تحميلات المصحف بكل صيغه

تحميلات

صفة صلاة النبي{ص}تحقيق الشيخ الألباني

صفة صلاة النبي{ص}تحقيق الشيخ الألباني

https://alnukhbhtattalak.blogspot.com/ صفة صلاة النبي{ص}

الجمعة، 22 أبريل 2022

صور عطرة من حياة الصحابة رضي الله عنهم جمع فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

 

صور عطرة من حياة الصحابة رضي الله عنهم جمع "فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
الشويرخ ، فهد عبدالعزيز عبدالله
صور عطرة من حياة الصحابة رضي الله عنهم. / فهد عبدالعزيز
عبدالله الشويرخ .- الرياض ، ١٤٤٠هـ
٢48 ص ؛ ..سم
ردمك:8-8353-02-603-978
الصحابة و التابعون أ.العنوان
ديوي 239,9 2563/1440
رقم الإيداع: 2563/1440
ردمك:8-8353-02-603-978
حقوق الطبع والنشر لكل مسلم
 
بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين....أمَّا بعدُ:

فالصحابة رضي الله عنهم, الذين بايعوا رسول الله علية الصلاة والسلام, تحت الشجرة, هم خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعن جابر رضي الله عنه قال : فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية : ( أنتم خير أهل الأرض ) كُنّا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة [أخرجه البخاري]

ولقد رضي الله جل جلاله عنهم, قال سبحانه وتعالى : ] لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ~ ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزاً حكيماً [ [الفتح:18-19] فاكتسبوا بهذا الرضا سعادة الدنيا والآخرة.

وقد غفر الله عز وجل لأهل بدر منهم, فعن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر, فقال : اعملوا ما شئت فقد وجبت لكم الجنة أو قد غفرت لكم ) [متفق عليه] وعن جابر رضي الله عنه, قال : جاء عبد لحاطب بن أبي بلتعه يشتكي سيده, فقال : والله يا رسول الله ليدخلن حاطب النار, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( كذبت, لا يدخلها أبداً, قد شهد بدراً والحديبية) [أخرجه أحمد] وعن حفصة رضي الله عنها ؟أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إني لأرجو ألا يدخل النار أحد إن شاء الله تعالى ممن شهد بدراً والحديبية ) [أخرجه ابن ماجه]

ــــ(3)

لقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحابته, فعن عمر رضي الله عنه, أن النبي علية الصلاة والسلام قال : ( استوصوا بأصحابي خيراً ) [أخرجه الحاكم] فعلينا حفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم, ولندافع عنهم بكل ما استطعنا, فقد بذلوا الغالي والنفيس لنصرة هذا الدين والجهاد في سبيل الله, فعن أبي موسى رضي الله عنه, قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر, بينا بعير نعتقبه فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري وكُنّا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع, لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا.[أخرجه البخاري] لقد كان الإسلام أحبَّ إليهم من الدنيا وما فيها, فعن أنس رضي الله عنه قال : كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيُسلم لشيءٍ يُعطاهُ من الدنيا فما يُمسى حتى يكون الإسلام أحبّ إليه وأعزَّ عليه من الدنيا[أخرجه أحمد] فالصحابة رضي الله عنهم جيل فريد متميِّز في كلِّ شيءٍ؛ في عقيدتهم، وعبادتهم، وأخلاقهم، وتعامُلهم، ينبغي للمسلمين أن يترسموا خطى ذلك الجيل الفريد، إن راموا أن يعود لهم عِزُّهم، ومكانتهم بين الأُمَم، فالفرق كبير والبون واسع بين واقع المسلمين وحال الصحابة رضي الله عنهم.

فحياتهم رجالًا ونساءً حبٌّ للخير، ومبادرة إلى طاعة الله، وسرعة لامتثال أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام، وطُهْر وعفاف، وتضحية وإيثار، وصدق وصراحة، وحياء، وخوف من الله، وزهد، وورع، ومحبة، وتناصُح، ورحمة، وتواضُع، وجهاد للنفس وللأعداء.

وهذه صور لحياتهم في بعض تلك الجوانب، أسأل الله الكريم أن يُبارك فيها، وأن ينفع بها، كما أسأله أن يوفِّقنا للاقتداء بأولئك الأخيار، وأن يتجاوز عنا ويرحمنا.

ــــ(4)

تمهيد : محبة الله جل جلاله ورسوله علية الصلاة والسلام للصحابة رضي الله عنهم

من عقيدة أهل السنة والجماعة : سلامة ألسنتهم من سبِّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي علية الصلاة والسلام قال : ( لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه ) [متفق عليه] ومن عقيدتهم : محبة الصحابة لمحبة الله جل جلاله ورسوله علية الصلاة والسلام لهم, والتي ثبتت في نصوص كثيرة,

فعن سهل بن سعد رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : (لأُعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتحُ الله على يديه, يُحبُّ الله ورسوله, ويُحبّهُ الله ورسوله ) فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يُعطاها, فلما أصبح الناس غدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يُعطاها, فقال:( أين علي بن أبي طالب؟ ) فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه, قال : ( فأرسلوا إليه ) فأتى فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه, ودعا له, فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع وأعطاه الراية)[متفق عليه]

وعن عائشة رضي الله عنها, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في في سفر, فأخذتني وحشة من الليل, فقال رسول الله علية الصلاة والسلام : (مالك ؟) فقلتُ إني في هذه المكان في ليلة ظلماء فأخاف عليك..فقال : ( كلا, إن الله عز وجل يبعث لنا رجلاً يُحبُّ الله ورسوله ويُحبهُ الله ورسوله, يكلونا بقية ليلتنا, قالت : فبينا أنا كذلك إذ رأيت سواد أقبل نحونا فقال رسول الله عليه وسلم : ( من هذا؟) فقال : أنا سعد بن مالك جئت أكلوك بقية ليلتك هذه..فوضع رسول الله صلى عليه وسلم رأسه فنام.[أخرجه الطبراني في الأوسط] 

ــــ(5)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أين لكع؟) ثلاثاً, ( أدع الحسن بن علي ) فقام الحسن بن علي..فالتزمهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ( اللهم إني أحبه فأحبه, وأحبّ من يُحبه ) [متفق عليه]

وعن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عن أبيها رضي عنهما, أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس في المسجد ثلاثاً يقول : (اللهم ادخل من هذا الباب عبداً تحبه ويحبك) فدخل منه سعد.[أخرجه الحاكم]

وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل, قال : فأتيته, فقلتُ : أيُّ الناس أحبُّ إليك ؟ قال : (عائشة ) قلتُ من الرجال : قال : ( أبوها ) قلتُ : ثم من ؟ قال : (عمر) فعدّ رجالاً.[أخرجه مسلم]

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ( يا معاذ والله إني لأحّبك ) [أخرجه أبو داود]

وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه, أنه قال لرجل : سأحدثك برجلين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو يحبهما : عبدالله بن مسعود, وعمار بن يأسر, [أخرجه أحمد]

وعن ابن عمر رضي الله عنهما, قال أمرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة على قوم, فطعنوا في إمارته, فقال : ( إن تطعنوا في إمارته, فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله, وايم الله إن كان خليقاً للإمارة, وإن كان من أحبّ الناس إليَّ, وإن هذا من أحبّ الناس إليَّ بعد)[متفق عليه]

ــــ(6)

فصل : صور من محبتهم رضي الله عنهم للرسول عليه الصلاة والسلام

محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلٌ عظيمٌ من أصول الإيمان؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤمن أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين))؛ متفق عليه.

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وفي هذا الحديث دليلٌ على وجوب محبة الرسول عليه الصلاة والسلام، وتقديم محبته على محبة كلِّ أحدٍ، حتى على الوالد والولد والنفس؛ لأن النفس تدخل تحت قوله: ((والناس أجمعين))؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: "لأنت أحَبُّ إليَّ مِن كل شيءٍ إلَّا من نفسي"، فقال: ((لا والذي نفسي بيده، حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسك))، فقال: "فإنه الآن واللهِ، لأنتَ أَحَبُّ إليَّ مِن نفسي"، قال: ((الآنَ يا عُمَرُ))، فالواجب أن نُقدِّمَ محبةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبة كلِّ أحدٍ؛ على محبة الولد، والوالد، والأهل، والمال، والنفس أيضًا.

 لقد أحبَّ الصحابةُ رضي الله عنهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم محبةً عظيمةً، وقد ذُكِر في كتب السُّنة والسيرة أشياءُ كثيرةٌ؛ منها:

عن أبي بكر رضي الله عنه قال: "والذي نفسي بيده، لقَرابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحَبُّ إليَّ أن أَصِلَ من قرابتي"؛ أخرجه البخاري.

وعن أبي شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت يبكي طويلًا، فجعل ابنُه يقول: يا أبتاه، أمَا بشَّركَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ فقال: "لقد رأيتُني وما أحدٌ أشدَّ بُغْضًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحبَّ إليَّ أن أكون قد استمكنتُ منه فقتلتُه، فلو متُّ على تلك الحال لكنتُ من ــــ(7)

أهل النار، فلما جعل الله الإسلامَ في قلبي، ما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أَجَلَّ في عيني منه، وما كنتُ أُطيقُ أن أَملأَ عيني منه إجلالًا له، ولو سُئِلتُ أن أَصِفَه ما أَطقتُ؛ لأني لم أكن أملأُ عيني منه، ولو متُّ على تلك الحال، لرجوتُ أن أكون من أهل الجنة"؛ أخرجه مسلم.

 قال الإمام النووي رحمه الله: وفيه ما كانت الصحابة رضي الله عنهم عليه، مِن توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجلاله.

وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: أخبر عمرو رضي الله عنه أنه مرَّ بأطباق ثلاث: الطبق الأول: الجاهلية والكفر .... الطبق الثاني: لَمَّا منَّ الله عليه بالإسلام بعد ذلك، وأخبره النبي عليه الصلاة والسلام أن الإسلام يهدِم ما كان قبله، والهجرة تهدِم ما كان قبلها، والحج يهدِم ما كان قبله، فكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحبَّ إليه مِن كلِّ شيء، حتى كان لا يُطيق أن يَملأَ عينه منه إجلالًا له وتعظيمًا له، ولو مات على هذا الطبق، يقول: لرجوتُ أن أكون من أهل الجنة.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن ثُمامة بن أُثال دخل المسجد، فقال: "أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، يا محمد، والله ما كان على وجه الأرض وجهٌ أبْغَضُ إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهُكَ أحَبَّ الوجوه كلِّها إليَّ، والله ما كان مِن دينٍ أبْغَضَ إليَّ من دينك، فأصبَح دينُك أحَبَّ الدين إليَّ، والله ما كان من بلدٍ أبْغَضَ إليَّ من بلدك، فأصبَح بلدُكَ أحَبَّ البلاد إليَّ"؛ متفق عليه.

 

ــــ(8)

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في هذا الحديث فوائدُ؛ منها: صراحة ثُمامة رضي الله عنه وتحدُّثه بنعمة الله عز وجل، أما الصراحة فلأنه صرَّح بأنه ما كان على وجه الأرض وجْهٌ أبْغَض إليه من وجه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأما التحدُّث بنِعْمة الله عز وجل، فهو أن الله نقَلَه من هذه الحال إلى عكسها وضدِّها، وأنه أصبح لا يوجد على وجه الأرض أحَبُّ إليه من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا قال: يا رسول الله، والله إنك لأحبُّ إليَّ من نفسي، وإنَّك لأحبُّ إليَّ من أهلي، وأحبُّ إليّ مِن ولدي، وإني لأكون في البيت، فأذكرُك فما أصبرُ حتى آتيك فأنظُر إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك، عرَفت أنك إذا دخلتَ الجنة رُفِعتَ مع النبيين، وإنِّي إذا دخلتُ الجنة خشيتُ ألا أراك، فلم يردَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69]؛ أخرجه الطبراني في الأوسط.

وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن صفوان بن أمية قال: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لأبْغَضُ الناس إليَّ، فما برح يُعطِيني حتى إنه لأحَبُّ الناس إليَّ؛ أخرجه مسلم.

 

 

 

ــــ(9)

من مظاهر محبة الصحابة رضي الله عنهم للرسول صلى الله عليه وسلم:

محبتهم لما يُحبُّ:

محبة أبي هريرة للحسن بن علي رضي الله عنهما

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أين لُكَعُ؟ ثلاثًا ادعُ الحسن بن علي))، فقام الحسن فالتَزمهُ النبي، وقال: ((اللهم إنِّي أُحِبُّه، فأَحِبَّه، وأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّه))؛ متفق عليه.

قال أبو هريرة رضي الله عنه: فما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من الحسن بن علي، بعدما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال؛ أخرجه البخاري.

 محبة أنس بن مالك رضي الله عنه للقرع:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يُعجبُه القرعُ، فلم يزَل القرعُ يُعجِبُني منذُ رأيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يُعجِبُه"؛ متفق عليه.

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: لكن هل أنس رضي الله عنه فعل ذلك على سبيل الأُسْوة الشرعية، أو لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يُحبُّه، فرأى أن فيه خيرًا؟ الظاهر الثاني.

محبة جابر بن عبدالله رضي الله عنه للخلِّ:

عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ذات يوم إلى منزله، فأخرج إليه فِلَقًا مِن خُبْزٍ، فقال: (ما مِن أُدْمٍ؟) فقالوا لا,إلا شيء مِن خَلٍّ قال: (فإن الخَلَّ نِعْمَ الأُدْمُ)، قال جابر:فما زِلْتُ أُحِبُّ الخَلَّ منذ سمِعْتُها من نبي الله صلى الله عليه وسلم [أخرجه مسلم]

ــــ(10)

قال الإمام النووي رحمه الله: وفي الحديث فضيلة الخَلِّ، وأنه يُسمَّى أُدْمًا، وأنه أُدْمٌ فاضلٌ جيد.

محبة عمرو بن العاص رضي الله عنه لما يحبُّه الرسول عليه الصلاة والسلام من الناس:

عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: يا رسول الله، مَنْ أحَبُّ الناس إليك؟ قال: ((لِمَ؟))، قال: لأُحِبَّ مَنْ تُحِبُّ قال: ((عائشة))، قال: من الرجال؟ قال: ((أبو بكر))؛ أخرجه ابن حبان.

إن من علامات الحب الصادق أن يُحِبَّ الحبيبُ ما يُحِبُّ محبوبُه؛ ولذا فإن على المؤمن أن يُحِبَّ ما يُحِبُّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الناس والطعام، ففي ذلك خيرٌ.

قتلُهم مَن آذاه عليه الصلاة والسلام أو سبَّه:

قتل الأعمى لأمِّ ولده؛ لأنها كانت تشتمُ الرسول عليه الصلاة والسلام:

عن ابن عباس رضي الله عنه أن أعمى كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت له أُمُّ ولدٍ، فلما كان ذات ليلة ذكرتِ النبي صلى الله عليه وسلم فوقعتْ فيه، قال: فلم أصبرْ أن قمتُ إلى المِغْوَلِ، فوضعتُه في بطنها، فاتَّكأتُ عليه فقتلتُها، فأصبحتْ قتيلًا، فذُكِرَ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس وقال: (أَنْشُدُ الله رجلًا لي عليه حقٌّ فعَل ما فعَل، إلا قامَ)، فأقبَل الأعمى، فقال: يا رسول الله، أنا صاحبُها، كانت أمَّ ولدي، وكانت بي لطيفة رفيقة، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، ولكنها كثيرةُ الوقيعة فيك، وتَشتمك، فأنهاها فلا تنتهي، وأَزجُرُها فلا تَنزجر، فلما كانت البارحة ذكَرتْك فوقعتْ فيك، فقمتُ إلى المِغْوَلِ فوضعتُه في ــــ(11)

بطنها، فاتَّكأتُ عليها حتى قتلتُها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا اشْهَدوا أن دمَها هَدَرٌ)؛ أخرجه أبو داود.

قتَل رضي الله عنه أمَّ ولده مع أنها كانت به لطيفة رفيقة، وكان له منها ولدان؛ لأنها سبَّتْ ووقعتْ في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قتلُ غلامين من الأنصار أبا جهل لسبِّه الرسول صلى الله عليه وسلم:

عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: بينا أنا واقفٌ يوم بدر، نظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما، فغمَزني أحدهما، فقال: يا عمُّ، هل تعرف أبا جهل؟ قلتُ: نعم، ما حاجتك إليه ابن أخي؟ فقال: أُخبرتُ أنه يسبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده، لئن رأيتُه لا يفارق سوادي سواده، حتى يموت الأعجلُ منَّا، فتعجبتُ لذلك، فغمَزني الآخر، فقال لي: مثلها، فلم أَنشَبْ أن نظرتُ إلى أبي جهل يجول بين الناس، فقلتُ: ألا إن هذا صاحبكم الذي سألتُماني، فابتداره بسيفهما فضرباه حتى قتلاه؛ متفق عليه.

قتلُ محمد بن سلمة ورفاقِه كعبَ بن الأشرف؛ لأنه آذى الرسول عليه الصلاة والسلام:

عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله))، قال محمد بن سلمة: يا رسول الله، أتُحبُّ أن أقتلَه؟ قال: ((نعم))، فأتاه فقال: يا كعب، قد أردتُ أن تُسلفني سلفًا، قال كعب: فما تَرْهَنُني؟ قال محمد بن سلمة رضي الله عنه: نَرْهَنُك اللأْمَةَ، يعني: السلاح، قال: نعم، وواعَده أن يأتيَه بالحارث، وأبي عبس بن جبر، وعباد بن بشر، فجاؤوا إليه فدَعوه ليلًا فنزَل إليهم، فلما نزَل قتَلوه؛ متفق عليه.

ــــ(12)

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وفي هذا الحديث من الفوائد أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لا تأخذهم في الله لومةُ لائمٍ ولا يهمهم أحدٌ إن كعبًا كان قريبًا لمحمد بن سلمة ومع ذلك عزَم على قتلِه بل كان أول مَن انتدب له رضي الله تعالى عنهم، ووفَّقنا للسَّير على طريقتهم، شجاعة وإقدام وتقديم لمحبة الرسول على محبة أي أحدٍ كان من الأهل والأقارب، فمحمد بن سلمة رضي الله عنه ابن أخت كعب بن الأشرف، فيكون كعب خاله، ومع هذا قتَله لأنه سبَّ الرسول علية الصلاة والسلام، وورد في بعض الروايات أن محمد بن سلمة كان معه أبو نائلة رضي الله عنهما، وأبو نائلة أخو كعب مِن الرضاعة، ومع ذلك قتله؛ لأنه آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي للمسلمين أن يدافعوا عن رسولهم إذا شُتِمَ أو سُبَّ، وقد ألَّف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابه المفيد النافع "الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم"، وأفتى بوجوب قتلِ مَن سبَّ الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد اختصر كتابه البعلي الحنبلي، رحم الله الجميع.

حفظُهم لِسرِّه عليه الصلاة والسلام:

حَفِظ أبو بكر الصديق زواجَه علية الصلاة والسلام من حفصة رضي الله عنهما:

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: تأيَّمتْ حفصة فلقيتُ أبا بكر رضي الله عنه، فقلت له: إن شئتَ أنكحتُك حفصة، فلم يرجع إليَّ شيئًا، فلبثتُ ليلي، فخطَبها إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأنكحتُها إياه، فلقِيَني أبو بكر، فقال: لعلَّك وجدتَ عليَّ، حين عرضتَ عليَّ حفصة، فلم أرجِعْ إليك شيئًا، قلتُ: نعم، قال: إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها، ولم أكُن لأُفشي سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أخرجه البخاري.

ــــ(13)

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه فضل كتمان السرِّ، ويحتمل أن يكون سبب كتمان أبي بكر ذلك أنه خَشِيَ أن يبدوَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يتزوَّجَها، فيقع في قلب عمر انكسارٌ.

 حفظ أنس بن مالك لسره صلى الله عليه وسلم حتى عن أمه رضي الله عنهما:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أسرَّ إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم سرًّا، فما أخبرتُ به أحدًا بعده، ولقد سألتني عنه أُمُّ سليم (أمه)، فما أخبرتُها به؛ متفق عليه.

قال العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: أم سليم رضي الله عنها هي أُمُّه، ومع هذا أبى أن يُخبرها، حفظًا للسرِّ، وعلى هذا فنحن لا ندري عنه أيضًا، وحفظُ السرِّ واجب, فيجب على الإنسان إذا أسرَّ إليه أحدٌ حديثًا أن يحفظَه, وألا يُفشيَه

حفظ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لسره علية الصلاة والسلام في الفتن:

عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: والله إني لأعلمُ الناس بكلِّ فتنةٍ هي كائنةٌ فيما بيني وبين الساعة، وما بي إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرَّ إليِّ في ذلك شيئًا؛ أخرجه مسلم.

حفظ عبدالله بن جعفر رضي الله عنه لسره عليه الصلاة والسلام:

عن عبدالله بن جعفر رضي الله عنه قال: أردَفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم، فأسرَّ لي حديثًا لا أُحدِّث به أحدًا من الناس؛ أخرجه مسلم.

حفظ فاطمة رضي الله عنها لسره عليه الصلاة والسلام:

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: إنَّا كنَّا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده جميعًا، فأقبلت فاطمة عليها السلام، فلما رآها رحَّب وأجلسها على ــــ(14)

يمينه، ثم سارَّها فبكتْ بكاءً شديدًا، فلما رأى حزنَها سارَّها الثانية، فإذا هي تضحك ... فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم سألتها عمَّ سارَّك؟ قالت: ما كنتُ لأُفشي على رسول الله علية الصلاة والسلام سرَّه؛ متفق عليه.

اقتداؤهم به صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله:

نبذهم لخواتمهم لَمَّا نبذ عليه الصلاة والسلام خاتمه:

عن ابن عمر رضي الله عنه قال: اصطَنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ذهب، فصنع الناس ثم رمى به، وقال: ((لا أَلبَسُه أبدًا))، فنبذ الناسُ خواتيمَهم؛ متفق عليه.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه مبادرةُ الصحابة إلى الاقتداء بأفعاله صلى الله عليه وسلم، فمهما أقرَّ عليه استمرُّوا عليه، ومهما أنكَره امتنَعوا منه.

