النكاح وما لا يتكرر؛ وقال غيره: لا تسمع في شيء؛ وقال مالك والشافعي: تسمع أعني في أن يشهد للمدعي بينة المدعى عليه أنه مال له وملك. فعمدة من قال لا تسمع أن الشرع قد جعل البينة في حيز المدعي واليمين في حيز المدعى عليه، فوجب أن لا ينقلب الأمر، وكان ذلك عندهما عبادة. وسبب الخلاف: هل تفيد بينة المدعى عليه معنى زائدا على كون الشيء المدعى فيه موجودا بيده، أم ليست تفيد ذلك؟ فمن قال: لا تفيد معنى زائدا قال: لا معنى لها؛ ومن قال تفيد: اعتبرها. فإذا باعتبار بينة المدعى عليه فوقع التعارض بين البينتين ولم تثبت إحداهما أمرا زائدا مما لا يمكن أن يتكرر في ملك ذي الملك؛ فالحكم عند مالك أن يقضي بأعدل البينتين ولا يعتبر الأكثر؛ وقال أبو حنيفة: بينة المدعي أولى على أصله ولا تترجح عنده بالعدالة كما لا تترحج عند مالك بالعدد، وقال الأوزاعي: تترجح بالعدد وإذا تساوت في العدالة فذلك عند مالك كلا بينة يحلف المدعى عليه، فإن نكل حلف المدعي ووجب الحق، لأن يد المدعي عليه شاهدة له، ولذلك جعل دليله أضعف الدليلين: أعني اليمين. وأما إذا أقر الخصم فإن كان المدعى فيه عينا فلا خلاف أنه يدفع إلى مدعيه. وأما إذا كان مالا في الذمة، فإنه يكلف المقر غرمه فإن ادعى العدم حبسه القاضي عند مالك حتى يتبين عدمه، إما بطول السجن والبينة إن كان متهما فإذا لاح عسره خلي سبيله لقوله تعالى {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} وقال قوم: يؤاجره، وبه قال أحمد. وروي عن عمر بن عبد العزيز، وحكي عن أبي حنيفة أن لغرمائه أن يدوروا معه حيث دار، ولا خلاف أن البينة إذا جرحها المدعى عليه أن الحكم يسقط إذا كان التجريح قبل الحكم، وإن كان بعد الحكم لم ينتقض عند مالك؛ وقال الشافعي: ينتقض وأما إن رجعت البينة عن الشهادة، فلا يخلو أن يكون ذلك قبل الحكم أو بعده، فإن كان قبل الحكم فالأكثر أن الحكم لا يثبت؛ وقال بعض الناس: يثبت. وإن كان بعد الحكم فقال مالك: يثبت الحكم؛ وقال غيره: لا يثبت الحكم، وعند مالك أن الشهداء يضمنون ما أتلفوا بشهادتهم، فإن كان مالا ضمنوه على كل حال؛ قال عبد الملك: لا يضمنون في الغلط؛ وقال الشافعي: لا يضمنون في المال. وإن كان دما فإن ادعوا الغلط ضمنوا الدية، وإن أقروا أقيد منهم على قول أشهب، ولم يقتص منهم على قول ابن القاسم.

3*الباب السادس. [متي يقضي]