خلعهم لنعالهم في الصلاة لَمَّا خلَع صلى الله عليه وسلم نعلَه:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، إذ خلَع نَعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم، ألقوا نعالَهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: ((ما حمَلكم على إلقائكم نعالَكم؟))، قالوا: رأيناك ألقيتَ نعليك، فألقينا نعالَنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن جبريل عليه السلام أتاني، فأخبرني أنَّ فيهما قذرًا))؛ أخرجه أبو داود.

قال الإمام الخطابي رحمه الله: وفيه أن الاتِّساء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله واجبٌ كهو في أقواله، وهو أنهم لَمَّا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلَع نعليه خلعوا نعالَهم.

 

ــــ(15)

تنفُّس أنس رضي الله عنه في الإناء ثلاثًا:

عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنفس في الإناء ثلاثًا ويقول:(إنه أروأُ وأَبرأُ وأمرأُ، وأنا أتنفس في الإناء؛ أخرجه مسلم, قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: بيَّن الرسول عليه الصلاة والسلام فوائدَ التنفس ثلاثًا:الأولى: قال: (إنه أَرْوأُ)؛ أي: أبلغُ في الرِّيِّ، الثانية: (وأبرأُ) أي: في الشفاء من أضرار العطش، الثالثة: ((وأَمرأُ))؛ أي: أسهل نفوذًا في المعدة ونزولًا إلى الأمعاء.

اقتداء أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيما يصنَعه الرسول عليه الصلاة والسلام:

عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: لم أترك أمرًا رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يصنَعه فيها إلا صنعتُه؛ متفق عليه.

تسليم أنس رضي الله عنه على الصبيان:

مرَّ أنس رضي الله عنه على صبيان فسلَّم عليهم، وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله؛ أخرجه البخاري.

تخوُّل ابن مسعود رضي الله عنها الصحابة بالموعظة:

عن أبي وائل قال: كان عبدالله بن مسعود يُذَكِّرُ كلَّ خميس، فقلنا: يا أبا عبدالرحمن، إنا لنُحِبُّ حديثك ونشتهيه، وَوَدِدْنا أنك تُذكِّرنا كلَّ يومٍ، فقال: إنه لا يَمنعني من ذاك إلا أني أَكره أن أُمِلَّكم، وإني أتخوَّلكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا؛ متفق عليه.

 قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: واحتمل عملُ ابن مسعود أن يكون اقتدى بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حتى في اليوم الذي عيَّنه، واحتمل أن يكون اقتدى بمجرد الخلل بين العمل والترك الذي عبَّر عنه بالتخوُّل، والثاني أظهر.

ــــ(16)

ذهاب عبدالله بن عمر رضي الله عنه إلى مسجد قباء ماشيًا:

عن عبدالله بن قيس بن مخرمة رضي الله عنه قال: أقبلتُ من مسجد بني عمرو بن عوف بقباء على بغلة لي قد صليتُ فيه، فلقيتُ عبدالله بن عمر ماشيًا، فلما رأيتُه نزلتُ عن بَغلتي، ثم قلتُ: اركَبْ أي عم، قال: ابن أخي، لو أردت أن أركب الدواب لوجدتُها، ولكني رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إلى هذا المسجد، حتى يأتي فيُصلي فيه، فأنا أُحبُّ أن أمشيَ إليه كما رأيتُه يمشي، فأبى أن يركَبَ، ومضى على وجهه؛ أخرجه أحمد.

الدفاع عنه وحمايته صلى الله عليه وسلم:

عن عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين اعتمر، فطاف فطُفنا معه، وصلى وصلينا معه، وسعى بين الصفا والمروة، فكنا نستره من أهل مكة لا يُصيبه أحدٌ بشيء؛ أخرجه البخاري.

وعن المِسْور بن مَخرَمة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، حتى نزل بأقصى الحديبة، فجاء عروة بن مسعود، فجعل يكلِّم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما كلَّمه بكلمةٍ أخَذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائمٌ على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف، فضرَب يده بنعل السيف، وقال أخِّر يدَك عن لِحيته؛ أخرجه البخاري.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سَهِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَقدَمه المدينة ليلةً، فقال: ((ليت رجلًا صالحًا من أصحابي يَحرُسني الليلة))، قالت: فبينا نحن كذلك سمِعنا خشخشة سلاح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من هذا؟) قال: سعد بن أبي وقاص، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما جاء بك؟) ــــ(17)

فقال: وقع في نفسي خوفٌ على رسول الله، فجئتُ أَحرُسه، فدعا له النبي علية الصلاة والسلام، ثم نام؛ أخرجه مسلم.

وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال أنهم ساروا مع النبي صلى الله عليه وسلم يومَ حُنين حتى كان عشية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن يَحرُسنا الليلة؟))، قال أنس الغنوي: أنا يا رسول الله، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:(استقبِل هذا الشِّعب حتى تكون في أعلاه ولا نُغَرَّنَّ مِن قِبَلِك الليلة) أخرجه أبو داود.

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أن رسول الله علية الصلاة والسلام عام غزوة تبوك، قام من الليل يُصلي فاجتمع وراءَه رجالٌ من أصحابه يَحرُسونه؛ أخرجه أحمد.

عدم فعلهم لما يكره عليه الصلاة والسلام:

عن أنس رضي الله عنه قال: لم يكن شخصٌ أحبَّ إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لِما يعلمون من كراهيته لذلك أخرجه الترمذي

كراهيتهم لما يكره عليه الصلاة والسلام

عن أبي أيوب رضي الله عنه قال أنه صَنَعَ للنبي صلى الله عليه وسلم طعامًا فيه ثوم، فلم يأكل، ففزِع، فقال: أحرام هم؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا، ولكني أَكْرَهُهُ))، قال: فإني أكره ما تَكره، أو ما كَرِهْتَ؛ أخرجه مسلم.

تعظيمه وتوقيره:

عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: كان سلمان في عصابة يذكرون الله، فمرَّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءهم قاصدًا حتى دنا منهم، فكفُّوا عن الحديث إعظامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أخرَجه الحاكم.

ــــ(18)

وعن عروة بن مسعود رضي الله عنه قال: والله لقد وفدتُ على الملوك، ووفدتُ على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيتُ ملكًا قطُّ يُعظِّمه أصحابه ما يعظمُ أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والله إن يَتَنَخَّمُ نُخامة إلا وقعتْ في كفِّ رجل منهم، فدلَّك بها وجهَه وجلدَه، وإذا أمرَهم ابتدروا أمره، وإذا توضَّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلَّموا خفَضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيمًا له [أخرجه البخاري.]قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي قصة عروة من الفوائد ما كان عليه الصحابة من المبالغة في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره.

حرصهم على راحة رسول الله صلى الله عليه وسلم

عن أبي أيوب رضي الله عنه قال لما نزل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم قُلتُ : بأبي أنت وأمي أني أكره أن أكون فوقك وتكون أنت أسفل مني, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني أرفق بي أن أكون في السفلى لما يغشانا من الناس) قال: فلقد رأيت جرة انكسرت فاهريق ماؤها فقمتُ أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء فرقاً أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيء يؤذيه[الحاكم]

تقبيل أسيد بن خضير لبطن رسول الله عندما كشفه له ليقتص منه

كان أسيد رجلاً صالحاً ضاحكاً مليحاً فبينما هو عند النبي صلى الله عليه وسلم يُحدث القوم ويضحكهم, فطعن النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته, فقال : أوجعتني, اقتص نبي الله, إن عليك قميصاً, ولم يكن عليَّ قميص, فرفع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه, فاحتضنه, ثم جعل يقبل كشحه, فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله, أردت هذا.[أخرجه الحاكم]    

اللهم ارزُقنا تعظيم نبيِّك قولًا وفعلًا.

ــــ(19)

فصل : صور من تعظيمهم رضي الله عنهم لسنة الرسول عليه الصلاة والسلام

سنة الرسول عليه الصلاة والسلام هي المرجع بعد القرآن الكريم لمعرفة أحكام الإسلام وتعاليمه، فلا إسلام بدون سنة، وقد أمر الله جل جلاله عباده باتباع رسوله، قال الله عز وجل: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 7] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير، وإنما ينهي عن شر.

كما حذر سبحانه وتعالى من مخالفة رسوله عليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطناً وظاهراً ﴿ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ﴾ أي في قلوبهم من كفر، أو نفاق، أو بدعة ﴿ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي في الدنيا بقتل أو حدِّ أو حبس أو نحو ذلك، وقال عز وجل ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النساء: 80] قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: من فوائد الآية تهديد من تولى وأعرض عن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: ﴿ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء: 80].

والصحابة رضي الله عنهم، كانوا يعظمون سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبّله وقال: إني أعلمُ أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يُقبلك ما قبلتك [أخرجه البخاري].

ــــ(20)

وإذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد ذكر في كتابه النافع "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق ولا جليل..ولكن إذا وجد لواحد منهم قول، قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له من عذر في تركه"

إذا كان هذا في العلماء فمن باب أولى أن يكون ذلك في الصحابة، فلم يكن أحد منهم يتعمد مخالفة الرسول علية الصلاة والسلام، وما ورد عن بعضهم رضي الله عنهم من أقوالٍ أو أفعالٍ ظاهرها مخالفة سنة الرسول عليه الصلاة والسلام فليس ذلك منهم معارضةً لسنته، حاشاهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وإنما لهم عذر في ذلك، ومن الأعذار التي يعتذر لهم في ذلك:

خفاء السنة عليهم، قال الإمام ابن عبدالبر رحمه الله: ألا ترى أن عمر في سعة علمه، وكثرة لزومه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قد خفي عليه من توريث المرأة من دية زوجها، وحديث دية الجنين، وحديث الاستئذان ما علمه غيره، وخفي على أبي بكر حديث توريث الجدة، فغيرهما أحرى أن تخفى عليه السنة.

نسيانهم للسنة، كما نسيت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقد بعث عبدالله بن عامر إلى عائشة بنفقة وكسوة، فقالت لرسوله: يا بنيَّ، إنِّي لا أقبلُ من أحد شيئاً، فلما خرج، قالت: ردوه عليَّ فردُّه، فقالت: إني ذكرتُ شيئاً قاله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا عائشة (من أعطاك عطاء بغير مسألة، فاقبليه فإنما هو رزق عرضه الله لك) [أخرجه أحمد].

 الاجتهاد في ذلك: كما فعل الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، في منع التمتع في الحج والإفراد بالحج ليكثر زوار البيت.

ــــ(21)

وهذه بعضُ أقوال الصحابة رضي الله عنهم وأفعالهم، التي تدلً على تعظيمهم لسنة الرسول علية الصلاة والسلام، أسال الله أن يوفقنا جميعاً للاقتداء والتأسي بسنة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في جميع أقوالنا وأفعالنا.

اتباعهم للسنة وترك قول من خالفها كائناً من كان:

عن عبدالله بن عباس رضي الله عنه قال: ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع، غير النبي صلى الله عليه وسلم. [أخرجه الطبراني في الكبير] قال الإمام ابن عبدالبر رحمه الله: ليس أحد من خلق الله إلا وهو يؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يترك من قوله، إلا ما تركه هو ونسخه قولاً أو عملاً، والحجة فيما قال صلى الله عليه وسلم، وليس في قول غيره حجة.

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: تمتع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة! فقال ابن عباس: ما يقول عُريّة؟ قال: قلت: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة! فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون، أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: نهى أبو بكر وعمر!! [أخرجه الإمام أحمد، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح] قال الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الراجحي: وفيه أن السنة حاكمة على كل أحد صغيراً كان أم كبيراً، ولهذا اشتد ابن عباس رضي الله عنهما على من عارضه بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما...وقال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر! وهما رضي الله عنهما يأمران بالإفراد على سبيل الاستحباب، وينهيان عن المتعة لا على سبيل التحريم.

ــــ(22)

وعن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعلياً رضي الله عنهما، وعثمان ينهي عن المتعة، وأن يجمع بينهما، فلما رأى علي أهلَّ بهما: لبيك بعمرة وحجة، قال: ما كُنتُ لأدع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لقول أحد.[متفق عليه] قال الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الراجحي: كان عثمان رضي الله عنه ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، ويأمر الناس بالإفراد، وكان يرى رأي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في النهي عن المتعة، فيقول: لا تمتعوا وأفردوا بالحج، ومن أراد أن يعتمر فليعتمر في سفرة أخرى ليكثر الزوار للبيت، ويرى الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بفسخ الحج لعمرة لسبب، وهو رد اعتقاد أهل الجاهلية بأن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وقالوا: قد زال هذا السبب، وأما علي وابن عباس وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم فيرون أن السنة ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولما رأى على رضي الله عنه أن عثمان رضي الله عنه لا يوافقه أهل بهما جميعاً قال " لبيك بعمرة وحجة، قال: ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد" وهذا فيه دليل على أن الحق والصواب قد يخفى على بعض كبار أهل العلم.

وعن عياض بن أبي سرح، أن أبا سعيد الخدري دخل يوم الجمعة، ومروان يخطب، فقام يصلي، فجاء الحرس ليجلسوه فأبى، حتى صلى، فلما انصرف أتيناه، فقلنا: رجمك الله، إن كادوا ليقعوا بك، فقال: ما كنتُ لأتركهما بعد شيءٍ رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أن رجلاً جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فأمره فصلى ركعتين، والنبي علية الصلاة والسلام يخطُبُ. [أخرجه الترمذي].

ــــ(23)

وعن سالم بن عبدالله أنه سمع رجلاً يسأل عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال عبدالله: هي حلال، قال الرجل: إن أباك قد نهى عنها، فقال عبدالله: أرأيت إن كان أبي نهى عنها، وصنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر أبي يُتبعُ أم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبدالله: لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم. [أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح].

توبيخ من أورد الإيرادات على تطبيق السنة:

وعن عاصم بن أبي مجلز قال ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة) قلتُ: أرأيت إن غلبتني عيني، أرأيت إن نمتُ، قال: اجعل أرأيت عند ذلك النجم. [أخرجه مسلم].

وعن الزبير بن عربي قال: سأل رجل ابن عمر رضي الله عنه عن استلام الحجر الأسود، فقال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمُهُ، ويُقبلهُ، قال: قلت: أرأيت إن زحمتُ؟ أرأيت إن غلبتُ؟ قال: اجعل أرأيت باليمن، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمُهُ ويُقبِّلُهُ. [أخرجه البخاري] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وقول القائل: (أرأيت إن زُحمتُ؟ أرأيت إن غُلبتُ؟) كأن ابن عمر رضي الله عنهما من شدة محبته للتمسك بالسنة وبخه هذا التوبيخ، وقال له: اجعل أرأيت باليمن، وأنت الآن في مكة، وكأن أهل اليمن عندهم إيرادات، قال الشيخ عبدالعزيز الراجحي: فقوله: (اجعل أرأيت باليمن) يعني لا تعترض، هذه سنة ثابتة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبله وعليك أن تقبل.

 

ــــ(24)

هجرهم وغضبهم الشديد على من خالف السنة ولو كان أقرب قريب:

عن سالم بن عبدالله، أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها) قال: فقال بلال بن عبدالله: والله لنمنعهن، قال: فأقبل عليه عبدالله فسبه سباً سيئاً، ما سمعته سبهُ سبّهُ مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولُ: والله لنمنعهن. وفي رواية فغضب غضباً شديداً وقال: أُحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: إننا لنمنعهن. [متفق عليه].

قال الإمام النووي رحمه الله: فيه تعزير المعترض على السنة والمعارض لها برأيه، وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: قول بلال بن عبدالله بن عمر رحمه الله: (والله لنمنعهن ).ليس قصده ردَّ الحديث لكن قصده أن الأمر تغير وأن النساء في النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن بلباس الحشمة، بعيدات عن التبرج والتطيب، وأن الوقت قد تغير، فقال: ( والله لنمنعهن ) هذا مراده، وليس مراده المعارضة قطعاً، لكن لما كان هذا اللفظ ظاهره المعارضة سبه أبوه، يعني: وبخه وتكلم عليه سباً سيئاً، وقال أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: ( لنمنعهن) مع أنه ليس قصده المعارضة بلا شك، لكن في هذا دليل على الإنكار على من تكلم بكلام ظاهره المعارضة، وأنه يُسب، فكيف بمن أراد المعارضة ؟ فهذا أشدُّ وأشد.

وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يُجزئُ من الوضوء المدُّ من الماء ومن الجنابة الصاع) فقال رجل: ما يكفيني فقال جابر: قد كفى من هو خير منك وأكثر شعراً رسول الله صلى الله عليه وسلم. [متفق عليه].

ــــ(25)

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه جواز الرد بعنف على من يماري بغير علم إذا قصد الراد إيضاح الحق وتحذير السامعين من مثل ذلك، وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: (فقال رجل: ما يكفيني) وهذا تعبير سيء، حيث قال إمام هذا الصحابي الجليل الذي قال: (صاع يكفيك) لأنه شبهُ ردٍّ لما قاله، ولهذا قابله جابر بهذه العبارة الشديدة، فقال: (كان يكفي من هو أوفى منك شعراً، وخيراً منك) وقال الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن آل بسام رحمه الله: يؤخذ من الحديث: الإنكار على من يخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء خير كله) أو قال: (الحياء كله خير) فقال بشير بن كعب: " أنّا نجدُ في بعض الكتب أن منه سكينةً ووقاراً لله ومنه ضعف"، فغضب عمران حتى احمرت عيناه، وقال: ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه، فأعاد عمران الحديث فأعاد بشير الكلام. فغضب عمران [متفق عليه، واللفظ لمسلم].

قال الإمام النووي رحمه الله: وأما إنكار عمران رضي الله عنه فلكونه قال " منه ضعف " بعد سماعه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه خير) ومعنى: تعارض: تأتي بكلام في مقابلته وتعترض بما يخالفه، وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وفي الحديث من الفوائد جواز الغضب عند معارضة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وحُقَّ للإنسان أن يغضب إذا عارض أحد قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقول غيره كائناً من كان.

وعن عبدالله بن مغفل رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يحذفُ فقال له: لا تحذف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحذف وقال: (إنه لا يُصادُ به صيد ولا ــــ(26)

ينكأ به عدو ولكنها تكسر السن وتفقأ العين) ثم رآه بعد ذلك يحذف فقال له: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه نهى عن الحذف وأنت تحذف؟ لا أكلمك كذا وكذا. [متفق عليه].

قال الإمام النووي رحمه الله: فيه هجران... منابذي السنة.

وقال الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله: في الحديث جواز هجران من خالف السنة وترك كلامه ولا يدخل ذلك في النهي عن الهجر فوق ثلاث فإنه يتعلق بمن هجر لحظ نفسه.

رجوعهم لاتباع للسنة:

وقف ابن مسعود رضي الله عنه بمزدلفة حتى أسفر، ثم قال: لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن أصاب السنة، قال الراوي: فما أدري قولُهُ كان أسرع أم دَفعُ عثمان رضي الله عنه؟ [أخرجه البخاري] قال العلامة محمد العثيمين رحمه الله: وما قال ابن مسعود رضي الله عنه هذه الكلمة حتى دفع عثمان رضي الله عنه، من شدة تمسكهم بالسنة.

وكان معاوية يستلم الأركان فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: إنه لا يستلم إلا هذان الركنان فقال: ليس شيء من البيت مهجور. [متفق عليه] وفي رواية عند الترمذي أن ابن عباس رضي الله عنهما قال ﴿ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21] ولم أر النبي عليه الصلاة والسلام يستلم إلا الركنين اليمانيين، قال معاوية رضي الله عنه: صدقت ورجع لقوله. قال الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الراجحي: وهذه منقبة لمعاوية رضي الله عنه، حيث قبل الحق من ابن عباس رضي الله عنهما، فصار لا يستلم إلا الركنين اليمانيين.

ــــ(27)

وعن سليم بن عامر قال: كان معاوية يسيرُ بأرض الروم وكان بينهم وبينه أمد فأراد أن يدنو منهم فإذا انقضى الأمدُ غزاهم فإذا شيخ على دابة يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقده ولا يشُدَّها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء) فبلغ ذلك معاوية فرجع وإذا الشيخ عمرو بن عنبسة[أخرجه أبو داود والترمذي ]

وعن سعيد قال: كان عمر ابن الخطاب يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً، حتى قال له الضحاك ابن سفيان: كتب إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ورِّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فرجع عمر[أخرجه أبو داود].

وعن أبي الجوزاء قال سمعت ابن عباس يفتي في الصرف ثم فرجع عنه فقلت له ولِمَ؟ قال إنما هو رأي رأيته، حدثني أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه...فتركت رأيي إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. [أخرجه أحمد]

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: أتى عليَّ زمان أقولُ: أولاد المشركين مع المسلمين وأولاد المشركين مع المشركين حتى حدثني فلان عن فلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنهم فقال: (اللهُ أعلمُ بما كانوا عاملين) فلقيت الرجل فأخبرني فأمسكت عن قولي. [أخرجه أحمد]وعن أم سلمه رضي الله عنها قالت: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُصبحُ جُنباً، فيغتسل ويصومُ، فردَّ أبو هريرة فُتياه. [أخرجه أحمد].وعن سالم بن عبدالله: أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، كان يصنع ذلك " يعني يقطع الخفين للمرأة المحرمة " ثم حدثته صفية بنت أبي عبيد: أن عائشة رضي الله عنها حدثتها: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رخص للنساء في الخفين " فترك ذلك. [أخرجه أبو داود].

ــــ(28)

حثّهم لغيرهم على فعل السنة ولو لم يفعلوها، مع بيان أسباب عدم فعلهم لها:

وعن عبدالله بن عبدالله قال: أنه كان يرى عبدالله بن عمر رضي الله عنه، يتربع في الصلاة إذا جلس، ففعلته وأنا يومئذ حديث سن، فنهاني عبدالله بن عمر، وقال: إنما سُنَّة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثنى اليسري، فقلت: إنك تفعل ذلك؟ فقال: إن رجليَّ لا تحملاني. [أخرجه البخاري] قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: في الحديث من الفوائد: أن الإنسان إذا بين العلة التي تمنعه من الفعل المسنون فإنه لا يُعاب عليه.