@-وأما متى يقضي؟ فمنها ما يرجع إلى حال القاضي في نفسه، ومنها ما يرجع إلى وقت إنفاذ الحكم وفصله، ومنها ما يرجع إلى وقت توقيف المدعى فيه وإزالة اليد عنه إذا كان عينا. فأما متى يقضي القاضي؟ فإذا لم يكن مشغول النفس لقوله عليه الصلاة والسلام "لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان" ومثل هذا عند مالك أن يكون عطشانا أو جائعا أو خائفا أو غير ذلك من العوارض التي تعوقه عن الفهم، لكن إذا قضى في حال من هذه الأحوال بالصواب، فاتفقوا فيما أعلم على أنه ينفذ حكمه، ويحتمل أن يقال: لا ينفذ فيما وقع عليه النص وهو الغضبان، لأن النهي يدل على فساد المنهى عنه. وأما متى ينفذ الحكم عليه فبعد ضرب الأجل والإعذار إليه، ومعنى نفوذ هذا، هو أن يحق حجة المدعي أو يدحضها وهل له أن يسمع حجة بعد الحكم؟ فيه اختلاف من قول مالك، والأشهر أنه يسمع فيما كان حقا لله مثل الإحباس والعتق ولا يسمع في غير ذلك. وقيل لا يسمع بعد نفوذ الحكم وهو الذي يسمى التعجيز قيل لا يسمع منهما جميعا، وقيل بالفرق بين المدعي والمدعى عليه، وهو ما إذا أقر بالعجز. وأما وقت التوقيف فهو عند الثبوت وقبل الإعذار، وهو إذا لم يرد الذي استحق الشيء من يده أن يخاصم فله أن يرجع بثمنه على البائع، وإن كان يحتاج في رجوعه به على البائع أن يوافقه عليه فيثبت شراءه منه إن أنكره، أو يعترف له به إن أقره فللمستحق من يده أن يأخذ الشيء من المستحق ويترك قيمته بيد المستحق؛ وقال الشافعي: يشتريه منه، فإن عطب في يد المستحق فهو ضامن له، وإن عطب في أثناء الحكم: ممن ضمانه؟ اختلف في ذلك، فقيل إن عطب بعد الثبات فضمانه من المستحق وقيل إنما يضمن المستحق بعد الحكم؛ وأما بعد الثبات وقبل الحكم فهو من المستحق منه. قال القاضي رضي الله عنه: وينبغي أن تعلم أن الأحكام الشرعية تنقسم قسمين: قسم يقضي به الحكام وجل ما ذكرناه في هذا الكتاب هو داخل في هذا القسم، وقسم لا يقضي به الحكام، وهذا أكثره هو داخل في المندوب إليه. وهذا الجنس من الأحكام هو مثل رد السلام وتشميت العاطس وغير ذلك مما يذكره الفقهاء في أواخر كتبهم التي يعرفونها بالجوامع. ونحن فقد رأينا أن نذكر أيضا من هذا الجنس المشهور منه إن شاء الله تعالى. وما ينبغي قبل هذا أن تعلم أن السنن المشروعة العملية المقصود منها هو الفضائل النفسانية، فمنها ما يرجع إلى تعظيم من يجب تعظيمه وشكر من يجب شكره، وفي هذا الجنس تدخل العبادات، وهذه هي السنن الكرامية. ومنها ما يرجع إلى الفضيلة التي تسمى عفة وهذه صنفان: السنن الواردة في المطعم والمشرب، والسنن الواردة في المناكح. ومنها ما يرجع إلى طلب العدل والكف عن الجور. فهذه هي أجناس السنن التي تقتضي العدل في الأموال، والتي تقتضي العدل في الأبدان، وفي هذا الجنس يدخل القصاص والحروب والعقوبات، لأن هذه كلها إنما يطلب بها العدل. ومنها السنن الواردة في الأعراض. ومنها السنن الواردة في جميع الأموال وتقويمها، وهي التي يقصد بها طلب الفضيلة التي تسمى السخاء، وتجنب الرذيلة التي تسمى البخل. والزكاة تدخل في هذا الباب من وجه، وتدخل أيضا في باب الاشتراك في الأموال، وكذلك الأمر في الصدقات. ومنها سنن واردة في الاجتماع الذي هو شرط في حياة الإنسان وحفظ فضائله العملية والعلمية، وهي المعبر عنها بالرياسة، ولذلك لزم أيضا أن تكون سنن الأئمة والقوام بالدين. ومن السنة المهمة في حين الاجتماع السنن الواردة في المحبة والبغضة والتعاون على إقامة هذه السنن، وهو الذي يسمى: النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، وهي المحبة والبغضة: أي الدينية التي تكون إما من قبل الإخلال بهذه السنن، وإما من قبل سوء المعتقد في الشريعة. وأكثر ما يذكر الفقهاء في الجوامع من كتبهم ما شذ عن الأجناس الأربعة التي هي فضيلة العفة وفضيلة العدل وفضيلة الشجاعة وفضيلة السخاء، والعبادة التي هي كالشروط في تثبيت هذه الفضائل. كمل كتاب الأقضية، وبكماله كمل جميع الديوان، والحمد لله كثيرا على ذلك كما هو أهله. ترجمة المؤلف منقولة من الديباج. هو محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد (الشهير بالحفيد) من أهل قرطبة وقاضي الجماعة بها، يكنى أبا الوليد، روى عن أبيه أبي القاسم استظهر عليه الموطأ حفظا، وأخذ الفقه عن أبي القاسم بن بشكوال وأبي مروان بن مسرة وأبي بكر بن سمحون وأبي جعفر بن عبد العزيز وأبي عبد الله المازري. وأخذ علم الطب عن أبي مروان بن جريؤل، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية، ودرس الفقه والأصول وعلم الكلام. ولم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا، وكان على شرفه أشد الناس تواضعا وأخفضهم جناحا، وعني بالعلم من صغره إلى كبره، حتى حكى أنه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه، وليلة بنائه على أهله، وأنه سود فيما صنف وقيد وألف وهذب واختصر نحو من عشرة آلاف ورقة. ومال إلى علوم الأوائل، وكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره، وكان يفزع إلى فتياه في الطب كما يفزع إلى فتياه في الفقه مع الحظ الوافر من الإعراب والآداب والحكمة. حكي عنه أنه كان يحفظ شعر المتنبي وحبيب. وله تآليف جليلة الفائدة، منها كتاب "بداية المجتهد، ونهاية المقتصد" في الفقه (هو هذا الكتاب الذي أبان عن مقدار معرفة الرجل بالشريعة، فإنه ذكر فيه أقوال فقهاء الأمة من الصحابة فمن بعدهم، مع بيان مستند كل من الكتاب والسنة، والقياس مع الترجيح، وبيان الصحيح، فخاض في بحر عجاج ملتطم الأمواج، واهتدى فيه للسلوك، ونظم جواهره في صحائف تلك السلوك، فرحمه الله رحمة واسعة) ذكر فيه أسباب الخلاف وعلل وجهه، فأفاد وأمتع به، ولا يعلم في وقته أنفع منه ولا أحسن سياقا، وكتاب الكليات في الطب، ومختصر المستصفى في الأصول، وكتابه في العربيه الذي وسمه بالضروري، وغير ذلك تنيف على ستين تأليفا، وحمدت سيرته في القضاء بقرطبة، وتأثلت له عند الملوك وجاهة عظيمة، ولم يصرفها في ترفيع حال ولا جمع مال، إنما قصرها على مصالح أهل بلده خاصة ومنافع أهل الأندلس. وحدث وسمع منه أبو بكر بن جهور وأبو محمد بن حوط الله وأبو الحسن بن سهل ابن مالك وغيرهم. وتوفي سنة خمس وتسعين وخمسمائة، ومولده سنة عشرين وخمسمائة، قبل وفاة القاضي جده أبي الوليد بن رشد بشهر. 

 

 

 

 

 


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعَرَّف على الإســلام د. منقذ بن محمود السقار

هدية إلى كل باحث عن الحق من غير المسلمين تعَرَّف على الإســلام د. منقذ بن محمود السقار مقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسل ا...