الدعاء على من أنكر من اقتفى السنة:

عن عكرمة قال: صليت خلف شيخ بمكة، فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لابن عباس: إنه أحمق، فقال: ثكلتك أمك، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم [أخرجه البخاري] قال الإمام الطيبي رحمه الله: "ثكلتك أمك" ظاهرها دعاء عليه.. رداً لقوله إنه أحمق، أي تقول في حق من اقتفى سنة أبي القاسم -عليه الصلاة والسلام- أنه أحمق؟

تنبيههم من أراد مخالفة السنة:

وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: طُفتُ مع عمر بن الخطاب فاستلم الركن، فكنتُ مما يلي البيت، فلما بلغنا الركن الغربي الذي يلي الأسود، جررت بيده ليستلم، فقال: ما شأنك؟ فقلتُ: ألا تستلم؟ قال: ألم تطف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلتُ: بلى فقال: أفرأيته يستلم هذين الركنين الغربيين؟ فقلتُ: لا. قال: أفليس لك فيه أسوة حسنة قلت: بلى قال: فانفذ عنك. [أخرجه أحمد].

 

ــــ(29)

تسليمهم التام للسنة عُلمت الحكمة أو لم تعلم:

عن معاذة بنت عبد الله قالت: سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت: ما بالُ الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ فقلت: لست بحرورية، ولكني أسالُ، فقالت: كان يُصيبنا ذلك، فنؤمرُ بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة. [متفق عليه] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: هذه المرأة كان عندها علم بأن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، ولكتها أراد أن تعرف الحكمة، فبينت لها عائشة رضي الله عنها أن الحكمة ورود الشرع بذلك، لأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم النساء في عهده حينما كان يصيبهن ذلك بقضاء الصوم، ولم يكن يأمرهن بقضاء الصلاة.

عدم قبولهم مخالفة السنة ولو كانت تقديراً واحتراماً لهم:

خرج معاوية فقام عبدالله ابن الزبير وابن صفوان حين رأوه فقال: اجلسا سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) [أخرجه الترمذي] وعن سالم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقم أحدكم أخاه من مجلسه ثم يجلس فيه) قال: وكان الرجلُ يقومُ لابن عمر فما يجلس فيه. [أخرجه الترمذي].

تطبيقهم للسنة بشكلٍ مستمرٍ دائم:

عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بُني له بهن بيت في الجنة) فما تركتهن مُنذُ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم [أخرجه مسلم] قال العلامة العثيمين: ينبغي للإنسان أن يحافظ على هذه الصلوات كما حافظت عليها أم حبيبة رضي الله عنها.

ــــ(30)

وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشقَّ على أمتي، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل) فكان زيد بن خالد يشهد الصلوات في المسجد وسواكه على أذنه، موضع القلم من أُذن الكاتب، لا يقوم إلى الصلاة إلا استن ثم رده إلى موضعه. [أخرجه الترمذي].

وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم إلى الدعوة فليجيب) أو قال: (فليأتها) قال: وكان ابن عمر يُجيبُ صائماً ومفطراً. [أخرجه أحمد].

غضبهم على من لم يخبرهم بالسنة:

عن جندب رضي الله عنه قال: جئتُ يوم الجرعة، فإذا رجل جالس، فقلتُ: لتهراقن اليوم هاهنا دماء، فقال ذاك الرجل: كلا والله، قُلتُ: بلى والله، قال: كلا والله. قُلتُ: بلى والله، قال: كلا والله، إنه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنيه، قلتُ: بئس الجليس لي، أنت منذُ اليوم تسمعني أخالفك، وقد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تنهاني؟ ثم قلتُ: ما هذا الغضب؟ فأقبلت عليه وأسأله فإذا الرجل حذيفة. [أخرجه مسلم].

تطبيقهم للسنة في أشدِّ الظروف:

فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أن فاطمة اشتكت ما تلقى من الرحى في يدها، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فانطلقت فلم تجده، ولقيت عائشة فأخبرتها، فلماء جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة إليها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا، وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم، فقال النبي ــــ(31)

صلى الله عليه وسلم: (على مكانكما) فقعد بيننا حتى وجدت برد قدمه في صدري، ثم قال: (ألا أُعلمكما خيراً مما سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما أن تكبرا الله أربعاً وثلاثين وتسبحاه ثلاثاً وثلاثين وتحمداه ثلاثاً وثلاثين فهو خير لكما من خادم) قال علي: ما تركته منذ سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين. [أخرجه مسلم].

قال الإمام النووي رحمه الله: معناه لم يمنعني منهن ذلك الأمر والشغل الذي كنت فيه، وليلة صفين هي ليلة الحرب المعروفة بصفين وهي موضع بقرب الفرات كانت فيه حرب عظيمة بينه وبين أهل الشام.

مشاركة من تحت أيدهم لهم في تطبيق السنة:

فعن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، مرني بعمل، قال: (عليك بالصيام فإنه لا مثل له) فما رُئي أبو أُمامة ولا امرأته ولا خادمه إلا صياماً) [أخرجه النسائي وأحمد].

تطبيقهم للسنة مع كلِّ أحد:

عن جابر بن سليم رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله اعهد إليَّ قال: (لا تسبَّنَّ أحداً) قال: فما سببتُ بعده حُراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة [أخرجه أبو داود].

اللهم ارزقنا محبة صحابة رسولك عليه الصلاة والسلام، واجعل قلوبنا سليمة لهم، وألسنة بريئة مما يقوله أهل الافك والبهتان فيهم، ووفقنا للاقتداء بهم.

 

 

 

ــــ(32)

فصل : صور من امتثالهم رضي الله عنهم لأمر الرسول علية الصلاة والسلام

من مُقتضيات الإيمان محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقديم مَحبَّته على كلِّ أحدٍ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه مِن والده، وولده، والناس أجمعين))؛ [متفق عليه].

ومِن لوازم محبَّته صلى الله عليه وسلم طاعته فيما أمَر، واجتناب ما نهى عنه، ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله عز وجل؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النساء: 80].

ومَن عصاه فقد عصى الله جل جلاله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أطاعَني فقد أطاع الله، ومَن عصاني فقد عصى الله))؛ [متفق عليه].وطاعته تكون بامتثال أمره، واجتناب نَهْيه، والصحابة رضي الله عنهم لهم مواقفُ كثيرة يصعُب حصرُها، تدل على فضيلتهم بامتثالهم لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن أمثلة تلك المواقف:

عدم حلف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اله عنه بغير الله

عن سالم عن أبيه رضي الله عنه, سمع النبي صلى اله عليه وسلم عمر, وهو يقول : وأبي وأمي, فقال : ( ألا أن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) فقال عمر : فوالله, ما حلفت به بعد ذلك ذاكراً ولا آثرا.[متفق عليه] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :

(ذاكراً) أي عامداً, ( ولا آثراً) أي حاكياً عن الغير, أي ما حلفت بها ولا حكيت ذلك عن غيري, قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : أي أنه لم يحلف رضي الله عنه بها إطلاقاً, للبعد عما نهي عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

ــــ(33)

فعل ما أمَر به الرسول عليه الصلاة والسلام ولو خالف أهواءهم:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال: رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده، والناس أجمعين)[متفق عليه]؛ قال العلامة محمد العثيمين رحمه الله: النفس داخلة في قوله: (والناس أجمعين) فيجب على الإنسان أن يقدِّم محبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على محبة نفسه

ومن العلامة الفاصلة أن الإنسان المحب للنبي عليه الصلاة والسلام، يجب عليه تقديم محبته على محبة نفسه، وذلك بطاعته فما أمَر، واجتناب ما نهى، ولو خالَف ذلك هوى نفسه ورغبته، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يقدِّمون محبةَ الرسول صلى الله عليه وسلم على محبة ما تهواه أنفسُهم، ولهم مواقف في ذلك؛ منها:

تقديم أبي هريرة رضي الله عنه طاعةَ رسول الله عليه الصلاة والسلام على حظ نفسه

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ولله الذي لا إله إلا هو، إن كنتُ لأعتمدُ بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنتُ لأَشدُّ الحجرَ على بطني من الجوع، وقد رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرَف ما به من الجوع، وطلَب أن يَلحَقَ به، فوجَد في بيته لبنًا في قدح أُهدِي إليه، فقال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: ((الْحِقْ أهل الصُّفة، فادْعُهم لي))؛ يقول أبو هريرة: فساءني ذلك وقلتُ: وما هذا اللبن في أهل الصُّفة؟ كنتُ أحقُّ أن أُصيبَ من هذا اللبن شربةً أتقوَّى بها ... ولم يكنْ من طاعة الله ورسوله بُدٌّ؛ [أخرجه البخاري]

 قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث من الفوائد: فضل أبي هريرة ... وتقديمه طاعةَ النبي صلى الله عليه وسلم على حظ نفسه مع شدة احتياجه.

ــــ(34)

زواج فاطمة بنت قيس من أسامة بن زيد رضي الله عنهما مع كراهتها لذلك:

عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن زوجها طلَّقها ثلاثًا، فلم يجعل لها رسول الله عليه الصلاة والسلام سُكنى ولا نَفقة، قالت: قال لي رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((إذا حلَلتِ فآذِنيني)) فآذنتْه، فخطَبها معاوية، وأبو جهم، وأسامة بن زيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما معاوية فرجل تَرِبٌ، وأما أبو جهم فرجلٌ ضرَّاب للنساء، ولكن أسامة بن زيد))، فقالت بيدها هكذا: أسامةُ أسامة، فقال لها رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((طاعة الله وطاعة رسوله خيرٌ لك))، قالتْ: فتزوَّجتُهُ، فاغتَطَبْتُ به؛ [أخرجه مسلم].

 قال الإمام النووي رحمه الله: وأما إشارته صلى الله عليه وسلم بنكاح أسامة، فلمَّا علِمه من دينه وفضله، وحُسن طرائقه وكرم شمائله، فنصَحها بذلك فكرِهته لكونه مولًى، ولكونه كان أسودَ جدًّا، فكرَّر عليها النبي صلى الله عليه وسلم الحثَّ على زواجه لِما عَلِمَ من مصلحتها في ذلك، وكان كذلك، ولهذا قالت: فجعل الله لي فيه خيرًا، واغْتَطبَتْ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية التي بعدها: ((هذا طاعة الله وطاعة رسوله خيرٌ لك))، وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: كأنها رَضِيَ الله عنها تُقلِّل من شأنه بيدها، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أحالها على شيء لا بُدَّ للمؤمنين منه، وهو طاعة الله ورسوله، فطاعة الله ورسوله كلها خير، والعاقبة لمن أطاع الله ورسوله، حتى وإن توهَّم في أول الأمر أنه لا يستفيد ... فهذا أسامة بن زيد كرِهته فاطمة بنت قيس رضي الله عنهما، وفي النهاية تقول: إنها اغتطبتْ به، وجعل الله بينهما مودة ورحمة، فإياك أن تخالفَ أمر الله ورسوله، أطِع الله ورسوله، فإن الخير في طاعة الله ورسوله، والعاقبة للمتقين، قد لا يخطر ببالك أن

ــــ(35)

هذا الشيء تكون عاقبته هذه العاقبة الحميدة، ولكن إذا كان مبنيًّا على طاعة الله ورسوله، فهو الخير، وهو العاقبة الحميدة.

إعادة معقل بن يسار رضي الله عنه أختَه إلى زوجها:

عن الحسن رضي الله عنه قال: حدثني معقل بن يسار قال: زوجتُ أختًا لي من رجل، فطلَّقها، حتى إذا انقضَتْ عِدتُها جاء يَخطبها، فقلت له: زوَّجتُك وأفْرَشتُك وأكرمتُك، فطلَّقتها ثم جئتَ تخطبها؟ لا والله لا تعود إليك أبدًا، وكان رجلًا لا بأس به، وكانت المرأة تريدُ أن ترجع إليه، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية: ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ ﴾ [البقرة: 232]، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه، فترك الحَمِيَّة واستقاد لأمر الله؛ [أخرجه البخاري]، وفي رواية: فلمَّا سمِعها معقل قال: سمعًا لربي وطاعةً، ثم دعاه، فقال: أُزوجك وأُكرمك؛ [أخرجه الترمذي].

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: هذه تقع من بعض الجُهال، فإذا طلَّق الرجل امرأته، ثم انقضَت العدةُ وخطَبها، قال: أمس تُطلِّق ابنتنا، واليوم تخطبها! لا نزوِّجك، فقال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 232]، فليَدَعِ الإنسانُ الأَنَفَةَ، وليُعْطِها حقَّها ويُزوجها، والله تعالى مقلِّبُ القلوب، فلعله كرِهها في وقت من الأوقات، ثم عاد فأحبَّها.

إذنُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لزوجه بالخروج إلى المسجد مع كراهته لذلك:

عن سالم بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كان عمر رجلًا غيورًا، فكان إذا خرج إلى الصلاة اتَّبعتْه عاتكة بنت زيد، فكان يكره خروجَها، ويكره منعَها، وكان ــــ(36)

يُحدثُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا استأذنتْكم نساؤكم إلى الصلاة، فلا تَمنعوهنَّ))؛ [أخرجه أحمد].

قال الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا الساعاتي رحمه الله: أما كراهته خروجها، فلأنه كان شديد الغيرة على نسائه، وأما كراهته منعها، فحذرٌ من الوقوع فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

عدم مخالفة ما أمر به الرسول عليه الصلاة والسلام مهما كانت الأسباب:

امتثال حذيفة رضي الله عنه لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام:

عن حذيفة رضي الله عنه قال: لقد رأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وقد أخذتنا ريحٌ شديدة، وقُرٌّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا رجلٌ يأتيني بخبر القوم، جعله الله عز وجل معي يوم القيامة))، فسكتنا فلم يُجبه منا أحدٌ، ثم قال: ((ألا رجلٌ يأتيني بخبر القوم، جعله الله عز وجل معي يوم القيامة))، فسكتْنا، فلم يُجبه منا أحدٌ، فقال: ((قمْ يا حذيفة، فأتْنا بخبر القوم))، فلم أجد بُدًّا إذ دعاني باسمي أن أقومَ، قال: ((اذهب فأتني بخبر القوم، ولا تَذْعَرْهم عليَّ))، فلما ولَّيتُ من عنده، جعلتُ كأنما أمشي في حمَّام حتى أتيتُهم، فرأيتُ أبا سفيان يَصْلِي ظهرَه بالنار، فوضعتُ سهمًا في كبد القوس، فأردتُ أن أَرميه، فذكرتُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تَذْعَرْهم عليَّ))، ولو رميتُه لأَصبتُه، فرجعتُ وأنا أمشي في مثل الحمَّام، فلما أتيتُه أخبرتُه بخبر القوم، وفَرَغْتُ، قُرِرتُ، فألبَسني رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن فضل عباءة كانت عليه يُصلِّي فيها، فلم أزَل نائمًا حتى أصبحتُ، فلمَّا أصبحتُ قال: ((قمْ يا نَوْمان))؛ [أخرجه مسلم].

ــــ(37)

قال العلامة عثيمين رحمه الله: وفيه دليلٌ على كمال عقل الصحابة رضي الله عنهم، وأن الغيرة التي في قلوبهم لا تَحمِلهم على مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولو كان من أهل الطيش - الذين يدَّعون أنهم ذَوو غيرة - لقتَله؛ لأنه يتمكَّن منه بسرعة، ولكن الجهاد أن يجاهد الإنسان نفسه، ويُصبِّرها على طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وليس الجهاد هو التهور... وفي ظني - والله أعلم - أنه لو وقع مثل هذا في كثير من شبابنا اليوم لقتَله، ثم تأوَّل، لكن الصحابة رضي الله عنهم يعلمون أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم هي الخير كلُّه.

عدم مغادرة أبي ذر رضي الله عنه مكانَه الذي أمره الرسول أن يبقى فيه:

عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: (كنتُ أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حُرَّة المدينة عشاءً، استقبلنا أُحُدٌ، فقال: ((يا أبا ذر، ما أُحبُّ أن أُحدًا لي ذهبًا، يأتي عليَّ ليلة أو ثلاث، عندي منه دينارٌ لا أَرْصُدُه لدَينٍ، إلا أن أقولَ به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا) وأرانا بيده، ثم قال: ((يا أبا ذرٍّ))، قلتُ: لبَّيك وسَعديك يا رسول الله، قال: ((الأكثرون هم الأقلُّون، إلا مَن قال هكذا وهكذا))، ثم قال: ((مكانك لا تبرَح أبا ذرٍّ حتى أرجِع))، فانطلق حتى غاب عني، فسمِعتُ صوتًا، فخشيتُ أن يكون عُرِضَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأردتُ أن أذهبَ، ثم ذكرتُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبرَحْ))، فمكَثتُ... الحديث؛ [متفق عليه].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي حديث الباب من الفوائد: أدب أبي ذرٍّ مع النبي صلى الله عليه وسلم .. وفيه أن امتثال أمر الكبير والوقوف عنده، أَولى من ارتكاب ما يخالفه بالرأي، ولو كان فيما يقتضيه الرأي توهُّمُ دفعِ مَفسدةٍ حتى يتحقَّق ذلك، فيكون دفعُ المفسدة أَولى.

ــــ(38)

وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في هذا الحديث فوائدُ؛ منها: حُسنُ امتثال الصحابة رضي الله عنهم للأمر، وعدم تسرُّعهم، وإلا فإن مقتضى الحال أن يُسارع أبو ذر رضي الله عنه لإنقاذ النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ذهب عنه ليلًا وسمع صوتًا، وخاف على النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مقصودٌ، وقد كان في المدينة منافقون أعداء للرسول عليه الصلاة والسلام، لكن لحُسن امتثالهم لأمر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لم يبرح مكانه وبقِي.

 

سرعه المبادرة إلى امتثال أمر الرسول عليه الصلاة والسلام:

الصحابة رضي الله عنهم كان لهم مواقفُ عجيبة في سرعة امتثالهم لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن تلك المواقف:

جلوس ابن مسعود رضي الله عنه عند باب المسجد عندما سمع الرسول يقول: ((اجلسوا)):

عن جابر رضي الله عنه قال: لَمَّا استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، قال: (اجلِسوا)، فسمِع ابن مسعود، فجلس على باب المسجد، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((تعالَ يا عبدالله بن مسعود))؛ [أخرجه أبو داود].

قال الشيخ محمد أشرف الصديقي العظيم آبادي رحمه الله: (فسمِع ذلك)؛ أي: أمره صلى الله عليه وسلم بالجلوس، (فجلس على باب المسجد) مبادرةً إلى الامتثال.

 

 

ــــ(39)

لحاق ابن عمر برجل ليُخبره أنه يُحبه في الله امتثالًا لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام:

عن ابن عمر رضي الله عنه قال: بينما أنا جالسٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم, إذ أتاه رجل فسلَّم عليه ثم ولَّى عنه, قلت: يا رسول الله، إني لأُحب هذا في الله، قال: (فهل أعلمتَه ذاك؟) قلتُ: لا، قال: (فأعلِمْ ذاك أخاك) فاتَّبَعْتُه فأدركتُه, فأخذتُ بِمَنْكِبه فسلَّمتُ عليه وقلتُ: والله إني لأُحبك لله قال هو والله إني لأُحبك لله، قلت: لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرَني أن أُعْلِمك، لم أفعَل؛ [أخرجه ابن حبان].

جلوس ابن رواحة رضي الله عنه في الطريق عندما سمع الرسول يقول: ((اجلسوا)):

وعن أيوب قال: بلَغني أن ابن رواحة رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالطريق يقول: ((اجلسوا))، فجلس في الطريق، فمرَّ به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ما شأنُك؟ قال: سمعتُك تقول: ((اجلِسوا))، فجلستُ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((زادَك الله طاعةً))؛ [أخرجه عبدالرزاق في المصنف].

كَفْؤُ ما في القُدور من طعام مع شدة جوعهم وحاجتهم للطعام:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، مرَّ بالقُدور وهي تغلي، فقال لنا: ((ما هذه الحُمر: أهلية أم وحشيَّة؟))، فقلنا: بل أهلية، قال: ((فأكْفِئوها))، فكفأناها وإنا لجياعٌ نَشتهيه؛ [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف].

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهُ جاءٍ، فقال: أُكلت الحُمر! فسكَت، ثم أتاهُ الثانية فقال: أُكلت الحمر! فسكتَ، ثم أتاهُ الثالثة فقال: أُفنيتِ الحُمرُ! فأمر مُناديًا، فنادى في الناس: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحُمُر الأهلية، فأُكْفِئت القُدُور، وإنها لتفورُ باللحم؛ [متفق عليه].

ــــ(40)

قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: وفي هذا الحديث فضيلة الصحابة رضي الله عنهم، وسرعة مُبادرتهم إلى امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان الناس حينذاك مجاهدين محتاجين للأكل، وكانوا جائعين، واللحم يفور في القدور، فتعلُّق النفوس به كبيرٌ، ومع ذلك لَمَّا نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي، أكْفَؤُوها وهي تفور باللحم، وهذا دليلٌ على قوة الإيمان، بينما الواحد منَّا إذا أُخبر بنهي الله ورسوله في أمر يهواه، تجده يتململ ويتأخَّر، ويتطلب الأعذار، ويقول: لعل أحدًا من أهل العلم خالَف في ذلك، وهذا خلاف ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من المبادرة والسرعة لامتثال الأمر.

وقال رحمه الله: وفي هذه الأحاديث من الفوائد: سرعة امتثال الصحابة رضي الله عنهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يحتاجون إلى الأكل، والقدور تفور باللحم، ولَمَّا نادى مُنادي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يَكْفِئُوها كفَؤوها، ولم يتردَّدوا في هذا... وهذا يدلُّ على تمام التسليم لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

إراقة ما في الأواني من خمور:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنتُ أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأُبَيَّ بن كعب - من فَضيخِ زَهْوٍ وتَمرٍ، فجاءهم آتٍ، فقال: إن الخمر قد حُرِّمت، فقال أبو طلحة: قمْ يا أنس فأَهْرِقْها، فأَهْرَقْتُها؛ [متفق عليه].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ووقع من رواية أخرى عن مالك في هذا الحديث: قُمْ إلى هذه الجِرار فاكْسِرها، قال أنس: فقمتُ إلى مِهراس لنا، فضربتُها بأسفله حتى انكسَرت، وفي رواية عبدالعزيز بن صهيب في التفسير: (فوالله ما سألوا عنها ــــ(41)

ولا راجعوها بعد خبر الرجل)، ووقع في رواية: (فجرَتْ في سِكَكِ المدينة)؛ أي: طُرقها، وفيه إشارة إلى توارُد مَن كانت عنده من المسلمين على إراقتها حتى جرَتْ في الأَزِقَّةِ مِن كَثرتِها.

 قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: من فوائد الحديث: سرعة امتثال الصحابة لأمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فإنهم لم يُقدِموا على شُرب الخمر الذي قد صُنع، بل أراقوه، وهذا من تمام انقيادهم رضي الله عنهم؛ وقال رحمه الله: من الفوائد: سرعة امتثال الصحابة رضي الله عنهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الخمر بين أيديهم ولَما نادى المنادي بأنها حرام خرَجوا وأراقوها في الأسواق ولم يتلكَّؤوا، وهذا يدل على تمام التسليم لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم براوية من الخمر، فأهداها إليه، فقال له: ((هل علِمتَ أن الله قد حرَّمها؟))، ولم يَقْبَلْها، فسارَّه رجلٌ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((بِمَ سارَرْتَه؟))، قال: قلتُ: بِعْها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الذي حرَّم شُربَها حرَّم بيعَها))، ففتح الرجل فمَ الراوية، وأراق الخمر؛ [أخرجه مسلم].

رفع الإزار وقصُّ الشعر الطويل:

عن أبي رضي الله عنه وكان جليسًا لأبي الدرداء رضي الله عنه، قال: كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: ابن الحنظلية، قال له أبو الدرداء: كلمة تنفَعنا ولا تضرُّك، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نِعمَ الرجل خُزيم الأسدي لولا طُولُ جُمَّته وإسبالُ إزاره) فبلغ ذلك خزيمًا فعَجِلَ، فأخَذ شَفرة فقطَع بها جُمَّته إلى أذُنُيه ورفَع إزاره إلى أنصاف ساقيه)[أخرجه أبو داود]

ــــ(42)

قال العلامة السهارنفوري رحمه الله: (فعَجِلَ)؛ أي: بادَر، (فأخذ شَفرةً): السكين.

وعن عبدالله بن محمد بن عقيل، قال: سمعتُ ابن عمر يقول: كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبطيةً، فنظر فرآني قد أسبلتُ، فجاء فأخَذ بِمَنكِبي، وقال: ((يا ابن عمر، كلُّ شيءٍ مسَّ الأرض من الثياب، ففي النار))، قال: فرأيتُ ابن عمر يتَّزرُ إلى نصف الساق؛ [أخرجه أحمد].

وعن سمرة بن فاتك رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((نِعم الفتى سَمُرة لو أخَذ مِن لِمَّته وشَمَّر مِن مِئزره))، ففعل ذلك سمرة، أخذ مِن لِمَّته وشمَّر مِن مِئزره؛ [أخرجه أحمد].

 وعن وائل بن حُجر رضي الله عنه قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وَلي شعرٌ طويل، فلمَّا رآني قال: ((ذُبابٌ ذُبابٌ))، فرجعتُ فجزَرتُه ثم أتيتُه من الغد، فقال: ((إني لم أَعْنِكَ، وهذا أحسنُ))؛ [أخرجه أبو داود].

قال العلامة السهارنفوري رحمه الله: (ثم أتيتُه من الغد فقال) لَمَّا رآني قطعتُ شعري الطويل: ((إني لم أَعْنِكَ))؛ يعني: ولم أُرِدْكَ بقول: ذُبابٌ ذبابٌ ... وفيه فضيلة الصحابة، ومبادرتهم إلى إزالة ما كَرِه منهم.

جيل فريد يسارع ويسابق إلى تنفيذ ما يأمر به الرسول عليه الصلاة والسلام، بخلاف ما عليه كثير من المسلمين اليوم - هداهم الله - من إسبال لباسهم بعد أن زيَّن لهم الشيطان أنهم لا يفعلون ذلك خُيلاءَ، فلا حرَج عليهم في ذلك، والأمر بخلاف ذلك، فالإسبال حرام ومن كبائر الذنوب، ومَن فعله خيلاءَ، فعقوبته أشدُّ، نسأل الله السلامة والعافية لجميع المسلمين، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: الإزارُ من الكعبين فما فوق على سبيل الوجوب، فلا يجوز للإنسان أن ــــ(43)

يُنزل ثيابه - سواء كانت قميصًا أو سراويلَ - إلى أسفل من الكعبين، فإن أنزَله إلى أسفل من الكعبين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أسفل من الكعبين ففي النار))، وهذا يدلُّ على أن تنزيل الثياب إلى أسفل الكعبين من كبائر الذنوب؛ لأن الكبيرة هي فيها وعيد في الدنيا أو الآخرة.

فإن قال قائل: أنا لا أُنزله إلى أسفل الكعبين على سبيل الخُيلاء، ولكن على سبيل الرفاهية والعادة..فالجواب: هذا حرام ومن كبائر الذنوب، وإن لم يكن على سبيل الخُيلاء؛ لأن الذي يفعله على سبيل الخيلاء إثمُهُ أعظمُ من هذا، فإثمُهُ أن الله لا يُكلمه، ولا ينظر إليه، ولا يُزكيه، وله عذاب أليمٌ.

قال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ثلاثة لا يُكلمهم اللهُ يوم القيامة، ولا ينظرُ إليهم، ولا يُزكيهم، ولهم عذاب أليم))، قال أبو ذرٍّ: من هم يا رسول الله، خابوا وخسِروا؟ قال: ((المسبلُ، والمنانُ، والمُنفقُ سلعتَه بالحَلِف الكاذب))، وعلى كل حالٍ فإن المسألة خطيرة جدًّا، والناس ابتُلوا بها، نسأل الله لهم الهداية؛ ا.هـ.

 مبادرة نساء الصحابة إلى الصدقة مع ضيق الحال:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهِدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد، فصلَّى وخطب، ثم أتى النساء فوعَظهنَّ وأمرهنَّ بالصَّدقة، فرأيتُهنَّ يَهوين إلى آذانهنَّ وحُلوقهنَّ يَدفَعنَ إلى بلال؛ [متفق عليه].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي مبادرة تلك النسوة إلى الصدقة بما يَعزُّ عليهنَّ مِن حُلِيِّهِنَّ، مع ضيق الحال في ذلك الوقت - دلالةٌ على رفيع مقامهنَّ في الدين، وحِرصهنَّ على امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ورضِي الله عنهنَّ.

ــــ(44)

لقد بادَرْنَ رضي الله عنهنَّ إلى الإنفاق في سبيل الله مع ضيق الحال، وبعض نساء المسلمين - هداهن الله - ممن يَملكنَ الأموال الكثيرة، يُنفقْنَها في كماليات، ويصل الحال ببعضهنَّ إلى إنفاق تلك الأموال إسرافًا وتبذيرًا، فاللهم وفِّقهنَّ إلى إنفاق تلك الأموال في طاعتك ورضاك.

وضع كعب بن مالك شَطْرًا مِن دَينه على ابن أبي حَدْرَد رضي الله عنهما:

عن عبدالله بن كعب أن كعب بن مالك أخبره أنه تقاضى ابن أبي حدرد دَينًا كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعتْ أصواتهما حتى سمِعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرَج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادى، فقال: ((يا كعبُ))، فقال: لبَّيك يا رسول الله، فأشار إليه أن ضَعِ الشطر مِن دَينك، قال كعب: قد فعلتُ يا رسول الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قُمْ فاقْضِه))؛ [متفق عليه]؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: (لقد فعلتُ): مبالغةٌ في امتثال الأمر.

ولو أخذ كثير من المسلمين بما فعل كعب بن مالك رضي الله عنه، وأسقطوا بعض حقوقهم على الآخرين، لتلاشى وجودُ كثيرٍ من الخصومات في المحاكم والشُّرَط.

امتثالهم للأمر وعدم السؤال هل الأمر للوجوب أو الندب؟

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: لَمَّا بعث أهل مكة في فداء أسراهم، بعثَت زينب في فداء أبي العاص بمال فيه قِلادةٌ لها، كانت خديجة أدخلتْها بها على أبي العاص، فلمَّا رآها النبي صلى الله عليه وسلم، رقَّ لها رقةً شديدة، وقال: ((إن رأيتُم أن تُطلقوا لها أسيرَها، وتردُّوا عليها الذي لها))، قالوا: نعم؛ [أخرجه أبو داود].

ــــ(45)

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في تعليقه على صحيح مسلم عند شرحه لأحاديث "تحريم أكل لحم الحُمر الإنسية": لا ينبغي للإنسان إذا سمِع أمر الله ورسوله أن يقول: هل هذا للإيجاب أو للاستحباب؟ بل يفعَل ولا يتردَّد، وإذا فعَل فنقول: فِعلُه هذا طاعةٌ لله ورسوله، نعم لو أن الإنسان وقع في المخالفة، وسأل: أواجب ذلك أم لا؟ من أجل أن يُجدِّد التوبة إذا كان واجبًا، فهذا له وجهٌ، أما أن يسمع الأمر، ثم يقول: هل هو للاستحباب أو للإيجاب؟ فهذا غلطٌ، بل إذا أُمرتَ فافعَل، وقال رحمه الله في تعليقه على صحيح البخاري "كتاب تفسير القرآن": هنا إشكال، وهو أن بعض الناس إذا قلت له: افعَل هذا، قد أمر به الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: أهو واجب؟! فنقول: سبحان الله! وهل لا تفعله إلا إذا كان واجبًا؟! أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم به، فافعَل، وأحيانًا نقول له: هذا نهى عنه الرسول عنه الرسول عليه الصلاة والسلام، فلا تفعله، ثم يُجادلك: أحرام هو؟ ولهذا نقول: إذا نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فاترُكْه؛ ا. هـ.

امتثال محمد بن سلمه لأمر الرسول علية الصلاة والسلام بكسر سيفه زمن الفتنة

عنه رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ( يا محمد إذا رأيت الناس يقتتلون على الدنيا, فاعمد بسيفك على أعظم صخرة في الحرة فاضرب بها حتى ينكسر, ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية ) ففعلت ما أمرني به النبي صلى الله عليه وسلم.[أخرجه الطبراني في الأوسط]

صبر عثمان بن عفان رضي الله على ما يصيبه من الفتنة امتثالاً لأمر الرسول

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ادعوا لي بعض أصحابي ) قلتُ : أبو بكر ؟ قال :  (لا ), قلتُ : عمر ؟ قال : ــــ(46)

 ( لا ), قلتُ : ابن عمك علي ؟ قال : ( لا ), قلتُ : عثمان ؟ قال : ( نعم ) فلما جاء تنحى فجعل يُسارهُّ ولونُ عثمان يتغير, فلما كان يوم الدار, وحُصِرَ فيها, قلنا : يا أمير المؤمنين ألا نقاتل ؟ قال : لا , إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إليَّ عهداً, وإني صابر نفسي عليه.[أخرجه أحمد, وأخرجه الترمذي من قوله : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي]      

فينبغي للمؤمن أن يعوِّد نفسَه على امتثال أمر الرسول، وترك نهيه، ومن فعَل زادتْ محبَّتُه للرسول صلى الله عليه وسلم، ونال الثواب من الله الكريم، وزاد إيمانُه، وكان ممن تأسَّى بالصحابة رضي الله عنهم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ــــ(47)

فصل : صور من اهتمامهم رضي الله عنهم بالصلاة

للصلاة مكانة عالية في دين الإسلام، فهي أهمُّ أركان الإسلام بعد الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله، وهي عمود الدين؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((رأسُ الأمر الإسلام، وعَمُودُه الصلاة، وذِرْوةُ سَنامِه الجِهادُ))؛ [أخرجه الترمذي] وقد فرض الله عز وجل الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم مباشرة دون واسطة في أعلى مكان يصل إليه المخلوقون، وفي أفضل ليلة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ليلة المعراج التي عُرِج فيها برسول الله عليه الصلاة والسلام إلى السماء.

وكانت الصلاة أول ما فُرضَتْ خمسين صلاةً في اليوم والليلة، مما يدلُّ على محبَّة الله عز وجل لها، وأنها عبادة تستحقُّ أن يستغرق المسلم معظم وقته فيها، ثم جرت بين الله جل جلاله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم مراجعات، حتى خفَّف الله عن عباده بلُطْفه ورحمته وفضله، فصارت خمسًا في الأداء، وخمسين في الثواب.

الصلاة عبادة يجِدُ فيها المصلِّي الراحة والطمأنينة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حُبِّب إليَّ من الدنيا النساء والطيب، وجُعِلَ قُرَّة عيني في الصلاة))؛ [أخرجه النسائي]، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: ((قُمْ يا بِلالُ فأرِحْنا بالصلاة))؛ [أخرجه أبو داود]، والصلاة نُورٌ للعَبْد في قلبه، وفي وَجْهه، وفي قبره، ويوم حشره؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((الصلاةُ نورٌ))؛ [أخرجه مسلم].

فهنيئًا لمن كان من المحافظين المداومين على الصلاة، فهي الفارق بين المؤمن والكافر، قال عليه الصلاة والسلام: ((بين الرجل وبين الشِّرْك والكفر تركُ الصلاة))؛ [أخرجه مسلم].

ــــ(48)

والصحابة رضي الله عنهم كانوا يرون أن ترك الصلاة كُفْرٌ مُخْرِجٌ من المِلَّة؛ فعن عبدالله بن شفيق رحمه الله قال:" كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كُفْر إلَّا الصلاة"؛ [أخرجه الترمذي].

قال الإمام ابن عبدالبر رحمه الله: روِي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وجابر وأبي الدرداء - تكفيرُ تارك الصلاة، قالوا: مَنْ لم يُصَلِّ فهو كافر، وعن عمر بن الخطاب أنه قال: لا حَظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وعن ابن مسعود: مَنْ لم يُصَلِّ فلا دينَ له.

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: تارك الصلاة بلا عُذْرٍ كافرٌ كُفْرًا مُخرِجًا عن الملَّة بمقتضى هذه الأدلة، وعلى هذا القول جمهور الصحابة، بل حكى غيرُ واحدٍ إجماعَهم عليه.

 وكانوا رضي الله عنهم يعدُّون المتخلِّف عن صلاة الجماعة منافقًا معلومًا نِفاقُه؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: مَنْ سرَّه أن يلقى الله عز وجل غدًا مسلمًا، فليُحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس... ولقد رأيتنا وما يتخلَّف عنها إلَّا مُنافقٌ معلومٌ نِفاقُه، أو مريض؛ [أخرجه مسلم].

وكانوا رضي الله عنهم يُسيئون الظن بمن يفقدونه في صلاة العشاء والصبح؛ فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: "كنا إذا فقَدنا الرجل في العشاء والصبح، أسأنا به الظنَّ"؛ [أخرجه البزار]، قال سماحة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: يجب على كل مسلم ومسلمة الحَذَر من مشابهة المنافقين في أعمالهم وأقوالهم، وفي تثاقُلِهم عن الصلاة، وتخلُّفِهم عن صلاة الفجر والعشاء؛ حتى لا يُحشَر معهم.

 

ــــ(49) 

الصلاة كان لها مكانة عظيمة في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، وكانوا يهتمُّون بها، وقد تمثَّل ذلك في صور؛ منها:

إنَّ الصلاة كانت أحبَّ إليهم من آبائهم وأبنائهم بشهادة أعدائهم:

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضَجْنان وعُسْفان، فقال المشركون: إن لهؤلاءِ صلاةً هي أحبُّ إليهم من آبائهم وأبنائهم، وهي العصر، فأجمِعُوا أمركم فمِيلُوا عليهم مَيْلةً واحدةً، وأن جبرائيل أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يقسِم أصحابَه شطرين فيُصلِّي بهم، وتقوم طائفة أخرى وراءهم، وليأخذوا حِذْرَهم وأسلِحَتهم"؛ [أخرجه الترمذي].

فالكفَّار شهِدُوا للصحابة رضي الله عنهم أن الصلاة أحبَّ إليهم من آبائهم وأبنائهم، فالنفوس مجبولةٌ على محبَّة الأبناء والآباء، لكنهم رضوان الله عليهم لا تشغَلهم تلك المحبَّة على محبَّة ما يُحِبُّه الله عز وجل، ومن ذلك: الصلاة التي هي من أحَبِّ الأعمال إلى الله؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قال: ثم أي؟ قال: ((بِرُّ الوالدين))، قال: ثم أي؟ قال: ((الجِهادُ في سبيل الله))؛ [متفق عليه].

كان الرجل منهم يذهب إلى صلاة الجماعة يُهادَى بين الرجلين حتى يقام في الصف:

عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لقد رأيت الرجل يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف"؛ [أخرجه مسلم]قال الإمام النووي رحمه الله معنى يُهادى أي: يُمسكه رجلان من جانبيه يعتمد عليهما..وفي هذا كله تأكيدُ أمر الجماعة وتحمُّل المشقَّة في حضورها وأنه إذا أمكَن المريض ونحوه التوصُّل إليها استُحِبَّ له حضورُها.

ــــ(50)

إيقاظ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهله للصلاة آخر الليل:

فعن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يُصلِّي من الليل ما شاء الله حتى إذا كان من آخر الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم: الصلاة، الصلاة ثم يتلو هذه الآية: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132]، [أخرجه مالك في الموطأ].

 قال القاضي أبو الوليد الباجي رحمه الله: إيقاظه أهله من آخر الليل، يريد بذلك أن يأخذوا من نافلة الليل بحظٍّ وإن قلَّ، فكان يجعل ذلك في أفضل أوقات الليل وهو السَّحَر, وقال الزرقاني المالكي رحمه الله: وفيه أنه لم يشغَلْه أمورُ المسلمين عن صلاة الليل لفضل التهجُّد.

خشوع ابن الزبير في الصلاة كأنه وَتَد:

فعن مجاهد أنَّ ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه وتد؛ [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنَّف]، قال الإمام الذهبي رحمه الله في كتابه النافع "سير أعلام النبلاء" قال ثابت البناني: كنتُ أمرُّ بابن الزبير وهو خلف المقام يُصلِّي، كأنه خشبةٌ منصوبةٌ.

بكاء أنس بن مالك رضي الله عنه لتأخير الحجاج الصلاة عن وقتها:

قال الزُّهْري رحمه الله: "دخلتُ على أنس بن مالك رضي الله عنه بدمشق وهو يبكي، فقلتُ له: ما يُبكيكَ؟ فقال: لا أعرف شيئًا ممَّا أدركتُ إلَّا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعَتْ"؛ [أخرجه البخاري]؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قد صحَّ أن الحجَّاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا يُؤخِّرون الصلاة عن وقتها، والآثار في ذلك مشهورة.

 

ــــ(51)

قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: في هذا الحديث دليلٌ على جواز البكاء على ما فات من أمر الدين وعلى ما انتُهِك من المحرَّمات أيضًا، فإن البكاء على ترك الواجب يُوازيه البكاء على فعل المحرَّم، ولا شكَّ أن كل إنسان في قلبه حياة إذا رأى انتهاك المحرَّمات، أو تضيع الواجبات، لا شَكَّ أنه سيتألَّم، وإذا كان سريع البكاء، فإنه سوف يبكي.

تصدَّق رجلٌ من الأنصار بحائطه؛ لأنه أشغَلَه عن صلاته:

فعن عبدالله بن أبي بكر أن رجلًا من الأنصار رضي الله عنه، كان يُصلِّي في حائط له، في زمان الثمرِ، والنخلُ قد ذُلِّلَتْ، فهي مُطوَّقةٌ بثَمَرِها، فنظر إليها فأعجَبه ما رأى من ثمرها، ثم رجع إلى صلاته، فإذا هو لا يدري كم صلَّى، فقال: لقد أصابَتني في مالي هذا فتنةٌ، فجاء عثمانَ بن عفان، وهو يومئذٍ خليفةٌ فذكَر له ذلك، وقال: هو صَدَقةٌ فاجعلْه في سُبُلِ الخير، فباعَه عثمان بخمسين ألفًا، فسُمِّي ذلك المال الخمسين"؛ [أخرجه مالك في الموطأ].

قال الإمام أبو الوليد الباجي رحمه الله: وهذا يدلُّ على أن مثل هذا كان يقلُّ منهم، ويعظُمُ في نفوسهم، فكيف بمن يكثُر ذلك منه، تغمَّد الله زَلَلنا بفَضْله، وفي الجملة الإقبال على الصلاة وترك الالتفات فيها مأمورٌ به من أحكامها, قال الإمام الزرقاني المالكي رحمه الله: وفيه أن المصلِّي يُقبل على صلاته، ولا يلتفت يمينًا ولا شمالًا.

وهكذا ينبغي للمصلِّي أن يبتعد عمَّا يُلهيه ويَشغَله في صلاته؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خميصةٍ له لها أعلام، فنظر في أعلامِها نظرةً، فلما سلَّم قال: ((اذهبُوا بخَمِيصَتي هذه إلى أبي جَهْم، فإنها ألهتْني آنفًا عن صلاتي، وأتوني بأَنْبِجانيَّة أبي جهم)).

ــــ(52)

عدَّ الحارث البكري رضي الله عنه الزوجة التي تكون سببًا لتخلُّف زوجِها عن صلاة الفجر ليلة العرس امرأةَ سوءٍ:

تزوَّج الحارث البكري رضي الله عنه، فقيل له: "أتخرج - أي لصلاة الفجر - وإنما بَنَيْتَ بأهلِكَ الليلة؟ فقال: والله، إن امرأة تمنعني من صلاة الغداة في جماعة لامرأة سوءٍ"؛ [أخرجه الطبراني في الكبير].  

متابعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم في صلاته:

من اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بأمر الصلاة، متابعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم في صلاته، ليعرفوا كيف يُصلِّي، وكم يقرأ، وماذا يقرأ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة سكت هنيهةً، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما تقول في سكوتِكَ بين التكبير والقراءة؟ قال: ((أقول اللهم باعِدْ بيني وبين خطاياي، كما باعَدْتَ بين المشرِقِ والمغرِبِ، اللهم نقِّني من خطاياي، كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنَس، اللهُمَّ اغسلني من خطاياي بالثَّلْج والماء والبَرَدِ))؛ [متفق عليه]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه ما كان الصحابة عليه من المحافظة على تَتَبُّع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته وإسراره وإعلانه، حتى حفِظ اللهُ بهم الدِّينَ.

وعن عمارة بن عمير عن أبي معمر، قال: "قلنا لخباب: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، قلنا: بِمَ كنتم تعرفون ذاك؟ قال: باضطراب لِحيته"؛ [أخرجه البخاري].

وعن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال: "حَزَرْنا قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر، فحَزَرْنا قيامه في الركعتين الأوليَينِ من الظهر قدر ثلاثين ــــ(53)

آية؛ قدر ﴿ الم * تَنْزِيلُ ﴾ [السجدة: 1، 2] السجدة، وحَزَرْنا قيامَه في الأُخْرَيَينِ على النصف من ذلك، وحَزَرْنا قيامَه في الأوليَينِ من العصر على قدر الأُخْرَيَينِ من الظهر وحَزَرْنا قيامَه في الأُخْرَيَينِ من العصر على النصف من ذلك[أخرجه مسلم].

وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: رمقتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فوجدتُ قيامَه كركعتِه وسَجْدتِه واعتدالَه في الركعة كسجدتِه وجَلستَه بين السجدتين وسجدتَه ما بين التسليم والانصراف قريبًا من السواء"؛ [أخرجه مسلم]

وعن مطرف عن أبيه رضي الله عنه، قال: "رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي وفي صَدْرِه أزيزٌ كأزيزِ الرَّحى من البكاء"؛ [أخرجه أبو داود].

وعن وائل بن حُجْر رضي الله عنه، قال: "لأَنْظُرَنَّ إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يُصلِّي"؛ [أخرجه أبو داود].

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: "رمقْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا، فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾ [الكافرون: 1] و﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]"؛ [أخرجه أحمد].

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "بِتُّ في بيت ميمونة ليلة؛ لأنظُرَ كيف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل"؛ [متفق عليه]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث من الفوائد: بيان فضل ابن عباس وقوَّة فَهمه، وحرصه على تعلُّم أمر الدين، وحُسْن تَأَتِّيه في ذلك.

وفي رواية عند أبي داود: فصلَّى ثلاث عشرة ركعةً، منها ركعتا الفجر، حزَرْتُ قيامَه في كل ركعة بقدر ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ﴾ [المزمل: 1]، قال المحدِّث خليل أحمد السهارنفوري رحمه الله: حزرت؛ أي: قَدَّرْتُ.

ــــ(54)

فصل : صور من عنايتهم رضي الله عنهم بطلب العلم وتعليمه

الحمد لله رب العالمين، الذي رفع منزلة العلم وأهله، فجعلهم في الخير قادة، وفي الهُدى أئمة وَسادة.

والصلاة والسلام على أشرف وأفضل معلم للبشرية، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، القائل: إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا؛ ولكنهم ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظٍّ وافر.

ورضي الله عن الصحابة الكرام، الذين قال فيهم ابن مسعود رضي الله عنه: إنهم أبرُّ الأمة قلوبًا، وأعمقها علومًا، وأقلُّها تكلُّفًا.

لقد كان للصحابة رضي الله عنهم عناية بالعلم، فتعلَّمُوه وعلَّمُوه لغيرهم، وقد جمعتُ بفضل الله وكرمه ما تيسَّر لي من أقوالٍ وأفعالٍ لهم حول طلب العلم وتعليمه، أسأل الله الكريم أن ينفعني وجميع المسلمين بما جمعتُ، ولا يخفى أن المقصود بالعلم: العلم الشرعي المبني على ما جاء في الكتاب والسنة، فهو العلم النافع، المحقق لسعادة الدارين: الدنيا والآخرة.

 

 

 

 

 

 

 

ــــ(55)

فضل العلم

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: "كفى بالعلم شرفًا أن يدَّعيه من لا يُحسِنُه، ويفرح به إذا نُسب إليه"؛ [ابن جماعة في تذكرة السامع].

عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: "مُعلِّم الخير، يستغفر له كلُّ شيء حتى الحوت في البحر"، وعنه قال: "ما يسلك رجل طريقًا يلتمسُ فيه العلم، إلا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة"؛ [ابن أبي شيبة في المصنف].

وعنه قال: "تذاكر العلم بعض ليلة أحبُّ إليَّ من إحيائها"[عبدالرزاق في المصنف].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: "أغدُ عالِمًا أو مُتعلِّمًا، ولا خير فيما سواهما"

وعنه قال: "منهومان لا يشبعان: صاحب العلم، وصاحب الدنيا، ولا يستويان؛ أما صاحب العلم فيزداد رضا للرحمن، وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان، ثم قرأ: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7].

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: "معلِّم الخير والمتعلم في الأجر سواء، وليس لسائر الناس بعد خير"، وعنه قال: "الناس عالم ومُتعلِّم، ولا خيرَ فيما بعد ذلك".

وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال: "لا يزال الناس بخيرٍ ما بقي الأوَّل حتى يتعلَّم الآخر، فإذا هلك الأوَّلُ قبل أن يتعلَّم الآخرُ هلك الناس".

وعن كعب رضي الله عنه قال: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلَّا متعلِّمَ خيرٍ أو مُعلِّمَه

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا"؛ [الدارمي في السنن].

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "مذاكرة للعلم ساعة خيرٌ من قيام ليلة"؛ [الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقِّه].

ــــ(56) 

الحثُّ على طلب العلم

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "تفقَّهوا قبل أن تُسودُوا".[البخاري في الصحيح]

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: "إن الرجل لا يُولَد عالِمًا؛ وإنما العلم بالتعلُّم"؛ [ابن أبي شيبة في المصنف].

وعنه قال: "عليكم بالعلم قبل أن يُقبَض، وقبْضُه أن يذهب بأصحابه، عليكم بالعلم، فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه، أو يفتقر إلى ما عنده"، وعنه قال: "أغد عالِمًا، أو مُتعلِّمًا، أو مستمعًا، ولا تكن الرابع فتهلك"، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: "ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجُهَّالكم لا يتعلمون، فتعلَّموا قبل أن يُرفَع العلم، فإن رفع العلم ذهاب العلماء"؛ [الدارمي في السنن].

التنبيه إلى أهمية الإخلاص في طلب العلم

عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: "لا تعلموا العلم لثلاث: لتُماروا به السفهاء، وتُجادلوا به العلماء، ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم ما عند الله؛ فإنه يدوم ويبقى، وينفذ ما سواه...كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سُرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تُعرفون في أهل السماء، وتخفون على أهل الأرض"؛ [الدارمي في السنن].

عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: "من طلب العلم لأربع دخل النار - أو نحو هذه الكلمة - ليُباهي به العلماء، أو ليُماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه، أو ليأخذ به من الأمراء"؛ [الدارمي في السنن].

 

ــــ(57)

الحرص على تحصيل العلم

التفرغ لطلب العلم:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفقُ بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطنه، ويحضُرُ ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون"؛ [البخاري في الصحيح].

 التناوب في طلب العلم إذا تعذَّر التفرغ له:

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: "كنت أنا وجارٍ لي من الأنصار، في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزل جئتُه بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك"؛ [البخاري في الصحيح].

اغتنام وجود العلماء لطلب العلم:

عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "لما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلتُ لرجل من الأنصار: يا فلان، هلمَّ فلنسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجبًا لك يا بن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ ترى؟! فترك ذلك، وأقبلتُ على المسألة... قال: وكان ذلك الرجل بعد ذلك يراني، وقد ذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتاج الناس إليَّ، فيقول: كُنتَ أعقلَ مني يا بن عباس"؛ [البخاري في الصحيح].

 

ــــ(58)

العلم ما أورث الخشية من الله

عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: "ليس العلم بكثرة الرواية؛ ولكن العلم الخشية"؛ [الأصبهاني في حلية الأولياء]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، قال: من يخشى الله فهو عالم"؛ [الدارمي في السنن].

 

طلب العلم على العلماء الراسخين فيه

عن عبدالرحمن بن يزيد، قال: "أتينا حُذيفة، فقلنا: دُلنا على أقرب الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم هَدْيًا وسَمْتًا ودلًّا نأخذ عنه ونسمع منه، فقال: كان من أقرب الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم هَدْيًا وسَمْتًا ودلًّا ابنُ أُمِّ عبدٍ حتى يتوارى عنِّي في بيته"؛ [أحمد في المسند].

 

وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: "لا يزال الناس صالحين متماسكين، ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أكابرهم، فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا"؛ [عبدالرزاق في المصنف].

 

وعن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: "قالت لي عائشة: يا بن أختي، بلغني أن عبدالله بن عمرو مارٌّ بنا إلى الحج، فالْقَه فاسأله؛ فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علمًا كثيرًا، قال: فلقيته فسألته عن أشياء يذكرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ [مسلم في الصحيح].

ــــ(59)  

الاتباع والحذر من الابتداع

وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: "إنكم ستجدون أقوامًا يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدُّع، وإيَّاكم والتنطُّع، وإيَّاكم والتعمُّق، وعليكم بالعتيق"؛ [الدارمي في السنن].

الحفظ

الحفظ على قدر النية:

عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: "إنما يحفظ الرجل على قدر نيَّته"؛ [الدارمي في السنن].

 الذنوب سبب للنسيان وعدم الحفظ:

عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: "إني لأحسب الرجل ينسى العلم، كان يعلمه بالخطيئة يعملها"؛ [الدارمي في السنن].

 الحرص على حفظ السنة:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: يا رسول الله، مَنْ أسعدُ الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد ظننْتُ يا أبا هريرة ألَّا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوَّل منك لما رأيتُ من حرصك على الحديث، أسعدُ الناس بشفاعتي يوم القيامة مَنْ قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه))؛ [البخاري في الصحيح].

 

 

ــــ(60)

تقييد العلم وكتابته

عن عمر بن الخطاب وابنه عمر وأنس رضي الله عنهم، قالوا: "قيِّدوا العلم بالكتاب"؛ [الدارمي في السنن]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثًا عنه مني، إلا ما كان من عبدالله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب الحديث، ولا أكتب"؛ [البخاري في الصحيح].

مذاكرة المحفوظ ومراجعته

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وسلم فنسمع منه الحديث، فإذا قُمْنا تذاكرناه فيما بينا حتى نحفظه"؛ [الخطيب في الجامع]

 وعن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال: "تذاكروا؛ فإن الحديث يُذكر بعضه بعضًا"، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إذا سمِعتم منِّي حديثًا فتذاكروه بينكم"؛ [الخطيب في شرف أصحاب الحديث].

الرحلة لطلب العلم

عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: "والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن نزلت، ولا أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه"؛ [البخاري ومسلم].

 عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: "بلغني حديث عن رجل سمِعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريتُ بعيرًا، ثم شددتُ عليه رحلي، فسرتُ إليه شهرًا، حتى قدمتُ عليه الشام، فإذا عبدالله بن أُنيس، فقلتُ للبواب: قُل له جابر على الباب، فقال: ابن عبدالله؟ قلتُ: نعم، فخرج يطأُ ثوبه، فاعتنقني واعتنقتُه، ــــ(61)

فقلتُ: حديثًا بلغني عنك أنك سمِعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيتُ أن تموتَ، أو أموتَ قبل أن أسمعه"؛ [أحمد في المسند].

وعن عبدالله بن بريدة: "أن رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد رضي الله عنه، وهو بمصر، فقدم عليه وهو يمدُّ ناقة له، فقال: إني لم آتِكَ زائرًا؛ إنما أتيتُكَ لحديث بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجوت أن يكون عندك منه علم"؛ [أحمد في المسند].

أخلاق وآداب المتعلم

التخلق بجميل الآداب ومكارم الأخلاق:

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "يا طالب العلم، إن العلم ذو فضائل كثيرة، فرأسُه التواضُع، وعينه البراءة من الحسد، ولسانه الصدق، وقلبه حسن النية، ويده الرحمة، وحكمته الورع، ومركبه الوفاء، وسلاحه لين الكلمة، وسيفه الرضا، وفرسه المداراة، وماله الأدب، وذخيرته اجتناب الذنوب، وزاده المعروف، ورفيقه صحبة الأخيار"؛ [الخطيب في الفقيه والمتفقه].

الذهاب للعالم:

عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "كنتُ لآتي الرجل في الحديث، يبلغني أنه سمِعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجده قائلًا فأتوسَّدُ ردائي على بابه، فتسفي الريحُ على وجهي التراب، فيخرج فيراني، فيقول: يا بن عم رسول الله، ما جاء بك؟ ألا أرسلتَ إليَّ فآتيك؟ فأقول: أنا حق أن آتيك، فأسأله عن الحديث"؛ [الدارمي في السنن].

 

ــــ(62)

وعن زر بن حبيش رضي الله عنه، قال: "أتيت صفوان بن عسال، فقعدت على بابه، فخرج فقال: ما شأنك؟ قلت: أطلب العلم، قال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رِضًا بما يطلب"؛ [النسائي في السنن].

مهابة العالم:

عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قلتُ: يا أمير المؤمنين، من اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة، قال: فقلت: والله إن كنتُ لأريدُ أن أسألك عن هذا منذ سنة، فما أستطيعُ هيبةً لك، قال: ما ظننتُ أن عندي من علم فاسألني، فإن كان لي علم خبرتك به"؛ [البخاري ومسلم].

 وعن سعيد بن المسيب رحمه الله، قال: "قلت لسعد بن أبي وقاص: إني أُريد أن أسألَكَ عن حديث وأنا أهابك أن أسألك عنه، فقال: لا تفعل يا بن أخي إذا علمت أن عندي علمًا فسَلْني عنه، ولا تهبني"؛ [أحمد في المسند].

عدم إزعاج العالم في وقت راحته:

كان ابن عباس رضي الله عنهما: "يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريدُ أن يسأله عن الحديث، فيُقالُ له: إنه نائم، فيضطجع على الباب، فيُقال له: ألا نوقظه؟ فيقول: لا"، وعنه رضي الله عنهما قال: "وجدت عامة علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحي من الأنصار، وإن كنتُ لأقيل بباب أحدهم، ولو شئت أن يُؤذَن لي عليه لَأُذِنَ لِي عَلَيْهِ؛ ولكن أبتغي بذاك طيب نفسه"؛ [الخطيب في الجمع لأخلاق الراوي].

 

ــــ(63)

احترام العالم وتوقيره:

عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: "من حقِّ العالم عليك ألَّا تفشينَّ له سرًّا، ولا تغتابنَّ عنده أحدًا، ولا تجلسنَّ أمامه، وأن تحفظ سِرَّه ومغيبه ما حفظ أمر الله"؛ [الخطيب في الفقيه والمتفقه].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يأخذ بركاب دابَّة زيد بن ثابت الأنصاري، ويقول: "هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا"، وفي رواية: فقال له زيد: "أنت ابن عمِّ رسول الله"، فقال له ابن عباس: "وأنت أنت، ورُئِيَ رضي الله عنهما يأخُذُ بركاب أُبي بن كعب، فقيل له: أنت ابن عمِّ رسول الله، تأخذ بركاب رجل من الأنصار؟ فقال: إنه ينبغي للحَبْر أن يُعظَّمَ ويُشرَّف"؛ [الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي].

 

آداب مجلس العلم

عدم الإطالة خشية الإملال والسآمة:

قال رجل لابن مسعود رضي الله عنه: "يا أبا عبدالرحمن، لودِدْتُ أنك ذكَّرتنا كل يوم، قال: أما إنه ما يَمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكُم، وإني أتخوَّلكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه يتخوَّلنا بها مخافة السآمة علينا"؛ [البخاري في الصحيح].

 وقال رضي الله عنه: "حدِّث القوم ما رمقوك بأبصارهم، فإذا رأيتهم تثاءبُوا، واتَّكأ بعضُهم على بعض، فقد انصرفت قلوبُهم فلا تُحدِّثهم"؛ [الخطيب في الجامع].

وقال رضي الله عنه: "لا تملوا الناس"؛ [الدارمي في السنن].

ــــ(64) 

توقير مجلس العلم:

عن أسامة بن شريك رضي الله عنه، قال: "أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كأنما على رؤوسهم الطير، فسلَّمت ثم قعدت"؛ [أبو داود في السنن].

إحضار الصغار لمجالس العلم، وأدبهم مع وجود الكبار:

عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، حدثوني: ما هي؟))، قال: فوقع الناس في شجر البوادي، قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، ثم قالوا: حدِّثنا: ما هي يا رسول الله؟ قال: ((هي النخلة))؛ [البخاري ومسلم]، وفي رواية قال ابن عمر: فإذا أنا عاشر عشرة أنا أُحدِّثهم، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرِهت أن أتكلَّم، فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه، وحدثته بما كان في نفسي أنها النخلة، فقال عمر: لأن تكون قلتها أحبُّ إلى من حُمُر النِّعَم.

البكور في الحضور لمجلس العلم:

عن نافع رحمه الله، قال: سألت ابن عمر عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بارك لأُمَّتي في بكورها))؛ فقال: في طلب العلم، والصف الأول؛ [الخطيب في الجامع].

 

جلوس المتعلم حيث انتهى به المجلس:

عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، قال: "كنا إذا انتهينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، جلس أحدنا حيث انتهى"؛ [أبو داود في السنن].

 

ــــ(65)

أدب السؤال

إدراك العلم بالسؤال:

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "والله ما نزلت آية إلَّا وقد علمت: فيمَ أنزلت؟ وأين أنزلت؟ وإن ربي وهب لي قلبًا عقولًا ولسانًا سؤولًا"؛ [الأصبهاني في حلية الأولياء].

وسُئِلَ ابن عباس رضي الله عنهما: "بِمَ أدركت العلم؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول"؛ [أحمد في فضائل الصحابة].

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: "زيادة العلم الابتغاء، ودرك العلم السؤال"؛ [ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله].

الحياء لا يمنع من السؤال والتفقُّه في أمور الدين:

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "لا يستحيي جاهل أن يسأل عمَّا لا يعلم"؛ [الأصبهاني في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء].

وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "نعم النساء نساءُ الأنصار، لم يكن يمنعهنَّ الحياءُ أن يسألنَ عن الدين، ويتفقهنَ فيه"؛ [مسلم في الصحيح].

السؤال فيما لا يُعرفُ ويُشكل:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة؛ فيه ساعة لا يُصادفها عبدٌ مسلم وهو يصلي يسأل الله عز وجل حاجةً إلا أعطاه إيَّاها))، قال أبو هريرة: ثم لقيت عبدالله بن سلام فحدثته، فقال: قد علمت أيَّة ساعةٍ هي، قال أبو هريرة: فأخبرني بها، قال: هي آخر ساعة من يوم الجمعة، فقال أبو هريرة: كيف هي آخر ساعة من يوم الجمعة، وقد

ــــ(66)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يُصادفها عبد مسلم وهو يصلي))، وتلك الساعة لا يُصلَّى فيها؟ فقال عبدالله بن سلام: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جلس مجلسًا ينتظر الصلاة، فهو في صلاة حتى يُصلِّي))؟ قال أبو هريرة: بلى، قال عبدالله بن سلام: هو ذاك"؛ [أبو داود في السنن].

عدم سؤال العالم في وقت وحال غير مناسب له:

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "كنتُ آتي الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رأيته نائمًا لم أوقظه، وإذا رأيته مغمومًا لم أسأله، وإذا رأيته مشغولًا لم أسأله"؛ [الخطيب].

عدم السؤال عن مسائل لم تقع:

كان زيد بن ثابت الأنصاري إذا سُئل عن الأمر يقول: أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم، قد كان، حدَّث فيه بالذي يعلم والذي يرى، وإن قالوا: لم يكن، قال: فذروه حتى يكون، وسُئل عمار بن ياسر عن مسألة، فقال: هل كان هذا بعد؟ قالوا: لا، قال: دعونا حتى تكون، فإذا كانت تجشمناها لكم، وعن مسروق كنت أمشي مع أُبي بن كعب، فقال فتى: ما تقول يا عمَّاه في كذا وكذا؟ قال: يا بن أخي، أكان هذا؟ قال: لا، قال: فأعْفِنا حتى يكون، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: يا أيها الناس، لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، فيذهب بكم هنا وهنا، فإنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، لم ينفكَّ المسلمون أن يكون فيهم مَنْ إذا سُئل سدَّد، وإذا قال وُفِّق؛ [الدارمي في السنن]، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه خرج على الناس، فقال: أحرج عليكم أن تسألونا عمَّا لم يكن، فإن لنا فيما كان شغلًا؛ [الخطيب في الفقيه والمتفقه].

ــــ(67)

 تثبُّت المتعلم من إجابة العالم إذا حاك في صدره منها شيء:

عن عبدالله بن شفيق رضي الله عنه، "قال رجل لابن عباس: الصلاة فسكت، ثم قال: الصلاة فسكت، ثم قال: الصلاة فسكت، ثم قال: لا أُمَّ لك؛ أتُعلِّمنا الصلاة؟ كُنا نجمع بين الصلاتين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبدالله بن شفيق: فحاك في صدري من ذلك شيء؛ فأتيتُ أبا هريرة فسألتُه فصدَّق مقالته"؛ [مسلم في الصحيح].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلَّى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى يُقضى دفنُها فله قيراطان، أحدهما أو أصغرهما مثل أحد))، فأرسل ابن عمر إلى عائشة فسألها عن ذلك، فقالت: صدق أبو هريرة، فقال ابن عمر: لقد فرَّطنا في قراريط كثيرة؛ [البخاري ومسلم].

وعن سليمان بن يسار "أن أبا هريرة وابن عباس وأبا سلمة بن عبدالرحمن تذاكروا في المتوفَّى عنها زوجها؛ فقال ابن عباس: تعتدُّ آخر الأَجَلَينِ، وقال أبو سلمة: بل تحلُّ حين تضع، وقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي؛ يعني: أبا سلمة، فأرسلوا إلى أُمِّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: قد وضعت سبيعية الأسلمية بعد وفاة زوجها بيسير، فاستفتت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوَّج"؛ [مسلم في الصحيح].

 عدم الإكثار من الأسئلة التي لا حاجة لها:

عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: "من حق العالم عليك ألَّا تُكِثر عليه السؤال"؛ [الخطيب في الفقيه والمتفقه].

 

ــــ(68)

الفتوى والإجابة عن الأسئلة

بيان خطورة الفتوى:

سُئل ابن عمر رضي الله عنهما عن شيء، فقال: "لا أدري، ثم أتبعها، فقال: أتريدون أن تجعلوا ظهورنا لكم جسورًا في جهنم، أن تقولوا أفتانا ابن عمر"؛ [الخطيب في الفقيه].

التورُّع من الفتوى:

عن عبدالرحمن بن أبي ليلى رحمه الله، قال: "أدركت مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدُهم عن المسألة، فيردُّها هذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول"؛ [الدارمي في السنن]، وعن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: "رأيت ثلاثمائة من أهل بدر ما فيهم رجل إلا وهو يحبُّ الكفاية في الفتوى"؛ [الخطيب في الفقيه والمتفقه] وعن أبي الحصين الأسدي رحمه الله، قال: إن أحدكم ليُفتي في المسألة، ولو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر.

ذمُّ الذي يُفتي الناس في كل ما يُستفتى:

قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "إن الذي يُفتي الناس في كل ما يُستفتى لمجنون"؛ [الدارمي في السنن] وقال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: "إذا أخطأ العالم أن يقول: لا أدري، فقد أصيبت مقاتله"؛ [الخطيب في الفقيه والمتفقه].

توجيه العالم للسائل أن يسأل غيره:

عن ابن مسعود رضي الله عنه "أنه أتاه قوم، فقالوا: إن رجلًا منا تزوَّج امرأة، ولم يفرض لها صداقًا، ولم يجمعها إليه حتى مات، فقال: ما سُئلت منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ عليَّ من هذه، فأتوا غيري"؛ [النسائي في السنن].

ــــ(69)

 قول: الله أعلم، ولا أعلم، ولا أدري:

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: "إذا سُئلتم عمَّا لا تعلمون فاهربوا، قالوا: وكيف الهرب يا أمير المؤمنين؟ قال: تقولون: الله أعلم، وقال: وأبردها على الكبد إذا سُئلت عمَّا لا أعلم أن أقولَ: الله أعلم"؛ [الدارمي في السنن].

وعنه رضي الله عنه قال: "لا يستحيي عالم إذا سُئل عمَّا لا يعلم أن يقول: الله أعلم"؛ [الأصبهاني في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: "من علم علمًا فليقل به، ومن لم يعلم، فليقل الله أعلم فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم[البخاري ومسلم]

وعن عبيد بن جريج، قال: "كنتُ أجلس بمكة إلى ابن عمر يومًا، وإلى ابن عباس يومًا، فما يقولُ ابن عمر فيما يُسألُ: لا علم لي، أكثر مما يُفتي به"؛ [الدارمي في السنن].

وعن أبي إسحاق الشيباني، قال: "سمِعت عبدالله بن أبي أوفى يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبيذ الجرِّ الأخضر، قلتُ: فالأبيض، قال: لا أدري"؛ [أحمد في المسند].

سؤال العالم غيره إذ لم يكن عنده علم في المسألة التي سئل عنها:

جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، تسأله ميراثها، فقال لها: "ما لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السُّدُس، فقال أبو بكر: هل معك غيرُكَ؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة فأنفذه لها أبو بكر [أبو داود في السنن]

ــــ(70)

إرشاد السائل لعالم لديه علم في المسألة المسؤول عنها:

عن سعد بن هشام أنه لقي ابن عباس، فسأله عن الوتر، فقال: ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟...عائشة، ائتها فسَلْها [مسلم]

وعن شريح بن هانئ، قال: "سألت عائشة عن المسح على الخفين، فقالت: ائت عليًّا؛ فإنه أعلم بذلك مني"؛ [مسلم في الصحيح].

وعن أبي المنهال قال: "سألت البراء بن عازب عن الصرف، فقال: سلْ زيد بن أرقم؛ فإنه خيرٌ مني وأعلم، فسألت زيدًا، فقال: سل البراء؛ فإنه خيرٌ مني وأعلم"؛ [مسلم في الصحيح].

 وعن علي البارقي، قال: "أتتني امرأة تستفتني، فقلتُ لها: هذا ابن عمر، فاتبعَتْهُ تسأله، واتَّبعتُها أسمَعُ ما يقول"؛ [النسائي في السنن].

الإفتاء بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام:

جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة الباهلي، فسألهما عن ابنة وابنة ابن وأخت لأب وأم، فقالا: للابنة النصف، وما بقي فللأخت، وائتِ ابن مسعود فسيتابعنا، فأتى الرجل ابن مسعود فسأله، وأخبره بما قالا، فقال عبدالله: قد ضللت إذًا، وما أنا من المهتدين؛ ولكني سأقضي بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم للابنة النصف، ولابنة الابن السُّدُس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت؛ [البخاري في الصحيح].

تراجع المفتي عن فتواه إذا تبيَّن له أن الحق في غيرها:

عن عبدالله العجلي، قال: "سمِعتُ ابن عباس رضي الله عنهما قبل موته بثلاث يقول: اللهم إني أتوب إليك مما كنتُ أفتي الناس في الصرف[الحاكم في المستدرك]

ــــ(71) 

أخلاق وآداب العالم

الدعاء والاعتذار لمن يخالفه في رأيه:

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الميت يُعذَّبُ ببكاء أهله عليه)) قال القاسم بن محمد: لما بلغ عائشة قول عمر، وابن عمر، قالت: إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين؛ ولكن السمع يُخطئ وفي رواية قالت يغفر الله لأبي عبدالرحمن أما إنه لم يكذِب ولكنه نسي أو أخطأ

وعن مجاهد دخلتُ أنا وعروة المسجد, فسأل عروة ابن عمر, فقال: يا أبا عبدالرحمن كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أربع عمر إحداهن في رجب، فقال عروة: ألا تسمعين يا أم المؤمنين إلى ما يقول أبو عبدالرحمن؟ فقالت: وما يقول؟ قال يقول: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمر، إحداهن في رجب، فقالت: يرحم الله أبا عبدالرحمن، ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قطُّ، وعن محمد بن المنتشر رضي الله عنه، قال: سألت ابن عمر عن الطيب عند الإحرام، فقال: لأن أُطلى بالقطران أحبُّ إليَّ من ذلك، فذكرت ذلك لعائشة، فقالت: يرحم أبا عبدالرحمن، لقد كنتُ أُطيِّب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطوف على نسائه ثم يصبحُ ينضحُ طيبًا[متفق عليه]

التخلُّق بجميل الآداب ومكارم الأخلاق:

قال عمر رضي الله عنه: "تعلَّموا العلم، وتعلَّموا للعلم السكينة والحلم، وتواضَعُوا لمن تُعلِّمون، وليتواضع لكم مَنْ تُعلِّمون، ولا تكونوا جبابرة العلماء، فلا يقوم علمُكم بجهلكم"[الآجرُّي في أخلاق حملة القرآن]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: "لا يكون الرجل عالِمًا حتى لا يحسد من فوقه، ولا يحقر من دونه.[الدارمي]

ــــ(72)

صيانة العلم من بذله لأهل الدنيا طمعًا في دنياهم:

قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "لو أن أهل العلم صانُوا العلم، ووضعوه عند أهله، لسادُوا به أهل زمانهم؛ ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا من دنياهم، فهانوا على أهلها"؛ [الآجري في أخلاق حملة القرآن].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: "لا يكون الرجل عالِمًا حتى لا يبتغي بعلمه ثمنًا"؛ [الدارمي في السنن].

الترحيب بالمتعلم:

عن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه، قال: "أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُتَّكئ في المسجد على برد له، فقلت له: يا رسول الله، إني جئتُ أطلب العلم، فقال: ((مرحبًا بطالب العلم))"؛ [الطبراني في الكبير].

وعن علقمة رحمه الله قال: كان ابن مسعود يُقرِّبهم إذا أتوه، ويقول: أنتم دواء قلبي

وكان أبو الدرداء رضي الله عنه، إذا رأى طلبة العلم، قال: "مرحبًا بطلبة العلم، وكان يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بكم"؛ [أخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي].

استقبال المتعلم في وقت راحته إذا علِمَ حرصه على طلب العلم:

عن سعيد بن جبير رحمه الله، قال: "سُئلت عن المتلاعنين في إمارة مُصعب بن الزبير، أيُفرَّق بينهما؟ فما دريتُ ما أقول، فقمتُ من مكاني إلى منزل ابن عمر، فاستأذنتُ عليه، فقيل لي: إنه قائل، فسمع كلامي، فقال: ابن جبير، ادخل، ما جاء بك إلا حاجة، فدخلت، فقلت: يا أبا عبدالرحمن، المتلاعنان أيُفرَّق بينهما؟ فقال: سبحان الله! نعم"؛ [مسلم في الصحيح].

ــــ(73)

التعليم بالفعل:

عن حمران مولى عثمان بن عفان، "أنه رأى عثمان دعا بوضُوءٍ، فأفرغ على يديه من إنائه، فغسلهما ثلاث مراتٍ، ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض، واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديه إلى المرفقين ثلاثًا، ثم مسح برأسه، ثم غسل كلتا رجليه ثلاثًا، ثم قال: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يتوضَّأُ نحو وضوئي هذا، وقال: ((من توضَّأ نحو وضوئي هذا، ثم صلَّى ركعتين لا يُحدثُ فيهما نفسه، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه))؛ [البخاري ومسلم].

نشر العلم

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "مثل علم لا يُعمَل به، كمثل كنزٍ لا يُنفق منه في سبيل الله عز وجل"، وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال: "علمٌ لا يُقال به ككنز لا يُنفَق منه"؛ [الدارمي في السنن].

الحث على تعليم الأبناء وتأديبهم

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: ﴿ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾ [التحريم: 6]، علِّموهم وأدِّبُوهم، وقال ابن عمر رضي الله عنهما لرجل: أدِّب ابنك؛ فإنك مسؤول عن ولدك ما علمته؛ [الخطيب في الفقيه والمتفقه].

العمل بالعلم

عن عمر بن الخطاب قال لعبدالله بن سلام رضي الله عنهما: "مَنْ أرباب العلم؟ قال: الذين يعملون بما يعلمون"؛ [الدارمي في السنن].

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: "يا حملة العلم، اعملوا به؛ فإنما العالم من عمِل بما علِم، ووافق عملُه عِلمَه"؛ [الدارمي في السنن].

ــــ(74)

وعنه قال: "تعلَّموا العلم تُعرَفوا به، واعمَلوا به تكونوا من أهله"؛ [الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي]، وعنه رضي الله عنه، قال: "هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلَّا ارتحل"؛ [الخطيب في اقتضاء العلم العمل].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: "تعلَّموا العلم، فإذا علمتم فاعملوا"؛ [الخطيب في اقتضاء العلم العمل]، وعنه قال: "كان الرجل منا إذا تعلَّم عشر آيات، لم يجاوزهنَّ حتى يعرِف معانيهن والعمل بهنَّ"؛ [ابن كثير في مقدمة تفسير القرآن العظيم]، وعنه قال: "ينبغي لقارئ القرآن أن يُعرَف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبورَعه إذا الناس يخلطون، وبتواضعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون"؛ [الآجري في أخلاق حملة القرآن].

 وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "إن أخوف ما أتخوَّف أن يُقال لي يوم القيامة: قد علمت، فما عملت فيما علمت ؟ [عبدالرزاق في المصنف].

وعنه قال: ويل للذي لا يعلم، وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات.

وعنه قال: إن من أشرِّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة عالِمًا لا يُنتفع بعلمه.

وعنه قال: من عمل بعُشْر ما يعلم علَّمه الله ما يجهل؛ [الخطيب في الجامع].

 وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "اعملوا ما شئتم بعد أن تعلموا، فلن يأجركم الله بالعلم حتى تعملوا"؛ [الدارمي في السنن]، وعنه قال: "إنك لن تكون عالِمًا حتى تكون مُتعلِّمًا، ولن تكون مُتعلِّمًا حتى تكون بما علِمت عاملًا، وقال: إن العبد يوم القيامة لمسؤول:ما عملت بما عَلِمت؟"[الخطيب في اقتضاء العلم العمل]

اللهم وفِّقنا للاقتداء بصحابة رسولك صلى الله عليه وسلم في طلب العلم النافع،

ــــ(75)    

فصل : صور من أسئلتهم رضي الله عنهم للرسول عليه الصلاة والسلام

للعلم وسائلُ يُدرَكُ بها، من أهمِّها السؤال؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: "زيادة العلم الابتغاء، ودرك العلم السؤال"؛ [ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله].

والصحابة رضي الله عنهم أدركوا العلم بوسائل منها: السؤال؛ فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيمَ أُنزلت، وأين أنزلت، وإن ربي وَهَبَ لي قلبًا عقولًا ولسانًا سؤولًا"؛ [الأصبهاني في الحلية]، وسُئِل ابن عباس رضي الله عنهما: "بِمَ أدركتَ العلم؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول"؛ [أحمد في فضائل الصحابة].

وحسن السؤال نِصْفُ العلم؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قد ورد أن حُسْن السؤال نصف العلم"؛ وأورده ابن السني في " كتاب رياضة المتعلمين" حديثًا مرفوعًا بسند ضعيف، وقال رحمه الله: قال ابن المنير في قوله: ((يعلمكم دينكم)) دلالة على أن السؤال الحَسَن يُسمَّى علمًا وتعليمًا؛ لأن جبريل لم يصدُرْ منه سوى السؤال، ومع ذلك فقد سمَّاهُ عِلْمًا.

والصحابة رضي الله عنهم، كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسئلةً تدُلُّ على عمق علمهم، وشدَّة تعلُّق نفوسهم بالآخرة، فإن من يسأل عن شيءٍ، فإنما يسأل عما يهتمُّ به؛ قال عبدالله بن عباس رضي الله عنه: "ما رأيتُ قومًا كانوا خيرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم...ما كانوا يسألون إلَّا عمَّا ينفعهم"؛ [أخرجه الدارمي].

 

ــــ(76)

قال الإمام ابن العطَّار تلميذ الإمام النووي رحمهما الله: "إنَّ من وقف لتدبُّر أحوال الصحابة رضي الله عنهم، اطَّلَع على عِظَمِ اجتهادهم في طلب النجاة، وحرصهم على بلوغ الدرجات، فهذا يسأل عن أركان الدين، وهذا يسأله عن عمل يُقرِّبُهُ من الجنة ويُبعِدُه عن النار، وهذا يسأل عن العمل الذي إذا عمله أحبَّه الله، وأحبَّه الناس، وهذا يقول: يا رسول الله أوصني، وهذا يقول: يا رسول الله، قُل لي قولًا لا أسأل غيرك، وهذا يسأل عن الأعمال التي تُدخِل الجنة...إلى غير ذلك، فالله تعالى يرضى عنهم، ويحشرنا في زمرتهم".

والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسألون ليعملوا بما علموا، بخلاف ما عليه الناس اليوم من السؤال بدون عمل؛ يقول العلَّامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: هنا سؤال: هل الصحابة رضي الله عنهم إذا سألوا، يريدون أن يطَّلِعوا فقط، أو يريدوا أن يطَّلِعوا ويعملوا؟

الجواب: الثاني، بخلاف كثير من الناس اليوم - نسأل الله ألَّا يجعلنا منهم - يسألون ليطلعوا على الحكم فقط لا ليعملوا به؛ ولذلك تجدهم يسألون عالِمًا ثم عالِمًا ثم عالِمًا حتى يستقرُّوا على فتوى العالم التي توافق أهواءهم، ومع ذلك قد يستقبلونها بنشاط وقد يستقبلونها بفتور.

وهذه بعض أسئلة الصحابة رضي الله عنهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أسئلة تدلُّ على علوِّ همَّتهم، أسأل الله أن ينفع الجميع بها، فمن تلك الأسئلة:

السؤال عن العمل المُقتضي لمحبة الله ولمحبة الناس:

عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبَّني الله، وأحبَّني الناس، ــــ(77)

فقال: ((ازهد في الدنيا يحبَّكَ اللهُ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبَّكَ الناسُ))؛ [أخرجه ابن ماجه].

هذا الحديث كما ذكر أهل العلم أحد الأحاديث الأربعة التي عليها مدار الإسلام وهي:

حديث: ((إنما الأعمال بالنيَّات))، وحديث: ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن))، وحديث: (من حُسْن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه)، وهذا الحديث: (ازهد في الدنيا يحبَّك الله)

قال الإمام ابن العطَّار الشافعي رحمه الله: أما كون الزهد في الدنيا سببًا لمحبَّة الله تعالى، فلأن الزاهد في الدنيا غالبًا يكون راغبًا في الآخرة، ومتى كان راغبًا في الآخرة عمل بأعمال أهلها، فأحبَّه الله تعالى، وأما كون الزهد فيما عند الناس سببًا لمحبَّتهم، فلأن الدنيا خضرة حلوة معشوقة لبنيها، فمتى زهد فيما عندهم، وترك محبوبهم، ولم يزاحمهم فيه، أحبُّوه، والله أعلم.

في الحديث الترغيب في الزهد في الدنيا، وأنه من أسباب محبَّة الله جلَّ جلالُه للعَبْد، وفيه الترغيب في الزُّهْد فيما في أيدي الناس، وأنه مقتضٍ لمحبَّة الناس.

والمراد بالزهد في الشيء: الرغبة عنه، والإعراض عنه، لارتفاع الهِمَّة عنه.

وقد تنوَّعت عبارات السَّلَف في تفسير الزهد؛ قال الإمام النووي رحمه الله: "فسَّرَ الزهد في الدنيا بثلاثة أشياء، كلها من أعمال القلوب، لا من أعمال الجوارح".

أحدها: أن يكون العَبْدُ بما في يد الله، أوثق منه بما في يد نفسه، وهذا ينشأُ من صحَّة اليقين وقوَّته، فإن الله ضمن أرزاق عباده، وتكفَّل بها؛ كما قال: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ [هود: 6].

 

ــــ(78) 

والثاني: أن يكون العَبْدُ إذا أُصيب بمصيبةٍ في دُنْياهُ، من ذَهاب مالٍ، أو ولدٍ، أو غير ذلك، أرْغَبَ في ثواب ذلك، مما ذهب منه في الدنيا أن يبقى له، وهذا أيضًا ينشأ من كمال اليقين، وهو من علامات الزهد في الدنيا، وقلة الرغبة فيها، قال عليٌّ رضي الله عنه: من زهد في الدنيا، هانت عليه المُصيبات.

والثالث: أن يستوي عند العبد حامدُه وذامُّه في الحق، وهذا من علامات الزهد في الدنيا، واحتقارها، وقلة الرغبة فيها، فإن من عظُمت الدنيا عنده أحَبَّ المدْحَ وكرِه الذمَّ، ومن استوى عنده حامدُه وذامُّه في الحق، دلَّ على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه، وامتلائه من محبَّة الحقِّ، وما فيه رضى مولاه.

وقد روي عن السلف عبارات أُخَر في تفسير الزهد في الدنيا، كُلُّها ترجِعُ إلى ما تقدَّم، وعلى كل حالٍ، فالزهد في الدنيا شعارُ أنبياء الله، وأوليائه، وأحبَّائه.

والزهد فيما في أيدي الناس موجِبٌ لمحبَّة النفس؛ قال الحسن: "لا تزال كريمًا على الناس - أو لا يزال الناس يكرمونك - ما لم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك، استخفُّوا بك، وكرهوا حديثك، وأبغضوك".

قال أعرابي لأهل البصرة: من سيد هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بمَ سادَهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دُنياهم قال الشيخ سعد الشثري: أعظم الواجبات الزهد في الشرك ثم الزهد في المعاصي, ومن أنواع الزهد أن يخلص العبد قلبه لله عز وجل وأن يخلص عمله لله بحيث يكون العَبْدُ مُريدًا بأعماله وأقواله كلها إرضاء رب العزة والجلال, أما من قصد الدنيا فقط، فإنه سيستمتع بطيِّبات الدنيا إن قدرها الله له ومن ثم يذهب أجره، ولا يبقى له شيء, ولذلك عاب الله على قوم فقال لهم ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾[الأحقاف:20]

ــــ(79) 

قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ: الزهد ليس معناه الفقر، وليس معناه ترك المال؛ وإنما الزهد حقيقة في القلب بتعلُّقه بالآخرة، وتجانبه وابتعاده عن الدنيا، من حيث التعلُّق، فيتعامل بأمور الدنيا على أنها في يده، وليست في قلبه، فيُخلص قصده ونيَّته في كل عمل يعمله في أن يكون نافعًا له في الآخرة، فإذا عامل - مثلًا- بالبيع والشراء، فإنه يستعين به على الحقِّ، وعلى ما ينفعه في الآخرة، وسُئِل الإمام أحمد عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهدًا؟ قال: نعم، بشرط ألَّا يفرح إذ زادَتْ، ولا يحزن إذا نقصت.

وهذا من الأمر العظيم الذي فات إدراكه على كثير من الناس في هذه الأُمَّة، فظنُّوا أن الزهادة: الإعراض عن المال، والإعراض عما يحصل للمرء به نفْعُ في الآخرة، وسُئل الحسن، فقيل له: من الزاهد؟ قال: الزاهد الذي إذا رأى أحدًا قال: هذا خيرٌ مني.

وهذا من عظيم المعاني، وهذا أنه غير متعلِّق بالدنيا، مُزْدَرٍ نفسه في جنب الله عز وجل، غير مترفِّع على الخَلْق، وهذا إنما يحصل لمن منَّ الله عليه فعمر قلبُه بالرغبة في الآخرة، وبالبُعْد عن التعلُّق بالدنيا.

فهذه الوصية العظيمة لا شك أننا بحاجة إليها، خاصة في هذا الزمن الذي صار أكثر الخَلْق معلَّقين بالدنيا في قلوبهم، وينظرون إذا نظروا على جهة المحبَّة للدنيا، وهذا مما يضعف قلب المرء في تعلُّقه بالآخرة، وتعلُّقه بما يحبُّ الله جل جلاله ويرضى، فعظَّمُوا الآخرة وقلَّلُوا من شأن الدنيا، فبذلك يكون الزهد الحقيقي، والإقبال على الآخرة، والتجانُف عن دار الغرور.

 

ــــ(80)

السؤال عن الأعمال التي تدخل الجنة:

الصحابة رضي الله عنهم كانت همَّتُهم عالية، ومطالبهم عالية، فكانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأعمال التي تُدخِلهم الجنة وتُباعِدهم من النار

عن معاذ رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يُدخِلني الجنة، ويُباعِدني عن النار، قال: ((لقد سألت عن عظيم، وإنَّه ليسيرٌ على مَنْ يَسَّرَه الله عليه، تعبُد الله لا تُشْرِكُ به شيئًا، وتقيمُ الصلاة، وتُؤتي الزكاة، وتصُومُ، وتحجُّ البيت))؛ [أخرجه الترمذي وأحمد].

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لقد سألت عن عظيم)) ذلك أن دخول الجنة، والنجاة من النار أمرٌ عظيمٌ جدًّا، ولأجله أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وإنه ليَسيرٌ على مَنْ يَسَّرَه الله عليه)) إشارة إلى أن التوفيق كله بيد الله عزَّ وجلَّ، فمن يسَّرَ الله عليه الهداية اهتدى، ومن لم يُيسِّر عليه لم يتيسَّر له ذلك.

وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: مُرْني بعملٍ يُدخِلني الجنة، قال: ((عليك بالصيام، فإنه لا عدل له))، ثم أتيتُه الثانية، فقال: ((عليك بالصيام))؛ [أخرجه أحمد]، قال الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا الساعاتي رحمه الله شارح مسند الإمام أحمد: في قوله صلى الله عليه وسلم لأبي أمامة في المرة الثانية: ((عليك بالصيام)) دلالة على أنه لم يجد له أفضل منه، وقد رواه ابنُ حِبَّان في صحيحه بلفظ قلت: يا رسول الله، دلَّني على عمل أدخل به الجنة، قال: ((عليك بالصوم فإنه لا مثل له))، قال: وكان أبو أمامة لا يرى في بيته الدخان نهارًا إلا إذا نزل بهم ضيف.

ــــ(81)  

وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يُدخِلني الجنة، ويُباعدني من النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعبُد الله لا تُشْرِكُ به شيئًا، وتُقِيمُ الصلاة، وتُؤتي الزكاة وتَصِلُ الرَّحِم))؛ [متفق عليه]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ولا شكَّ أن كل إنسان يسعى إلى هذا الكسب العظيم، أن ينجو من النار ويدخل الجنة، فإن من زُحزِح عن النار وأُدخِل الجنة فقد فاز، وكل مسلم يسعى إلى ذلك، وهذا يحصل بهذه الأمور الأربعة:

الأول: تعبد الله لا تُشْرِك به شيئًا، لا شركًا أصغر، ولا شِركًا أكبر.

والثاني: تقيم الصلاة، وتأتي بها كاملة في أوقاتها مع الجماعة إن كنت رجلًا، ودون الجماعة إن كانت امرأة.

والثالث: تؤتي الزكاة، بأن تُؤدِّي ما أوجَبَ الله عليك من الزكاة في مالك لمستحقِّه.

والرابع: تصل الرَّحِم، بأن تُؤتيهم حقَّهم بالصِّلَة حسب ما يتعارف الناس، فما عَدَّه الناس صِلةً فهو صِلةٌ، وما لم يعدُّوه صِلةً فليس بصِلةٍ، إلا إذا كان الإنسان في مجتمع لا يُبالون بالقَرابات، ولا يهتمُّون بها، فالعبرة بالصِّلة نفسها المعتبرة شرعًا.

وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيتَ إذا صلَّيْتُ المكتُوبات وصُمْتُ رمضانَ، وأحلَلْتُ الحلالَ، وحرَّمْتُ الحرامَ ولم أزِدْ على ذلك شيئًا أأدخُلُ الجنة؟ قال ((نعم))[أخرجه مسلم].

قال الإمام ابن العطار تلميذ الإمام النووي رحمهما الله: هذا الحديث أصْلٌ عظيمٌ من أصول الدين، وقاعدةٌ من قواعده، فإن من وُفِّق للقيام بالمفروضات، واجتناب المحرَّمات، واعتقاد حِلِّ المباحات، فقد حسنت له الحالات، وعلت له الدرجات في الجنان، وذلك بفضل الله تعالى وكرمه من خالق الأرض والسماوات، والله أعلم.

ــــ(82) 

وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أحللت الحلال وحرمت الحرام)) دليل على أنه لا بد من اعتقاد الحل فيما هو حلال، واعتقاد التحريم فيما هو حرام، وهذا أمر زائد على الفعل فيما يحلُّ، وعلى التَّرْك فيما يحرُم؛ لأن من فعل ما يحلُّ لا باعتقاد الحل، فإنه نقص عليه عقيدة، وهي عقيدة الحكم الشرعي في هذا الذي فعله، وكذلك من تجنَّب الحرام دون اعتقاد تحريمه، فقد نقص عليه العقيدة في حُكم هذا الشيء.

وقال الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ: الروايات التي فيها ترتيب دخول الجنة على بعض الأعمال الصالحة، المقصود بها: أنها إذا فعلت مع اجتماع الشروط، وانتفاء الموانع، أو إذا فُعلت هذه الأفعال مع الإتيان بالتوحيد، وهذان احتمالان:

الأول: أنها مع اجتماع الشروط وانتفاء الموانع.

الثاني: أنها مع الإتيان بالتوحيد؛ لأنه به تصحُّ الصلاة، وتُقبَل الزكاة، ويصحُّ الصيام، إلى آخره.

وقال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: في هذا الحديث من الفوائد حرص الصحابة رضوان الله عليهم على ما ينفعهم وسؤالهم عن الأمور المهمة، وأن الصحابة اهتمُّوا بشأن الجنة، ورغبوا في تحصيلها، وذلك لعِظَم ما في الجنة من النعيم، وفيه أن الجنة مطلبٌ صحيحٌ، وأنه يجوز للإنسان أن يعمل الطاعات والقربات والعبادات من أجل أن يدخله الله عز وجل الجنة، ولا يصحُّ أن يُقال: إن هذا مراد العامة أما الخاصة فإن مُرادَهم محبَّة الله؛ لأن ذلك يخالف طريقة القرآن وهديه، ويخالف طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه.

ــــ(83) 

السؤال عن أحبِّ الأعمال إلى الله:

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحَبُّ إلى الله؟ قال: ((الصلاةُ على وَقْتِها))، قلت: ثم أي؟ قال: ((بِرُّ الوالدين))، قُلْتُ: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))؛ [متفق عليه]، وفي رواية: أي العمل أفضل؟ وفي رواية: أي الأعمال أقرَبُ إلى الجنة؟

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: من فوائد الحديث: محبة الله تعالى للصلاة على وقتها، وبضدِّه: كراهة الله تعالى للصلاة على غير وقْتِها؛ لكن من نعمة الله أن أباح للعبد أن يُصلِّي في آخر الوقت، فإن صلَّى بعده، فالصواب أن الصلاة غير مقبولة، إلا أن يكون هناك عُذْرٌ، كما بيَّنَتْه السُّنَّة أن من نام عن صلاة أو نسيها فليُصلِّها إذا ذكرَها؛ ولكن ما معنى بِرِّ الوالدين؟ الجواب: البِرُّ إسداء الخير الكثير إليهما، وذلك بالمال والبدن والجاه والعلم وغير ذلك، حتى الذي ينصح والده أو يعلمه قد بَرَّ به؛ لكن استعمل الحكمة واللِّين واحترم مقامَه، ولا تقل: يا رجل، اتَّق الله، وخَفْ ربَّكَ، كيف تعمل هذا العمل؟ فهذا لا يليق؛ لكن يقول كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: "يا أبتِ" كلام لطيف؛ لأن مقام الوالد يجب أن يكون مُحترمًا.

والحاصل: أن من بر الوالدين إسداء النصيحة لهما حتى وإن غضبا..والجهاد في سبيل الله..يشمل النوعين من الجهاد : الجهاد بالسلاح, والجهاد بالعلم واليان, لأن الجهاد يشمل المعنيين, قتال الله تعالى : ﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ﴾ [التوبة:73] ومعلوم أن جهاد المنافقين لا يتأتى فيه الجهاد بالسلاح لأن المنافق لم يبرز لنا العداوة حتى نقاتله…فيتعين أن يكون جهاد المنافق بالعلم والبيان.

ــــ(84) 

السؤال عن خير خصال الإسلام:

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، أيُّ الإسلام أفضل؟ قال: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده))؛ [متفق عليه].

وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإسلام خير؟ قال: ((تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على مَنْ عرَفْتَ ومَنْ لم تعرِف))؛ [متفق عليه]. قال الإمام النووي رحمه الله: قال العلماء رحمهم الله: قوله: أي الإسلام خير؟ معناه: أي خصاله وأموره وأحواله، قالوا: إنما وقع اختلاف الجواب في خير المسلمين لاختلاف حال السائلين والحاضرين، فكان في أحد الموضعين الحاجة إلى إفشاء السلام وإطعام الطعام أكثر وأهم، لما حصل من إهمالهما والتساهُل في أمورهما، ونحو ذلك، وفي الموضع الآخر إلى الكفِّ عن إيذاء المسلمين، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من سلِمَ المسلمون من لسانه ويده)) معناه: لم يُؤذِ مسلمًا بقول ولا فعل، وخصَّ اليد بالذكر؛ لأن معظم الأفعال بها، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سَلِم المسلمون من لسانه ويده))، قالوا معناه: المسلم الكامل، وليس المراد نفي أصل الإسلام عمَّنْ لم يكن بهذه الصفة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: "أي الإسلام خير"، التقدير: أي خصال الإسلام؟ وخصَّ هاتين الخصلتين بالذكر لمسيس الحاجة إليهما في ذلك الوقت، لما كانوا فيه من الجهد، ولمصلحة التأليف، ويدلُّ على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام حثَّ عليهما أول ما دخل المدينة، وبذل السلام يتضمَّن مكارم الأخلاق، والتواضُع، وعدم الاحتقار، ويحصُل به التآلُفُ والتحابُّ.

 

ــــ(85)

السؤال عن أفضل الأعمال والعبادات:

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام سُئِل: أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله))، قيل: ثمَّ ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قيل: ثُمَّ ماذا؟ قال: ((حج مبرور))؛ [متفق عليه].

قال القاضي عياض رحمه الله: قوله: ((حج مبرور))، قال شمر: هو الذي لا يخالطه شيء من المأثم، وقال الحربي: إذا رجع مبرورًا مأجورًا، وقيل: المبرور: المتقبَّل، قال الإمام النووي رحمه الله: وقول من قال: "المبرور المتقبل" قد يستشكل من حيث إنه لا اطِّلاع على القبول، وجوابه: أنه قد قيل من علامات القبول أن يزداد بعده خيرًا

وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله وجهاد في سبيله))، قال: قلتُ: أيُّ الرقاب أفضل؟ قال: ((أنْفَسُها عند أهلها وأكثرها ثمنًا))، قال: قلتُ: فإن لم أفعل؟ قال: ((تُعينُ ضائعًا أو تصنعُ لأخرق)) قال: قلتُ: يا رسول الله، أرأيت إن ضعُفْتُ عن بعض العمل؟ قال: ((تكفُّ شرَّكَ عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك))؛ [متفق عليه].

قال الإمام النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: ((أنْفَسُها عند أهلها)) فمعناه: أرفعها وأجودها، وقوله: (تصنع لأخرق))، الأخرق: هو الذي ليس بصانع

قال العلامة محمد العثيمين رحمه الله: هذه الأحاديث فيها بيان أن الأعمال مراتب في الفضل، وكلما كان أفضل، فهو أحَبُّ إلى الله عز وجل، وظاهر هذه الأحاديث أن بعضها يُخالف الآخر، فقيل: إن هذا الخلاف باعتبار حال السائل؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعرف من حال السائل أن الأفضل في حقِّه كذا دون كذا، ويبقى فضل العمل المطلق في الأحاديث الأخرى، وهذا أقربُ ما يكون.

ــــ(86)

وعن جابر رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل؟ قال: ((طول القنوت))؛ [أخرجه مسلم]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ظاهر الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام سُئل عن أفضل الصلاة، وظاهر الحديث العموم، يعني الصلاة في الليل وفي النهار، فقال: ((طول القنوت))، فما هو القنوت؟ هل هو القراءة أو الدعاء؟

الصواب: أنه يشمل هذا وهذا، وأن من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام أن صلاته متناسبة، إن أطال في القيام، أطال في الركوع والسجود، والقعود، والرفع بعد الركوع، وإن خفَّف خفَّف فيها كلها؛ لكن ليس المعنى أن الركوع يكون بقدر القراءة، والسجود كذلك بقدر القراءة؛ بل القراءة لها طول خاص؛ لكن إذا طالت القراءة يطولُ الركوع والسجود.

وهذه المسألة اختلف العلماء رحمهم الله فيها، هل الأفضل إطالة القيام الذي يتضمَّن قراءة كلام الله عز وجل، أو الأفضل إطالة الركوع والسجود، لما فيهما من تعظيم الله عز وجل، وقرب العبد من ربِّه حال سجوده؟ ثم اختلفوا أيضًا: هل الأفضل تقصير هذه الأشياء مع كثرة الركعات أو الأفضل طول هذه الأشياء مع قلة الركعات؟

والصواب: أن الأفضل ما يُناسب حالك، فقد يكون الإنسان عنده كسل، فيكون المناسب لحاله أن يقصِّر القراءة، ويقصر الركوع والسجود، حتى تكثُر حركاته، ويزول عنه النوم، وقد يكون الإنسان عنده نشاط، يستطيع أن يطيل القيام والركوع والسجود وهو على نشاطه، ويرى أن هذا أخشع له، فنفضل ذلك على كثرة الركعات.

ــــ(87)  

وعن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه قال: سُئل أيُّ الصلاة أفضلُ بعد المكتوبة؟ وأيُّ الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟ فقال(أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم)[أخرجه مسلم]

قال الإمام النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم:(أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))، فيه دليل لما اتفق العلماء عليه أن تطوُّع الليل أفضل من تطوُّع النهار، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم)) تصريح بأنه أفضل الشهور للصوم، وقد سبق الجواب عن إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان دون المحرَّم وذكرنا فيه جوابين: أحدهما لعله إنما علم فضله في آخر حياته والثاني لعلَّه كان يعرض فيه أعذارٌ من سفر أو مرض أو غيرهما

وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: قيل: إن أفضل الشهور أن يُصام فيه شهر المحرَّم، وفي هذا نظر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان أكثر من صيامه في المحرَّم، وقيل: إن المعنى أن تصوم الشهر كله، وهذا أيضًا فيه نظر؛ لأن عائشة رضي الله عنها - وهي من أعلم الناس بحال النبي صلى الله عليه وسلم - تقول: ما رأيتُه يصوم في شهر أكثر من صيامه في شعبان، وقيل: إن المعنى: أفضل صيام يصومه الإنسان في شهر محرَّم؛ لكن لا يصومه كله، ولا يجعله كشعبان، فتكون السنة العمليَّة مُبيِّنة للسُّنة القولية، وهذا هو أحسن ما أرى.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أيُّ الصَّدَقة أفضلُ؟ قال: (جهد المقل وابدأ بمن تعول))،وعنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم؟ قال: ((أن تصدق وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تخشى الفقر، وتأمل البقاء، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان))[أخرجه أحمد]

ــــ(88) 

وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه, قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الجهاد أفضل ؟ قال: (من عُقر جواده وأُهريق دمه ) وسئل  أي الصلاة أفضل؟ قال : ( طول القنوت ) [أخرجه أحمد] والجهاد في سبيل الله من أفضل الأعمال, فعن أبي هريرة رضي الله عنه, قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : دلني على عمل يعدل الجهاد ؟ فقال : ( لا أجده...هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم فلا تفتر, وتصوم ولا تفطر ؟) قال ومن يستطيع ذلك ؟ [متفق عليه] 

وعن عبدالله بن حبشي الخثعمي رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أفضل ؟ قال : ( إيمان لا شك فيه, وجهاد لا غلول فيه, وحجة مبرورة ) قيل : فأيُّ الصلاة أفضل ؟ قال : ( طول القنوت ) قيل :فأي الصدقة أفضل ؟ قال : ( جهد المقل) قيل : فأيُّ الجهاد أفضل ؟ قال : ( من جاهد المشركين بنفسه وماله ) قيل : فأي القتل أشرف ؟ قال : ( من أهريق دمه وعقر جواده ) [أخرجه أبو داود والنسائي واللفظ له]قال العلامة خليل أحمد السهارنفوري رحمه الله : قوله : ( من جاهد المشركين بماله ونفسه ) يدخل فيه من يجاهد الكفار والمبتدعين بإبطال مذهبهم, وردِّ أقوالهم باللسان والكتابة, وقوله : (وعُقر جواده ) أي قطع قوائمه, ولعل هذا محمول على أن عقر جواده وقع في حياته, وبمرأى منه, ثم قتل, فكأنه بذل ماله ونفسه في سبيل الله, وجاهد راكباً وماشياً, وقطع قوائمه كناية عن غاية شجاعته, وإنه كان مما لا يطاق أن يظفر به إلا بعقر جواده.

 

ــــ(89) 

السؤال عن خير الناس وأفضلهم:

عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال: قيل يا رسول، أيُّ الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله))، قالوا: ثم من؟ قال: ((مؤمن في شعب من الشعاب يتَّقي الله، ويدعُ الناس من شرِّه))، وفي رواية: أيُّ الناس خير؟ [متفق عليه].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وكأن المراد بالمؤمن من قام بما تعين عليه القيام به، ثم حصل هذه الفضيلة، وقال: وإنما كان المؤمن المعتزل يتلوه في الفضيلة؛ لأن الذي يخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام، فقد لا يفي هذا بهذا، وهو مقيد بوقوع الفتن، وفي الحديث فضل الانفراد لما فيه من السلامة من الغيبة واللغو ونحو ذلك، وأما اعتزال الناس أصلًا فقال الجمهور: محل ذلك عند وقوع الفتن، قال ابن عبدالبر: إنما أوردت هذه الأحاديث بذكر الشعب والجبل؛ لأن ذلك في الأغلب يكون خاليًا من الناس، فكل موضع يبعد على الناس فهو داخل في هذا المعنى.

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: اختلف العلماء رحمهم الله: أيهما أفضل: العزلة، أم الاختلاط بالناس؟

فقال بعضه العلماء: إن العزلة أفضل؛ لأنها أسلم لدين المرء.

 وقال بعضهم: بل الاختلاط بالناس أفضل، لما يتوقع من أمر بمعروف، ونهي عن منكر، ودعوة إلى الخير، وغير ذلك، والصحيح: أن الاختلاط بالناس أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أعظَمُ أجرًا من المؤمن الذي لا يُخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم)) إلا إذا كان في الاختلاط شَرٌّ على المرء في دينه، فحينئذٍ تكون العُزْلة خيرًا؛ لكنها مؤقتة، بمعنى:

ــــ(90)

أنه إذا زالت الموانع اختلط بالناس؛ لأن الاختلاط بالناس فيه خيرٌ؛ كالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومعرفة أحوال الناس، والائتناس بهم، إلى غير ذلك من المصالح الكثيرة، والعزلة ينطوي الإنسان فيها على نفسه، ورُبما ينفتح عليه في هذه العزلة أبواب لا يستطيع سدَّها من الوساوس والتفكيرات السيئة حتى يذهب بذلك دينُه ودُنْياه.

وعن عبدالرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رضي الله عنه قال: إن رجلًا قال: يا رسول الله، أيُّ الناس خير؟ قال: ((من طال عمرُه وحسُن عملُه))؛ [أخرجه الترمذي]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: الإنسان كلما طال عمرُه في طاعة الله زاد قُرْبًا إلى الله، وزاد رفعةً في الآخرة؛ لأن كل عمل يعمله فيما زاد فيه عمره، فهو يُقرِّبه إلى ربِّه عز وجل، فخيرُ الناس من وُفِّق لهذين الأمرين، أما طول العمر فإنه من الله، وليس للإنسان فيه تصرُّف؛ لأن الأعمار بيد الله عز وجل، وأما حسن العمل، فإن بإمكان الإنسان أن يحسن عمله؛ لأن الله تعالى جعل له عقلًا، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، وبيَّن المحجَّة وأقام الحُجَّة، فكل إنسان يستطيع أن يعمل عملًا صالحًا، على أن الإنسان إذا عمل عملًا صالحًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرَ أن بعض الأعمال الصالحة سبب لطول العمر، وذلك مثل صلة الرَّحِم؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ أحَبَّ أن يبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصِلْ رَحِمَه))، وصِلة الرَّحِم من أسباب طول العمر، فإذا كان خير الناس من طال عمره وحسُن عمله، فإنه ينبغي للإنسان أن يسأل الله دائمًا أن يجعله ممن طال عمره، وحسُن عمله، من أجل أن يكون من خير الناس، نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم ممن طال عمره وحسُن عمله، وحسُنت خاتمتُه وعاقبتُه، إنه جواد كريم.

ــــ(91)  

السؤال عن أكبر الذنوب وأعظمها عند الله؟

عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الذنب أعظَمُ عند الله؟ قال: ((أن تجعل لله نِدًّا وهو خلَقَكَ))، قلت: إن ذلك لعظيمٌ، ثمَّ أيُّ؟ قال: ((أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك))، قلتُ: ثمَّ أيُّ؟ قال: ((أن تُزاني حليلة جارِكَ))؛ [متفق عليه]، فابن مسعود رضي الله عنه، همَّتُه عالية، فهو حريص على سؤال ما ينفعه في دُنْياه وآخرته، فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحبِّ الأعمال إلى الله، كما مرَّ في الحديث السابق، وهو في الحديث يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ وهو يسأل عن العمل الذي يحبُّه الله عز وجل ليعمله، ويسأل عن أعظم الذنب عند الله ليجتنبه.

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: قوله: ((أن تجعل لله نِدًّا وهو خَلَقَكَ))، هذا هو أعظم الذنب، إذ كيف تجعل للذي خلقَكَ وأوْجَدَكَ، ولم يشاركه أحدٌ في إيجادِكَ، كيف تجعلُ له نِدًّا تتقرَّب إليه كما تتقرَّب إلى الله، أو تستغيث به كما تستغيث بالله، أو ربما تعتقد أنه أبلغ في القُدْرة من الله عز وجل؟

وجعل النِّدِّ لله يشمل النِّدَّ في الدعاء، والنِّدَّ في الخَلْق، والنِّدَّ في الصفة، فأما النِّدُّ في العبادة، فأن تُنذر لغير الله، أو تسجد لغير الله، أو تركع لغير الله.

وأمَّا النِّدُّ في الدعاء، فأن تدعو غير الله عز وجل لكشف الضُّرِّ، وجلب النفع، ولا يستثنى من ذلك الرسولُ ولا الوليُّ.

وأما النِّدُّ في الصفات فأن يجعل أوصاف الله تعالى كأوصاف خلقِهِ، فيُمثِّل صفات الله بصفات خلقه، ويقول مثلًا: لله يد كأيدينا، أو وجه كوجوهنا، أو ما أشبه ذلك.

 

ــــ(92)

قال الإمام النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: ((أن تُزاني حليلة جارِكَ))، هي زوجته سميت بذلك لكونها تحلُّ له، وقيل: لكونها تحلُّ معه، ومعنى تُزاني؛ أي: تزنى بها برضاها، وذلك يتضمَّن الزنا، وإفسادها على زوجها، واستمالة قلبها إلى الزاني، وذلك أفحَشُ، وهو مع امرأة الجار أشدُّ قُبْحًا، وأعظَمُ جُرْمًا؛ لأن الجار يتوقَّع من جاره الذبَّ عنه، وعن حريمه، ويأمن بوائقه، ويطمئنُّ إليه، وقد أُمِر بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنا بامرأته وإفسادها عليه، مع تمكُّنه منها على وجه لا يتمكَّن غيرُه منه، كان في غاية من القُبْح.

السؤال عن شيءٍ ينتفعُ به:

عن أبي برزة رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، علمني شيئًا أنتفع به قال: ((اعزل الأذى عن طريق المسلمين))؛ [أخرجه مسلم] دلَّ الحديث على فضل إزالة الأذى عن الطريق، وقد وردت أحاديث في فضل ذلك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد رأيتُ رجَلًا يتقلَّبُ في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تُؤذي الناس))؛ [أخرجه مسلم]. وفي رواية: ((إن شجرة كانت تُؤذي المسلمين، فجاء رجل فقطعها، فدخل الجنة))، وفي رواية عند البخاري ومسلم: ((بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك في الطريق، فأخَّره، فشكر الله له، فغفر له)).

قال الإمام النووي رحمه الله: هذه الأحاديث ظاهرة في فضل إزالة الأذى عن الطريق سواء كان الأذى شجرة تُؤذي، أو غصن شوك، أو حجر يعثر به، أو أقذار، أو جيفة، وغير ذلك، وإماطة الأذى عن الطريق من شُعَب الإيمان، وفيه التنبيه على فضيلة كل ما نفع المسلمين، وأزال عنهم ضَرَرًا.

ــــ(93)

السؤال عن الأشياء التي تُشكل:

ذكر أهل العلم أن العلم خزائن، ومفاتيحها السؤال؛ ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عما يُشكل عليهم، فالسؤال يُقصد به معرفة الشيء المسؤول عنه معرفة تامَّة.

فعن ابن أبي مليكة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، كانت لا تسمع شيئًا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حُوسِب عُذِّب)) قالت: أو ليس يقول الله تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴾ [الانشقاق: 8]، فقال: ((ذلك العرض ولكن مَنْ نُوقِش الحساب عُذِّب))؛ [البخاري ومسلم]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: في الحديث ما كان عند عائشة من الحرص على تفهُّم معاني الحديث.

وعن أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأرجو ألا يدخل النار أحدٌ إن شاء الله تعالى ممن شهد بدرًا والحديبية))، قالت: قُلتُ: يا رسول الله، أليس الله قد قال: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 71] قال: ((ألم تسمعيه يقول: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72]))؛ [ابن ماجه في السنن] فأُمُّ المؤمنين حفصة رضي الله عنها أشكل عليها ما سمِعَت من الرسول صلى الله عليه وسلم فسألت، فأوضَحَ لها ما أشكل عليها؛ قال الإمام السندي شارح سنن ابن ماجه رحمه الله: قوله: قال: ((ألم تسمعيه يقول...إلخ) فالورود غير الدخول، وأهل الجنة لا دخول لهم.

 

ــــ(94) 

قال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله: اختلف في معنى الورود، فقيل: ورودها: حضورها للخلائق كلهم، حتى يحصل الانزعاج من كل أحد، ثم بعد ينجي الله المتقين، وقيل: ورودها: دخولها وحضورها، فتكون على المؤمنين بردًا وسلامًا، وقيل: الورود: هو المرور على الصراط، الذي هو على متن جهنم، فيمرُّ الناس على قدر أعمالهم، فمنهم من يمرُّ؛ كلمح البصر، وكالريح، وكأجاويد الخيل، وكأجاويد الركاب، ومنهم مَنْ يسعى، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يخطف فيلقى في النار، كُلٌّ بحسب تقواه.

وعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((انصر أخاك ظالِمًا أو مظلومًا))، قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالِمًا؟ قال: ((تأخذ فوق يديه))؛ [أخرجه البخاري].

أشكل على الصحابة رضي الله عنهم كيف ينصرون أخاهم إذا كان ظالِمًا، فسألوا، فأوضح لهم الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك.

وعن يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب قُلتُ: ﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [النساء: 101]، وقد أمن الناس؟ قال: عجبتُ مما عجبت منه، فسألتُ رسول الله عن ذلك فقال: ((صَدَقة تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته))؛ [أخرجه مسلم].

قال الإمام النووي رحمه الله: وفيه أن المفضول إذا رأى الفاضل يعمل شيئًا يشكل عليه يسأله عنه والله أعلم.

وعن ابن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات يوم الفتح بوضوءٍ واحد، ومسَحَ على خُفَّيه، فقال له عمر: صنعت اليوم ــــ(95)

شيئًا لم تكن تصنعُهُ قال: ((عمدًا صنعتُهُ يا عُمَرُ)) [أخرجه مسلم]، قال الإمام النووي رحمه الله: وفي هذا الحديث جواز سؤال المفضول للفاضل عن بعض أعماله التي ظاهرها مخالفة العادة؛ لأنها قد تكون عن نسيان فيرجع عنها، وقد تكون تعمُّدًا لمعنى خفي على المفضول، فيستفيده، والله أعلم.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر النساء، تصدَّقْن، وأكثرْنَ من الاستغفار، فإني رأيتكن أكثرَ أهل النار))، فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: ((تكثرن، وتكفرْنَ العشير، وما رأيتُ من ناقصات عقلٍ ودينٍ أغلب لذي لُبٍّ منكنَّ))، قالت: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال: ((أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدلُ شهادة رجل، فهذا نُقصان العقل، وتمكث الليالي ما تُصلِّي وتفطرُ في رمضان فهذا نقصان الدين))؛ [متفق عليه].

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: جواز رفع الإشكال بالسؤال عن سبب الحكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يُنكر على هذه المرأة التي قالت: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟!

السؤال عن بر الوالدين بعد موتهما:

عن مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، هل بقي من بِرِّ أبويَّ شيءٌ أبرُّهما بعد موتهما؟ فقال: ((نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما))؛ [أخرجه أبو داود].

 

ــــ(96)

السؤال عن أمر يُعتصمُ به:

عن سفيان بن عبدالله الثقفي رضي الله عنه قال: قلتُ يا رسول الله، حدثني بأمر أعتصم به قال: ((قُل: ربي الله ثم استقم))، قلتُ: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف عليَّ؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: ((هذا))؛ [أخرجه أحمد].

السؤال عن أدعية وتعوذات:

عن شتير بن شكل، عن أبيه رضي الله عنه، قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلتُ: يا رسول الله، علِّمني تعوُّذًا أتعوَّذُ به، قال: فأخذ بكفِّي، فقال: ((قُل: اللهم إني أعوذ بك من شرِّ سمعي، ومن شرِّ بصري، ومن شرِّ لساني، ومن شرِّ منيِّي))؛ يعني: فرجي؛ [أخرجه الترمذي].

 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا بكر قال: يا رسول الله، مُرني بشيءٍ أقوله إذا أصبحتُ وإذا أمسيتُ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بالله من شرِّ نفسي، ومن شرِّ الشيطان وشركه، قُلْها إذا أصبحت، وإذا أمسيتَ، وإذا أخذت مضجعك))؛ [أخرجه الترمذي].

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أيَّ ليلةٍ ليلة القدر، ما أقُولُ فيها؟ قال: ((قولي: اللهم إنك عفوٌّ كريمٌ تحبُّ العَفْوَ فاعْفُ عني))؛ [أخرجه الترمذي] وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، علِّمني شيئًا أسأله الله عز وجل؟ قال: ((سل الله العافية))، فمكثتُ أيَّامًا، ثم جئت، فقلتُ: يا رسول الله، علمني شيئًا أسأله الله؟ فقال لي: ((يا عباس، يا عم رسول الله، سل الله العافية في الدنيا والآخرة))؛ [أخرجه الترمذي].

ــــ(97) 

عن أبي مالك الأشجعي قال: حدثني أبي أنه سمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذ أتاه الإنسان يقول: كيف يا رسول الله أقول حين أسأل ربي؟ قال: ((قُل: اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني - وقبض أصابعه الأربع إلا الإبهام - فإن هؤلاء يجمعن لك دُنياك وآخرتك))؛ [أخرجه أحمد].

اللهم اجعلنا ممن يسأل ليعمل، ووفِّقنا لحُسْن السؤال، وحُسْن العمل، واجعل أعمالنا في رضاك.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ــــ(98)

فصل : صور من خوفهم رضي الله عنهم

 من أسماء الله الحسنى: العزيز، الجبار، المتكبر، القهار، القوى، المتين؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الحشر: 23]، فالله جل وعلا له عز القوة، والامتناع، والقهر والغلبة لجميع الكائنات.

وقال عز وجل: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 18]، فهو جل وعلا قد ذلت له جميع المخلوقات، وقال جل جلاله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58]، فهو سبحانه وتعالى شديد القوة، الذي لا يُعجزه شيءٌ، ولا يغلبه غالبٌ.

ولإيمان المسلم بهذا الأسماء آثارٌ عظيمة، وثمارٌ مباركة كثيرة؛ منها: استشعار الخوف الشديد من الله سبحانه وتعالى، والخوف من الله جل جلاله عبادة عظيمة، بتكميلها يكمل توحيد العبد، وبنقصها يكون النقص لكمال توحيده، وقد أمر الله بالخوف منه وخشيته في مواضع كثيرة من كتابه الكريم؛ قال الله جل وعلا: ﴿ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ [البقرة: 40]؛ أي: فاخشوني، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ﴾ [المائدة: 44].

وهناك فروق بين الخشية والخوف ذكرها أهل العلم؛ منها:

أن الخشية تكون عن علم، والخوف قد يكون عن علم، وقد يكون بدون علم، ومنها: أن الخشية تكون لعظمة المخشي، أما الخوف فقد يكون لضَعف الخائف، وإن لم يكن المخوف قويًّا.

 وقد ورد عن السلف رحمهم الله أقوال تبيِّن أهمية هذه العبادة في حياة المسلم، منها

ــــ(99)

• ما فارق الخوف قلبًا إلا خرب.

• الخائف هارب من ربه إلى ربه.

• لا يمحو الشهوات إلا خوف مزعج، أو شوق مقلق.

• التقوى تتولد من الخوف.

• أصل كل خير الخوف من الله.

• إذا سكن الخوف القلوب أحرَق مواضع الشهوات منها، وطرد الدنيا عنها.

• صدق الخوف هو الورع عن الآثام ظاهرًا وباطنًا.

• إن من خاف الله، خاف منه كل شيءٍ، ومن لم يخف الله، خاف من كل شيءٍ.

والخوف من الله جل جلاله من لوازم الإيمان؛ قال عز وجل: ﴿ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175]، قال العلامة السعدي رحمه الله: وعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: الخوف علامة صحة الإيمان، وترحُّله من القلب علامة ترحُّل الإيمان منه.

ومن بكى من خشية الله لم يلجِ النار، ولم تمس النارُ عينيه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله...)؛ [أخرجه الترمذي]، وقال علية الصلاة والسلام: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)؛ [أخرجه الترمذي].

ومن خاف الله بادَر إلى عمل الطاعات، واجتناب المنكرات؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلَغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، إلا إن سلعة الله الجنة)؛ [أخرجه الترمذي].

 

ــــ(100) 

ومن خاف الله فرج الله له، وأخرَجه من الضائقات، ونجاه من الكروب، فالثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، ولم يستطيعوا الخروج منه، قال بعضهم لبعض: لن ينجيكم إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فأحدهم ذكر أنه راود ابنة عم له عن نفسها بمائة دينار، فأبت، ثم إنها ألَمَّت بها لائمة، فجاءت إليها ومكَّنته من نفسها، فلما قعد بين رجليها، قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، قال: فقمتُ عنها، وتركتُ لها المائة دينار، فإن كنتَ تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك، ففرِّج عنَّا، ففرَّج الله عنهم فخرَجوا.

والعلماء هم أخشى الناس لله جل جلاله؛ لأنهم أعلم وأعرف الناس بالله؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: من كان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه أعلمَ، كان له أخشى وأتقى، وإنما تنقص الخشية والتقوى بحسب نقص المعرفة بالله.

والملائكة الذين هم في غاية الطاعة لله عز وجل قولًا وفعلًا، مشفقون من خشية الله جل جلاله؛ قال سبحانه وتعالى عنهم:﴿ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 28]، وكثير من المسلمين يرتكبون المعاصي، ولا يحرك ذلك في قلوب بعضهم ساكنًا، فتراهم لا يخافون من تلك المعاصي، ولا من آثارها وتبعاتها في الدنيا والآخرة، مع أن الواجب على المؤمن أن يخاف من ذنوبه، ويرى أنها عظيمة، كأنها جبل فوقه سيسقط عليه؛ كما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وأن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه، فقال به هكذا)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن تقع عليه)، قال ابن أبي جمرة: السبب في ــــ(101)

ذلك أن قلب المؤمن منور، فإذا رأى من نفسه ما يخالف ما ينور به قلبه، عظُم الأمر عليه، والحكمة في التمثيل بالجبل أن غيره من المهلكات قد يحصل التسبب إلى النجاة منه، بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص لا ينجو منه في العادة، وحاصله أن المؤمن يغلب عليه الخوف لقوة ما عنده من الإيمان، فلا يأمن العقوبة بسببها، وهذا شأن المسلم أنه دائمُ الخوف والمراقبة، يستصغر عمله الصالح، ويخشى من صغير عمله السيئ، قوله: (وأن الفاجر يرى ذنوبه كذباب)؛ أي: ذنبه سهل عنده لا يعتقد أنه يحصل له بسببه كبيرُ ضررٍ، كما ضرر الذباب عنده سهل، وكذا دفعه عنه، قال المحب الطبري: إنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله ومن عقوبته؛ لأنه على يقين من الذنب، وليس على يقين من المغفرة، والفاجر قليل المعرفة بالله، فلذلك قلَّ خوفه واستهان بالمعصية، وقال ابن أبي جمرة: السبب في ذلك أن قلب الفاجر مظلم، فوقوع الذنب عنده خفيف عنده، ولهذا تجد من يقع في المعصية إذا وعظ يقول: هذا سهل، وقال: ويستفاد من الحديث أن قلة خوف المؤمن ذنوبه وخِفته عليه، يدل على فجوره"

والذي ينبغي على المؤمن أن يخاف ذنوبه، ويبكي عليها، عن عقبة الجهني رضي الله عنه قال قلتُ يا رسول الله ما النجاة؟ قال: (أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك وابكِ على خطيئتك)[أخرجه الترمذي]وعن عائشة رضي الله عنها قالت قلتُ: يا رسول الله قول الله ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾[المؤمنون: 60] أهو الذي يزني ويشرب الخمر، ويسرق؟ قال: (لا يا بنت الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يتقبل منه[أخرجه الترمذي]، قال الحسن رحمه الله: عملوا واللهِ بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن تُرَدَّ عليهم.

ــــ(102) 

وهذا هو حال الصحابة رضي الله عنهم، لهم اجتهاد في العبادة والطاعة، ومع ذلك يخافون ولا تغرُّهم تلك الطاعات والعبادات، ولهم مواقفُ تُبيِّن شدة خوفهم؛ منها:

خوفهم النفاق على أنفسهم:

فعن ابن أبي مليكة رضي الله عنه، قال: أدركتُ ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كُلُّهم يخافُ النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل؛ [أخرجه البخاري]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة من أجلِّهم: عائشة وأختها أسماء وأم سلمة، والعبادلة الأربعة وأبو هريرة...، وقد جزَم بأنهم يخافون النفاق في الأعمال، وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يشوبه مما يخالف الإخلاص، ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعُهم منهم، بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى رضي الله عنهم".

 وأمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يخاف النفاق على نفسه، وكان يسأل حذيفة رضي الله عنه: هل ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم وعدَّه من المنافقين؟ وكان حذيفة يُجيبه بالنفي.

خوفهم رضي الله عنهم من الفتن:

عن العلاء بن المُسيب عن أبيه، قال: لقيتُ البراء بن عازب رضي الله عنهما، فقلتُ: طُوبى لك! صحِبت النبي صلى الله عليه وسلم، وبايعته تحت الشجرة، فقال: يا بن أخي، إنك لا تدري ما أحدثنا بعده؛ [أخرجه البخاري].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: (إنك لا تدري ما أحدثنا بعده)، يشير إلى موقع لهم من الحروب وغيرها، فخاف غائلة ذلك، وذلك من كمال فضله.

ــــ(103)

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: هذا من خوف الصحابة رضي الله عنهم من الذنوب والفتن التي حصلت في أواخر عهد الصحابة.

خوفهم رضي الله عنهم أيهم يكون الناجي من بعث النار:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدمُ، يقول: لبيك ربنا وسعديك، فينادي بصوتٍ: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار، قال: يا ربِّ وما بعث النار؟ قال: من كلِّ ألفٍ - أراه قال - تسعمائةٍ وتسعةً وتسعين، فحينئذ تضعُ الحامل حملها، ويشيب الوليدُ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، فشقَّ ذلك على الناس حتى تغيَّرت وُجُوهُهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين، ومنكم واحد، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة)، فكبَّرنا، ثم قال: (ثُلث أهل الجنة)، فكبَّرنا، ثم قال: (شطر أهل الجنة)، فكبَّرنا؛ [أخرجه البخاري ومسلم]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ومن فوائد الحديث: شدةَّ مخافة الصحابة رضي الله عنهم من الله؛ لأنه لما ذكر بعث النار، وقال: (من كل ألفٍ تسعمائةٍ وتسعة وتسعين)، يعني: وواحد في الجنة، شقَّ ذلك عليهم حتى تغيَّرت وجوههم، وفي رواية أُخرى: قالوا: يا رسول الله، أيُّنا ذلك الواحد؟ يعني: الذي ينجو، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن أن منَّا واحدًا، ومن يأجوج ومأجوج تسعمائةٍ وتسعةً وتسعين.

 

 

ــــ(104)

شدة خوف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسيرُ في بعض

أسفاره وعمر بن الخطاب يسيرُ معه ليلًا، فسأله عمر بن الخطاب عن شيءٍ، فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سأله فلم يُجبهُ، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر بن الخطاب: ثكلت أم عمر! نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كُلُّ ذلك لا يُجيبك، قال عمر: فحركت بعيري، ثم تقدمت أمام الناس، وخشيت أن يُنزل فيَّ قرآن، فما نشبتُ أن سمعتُ صارخًا يصرُخُ بي، فقلتُ: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمتُ عليه، فقال: (لقد أُنزلت عليَّ الليلة سورة، لهي أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس)، ثم قرأ: إنا فتحنا لك فتحنًا مُبينًا؛ قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في الحديث دليل على فوائد؛ منها: شدة خوف عمر رضي الله عنه، وكان عمر رضي الله عنه على شدته من أخوف الناس من عذاب الله، حتى إنه أحيانًا يمرض إذا قرأ بعض الآيات التي فيها التخويف، ويُعاد، ويبقى أسبوعًا مريضًا، من شدة ما سمع رضي الله عنه، ولذلك هرب من عند النبي علية الصلاة والسلام، وتقدم، خوفًا من أن ينزل فيه قرآن، وهذا لشدة ما وجد في نفسه.

وقد قال لابنته أم المؤمنين حفصة رضي الله عنهما: أي حفصة، أتغاضب إحداكنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم، قال: قد خبت وخسرت، أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم فتهلكي؟ قال العلامة محمد العثيمين رحمه الله: وفيه: شدَّة خوف عمر رضي الله عنه من الله سبحانه وتعالى؛ حيث قال: أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم؟

ــــ(105)

خوف الصحابي ثابت بن قيس رضي الله عنه أن يكون حبط عمله:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾ [الحجرات: 2] إلى قوله: ﴿ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 2]، وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت، فقال: أنا الذي كنتُ أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حبط عملي، أنا من أهل النار، وجلس في بيته حزينًا، فتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بعض القوم إليه، فقالوا له: تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك؟ فقال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي، وأجهر بالقول حبط عملي، وأنا من أهل النار، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال، فقال: (لا، بل هو من أهل الجنة)؛ [متفق عليه]قال العلامة العثيمين رحمه الله في هذا دليل على أن الخوف قد تكون عاقبته خيرًا فهذا الرجل خاف أن يكون من أهل النار؛ لأنه كان جهوري الصوت وكان أحد خُطباء النبي صلى الله عليه وسلم, وكان فصيحًا بليغًا رضي الله عنه فلما نزلت هذه الآية فلشدة خوفه من الله عز وجل احتبس في بيته يبكي، حتى كان لا يحضر مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، ففقده النبي علية الصلاة والسلام، وسأل عنه فقال الرجل: أنا أُخبرك خبره فذهب إليه، فقال: ما الذي حبسك؟ قال: (شر) يعني: بحسب ظنه لا بحسب الواقع, وهو أنه كان يرفع صوته عند النبي صلى الله عليه وسلم فخاف أن يحبط عمله وهو لا يشعر هكذا قال الرجل، فأخبر الرجل النبي صلى الله عليه وسم بذلك ولكنه بشَّرهُ هذه البشارة العظيمة قال له: (إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة) وقال في رواية (أما ترضى أن تعيش حميدًا وتُقتل شهيدًا وتدخل الجمة) وقُتل رضي الله عنه شهيدًا في غزوة اليمامة

ــــ(106)

شدة مخافة الله في قلب كعب بن مالك رضي الله عنه:

في قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك، لما رجع الرسول عليه الصلاة والسلام من الغزوة، اعتذر إليه المنافقون فقبِل منهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، أما كعب بن مالك رضي الله عنه، فقد جاء إليه وسلم عليه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟)، فقال كعب: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذرٍ، وقد أعطيت جدلًا، ولكني والله لقد علمتُ لئن حدَّثتُك اليوم حديثَ كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يُسخطك عليَّ، ولئن حدَّثتُك حديث صدقٍ تجدُ عليَّ فيه، إني لأرجو عفوًا فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قطُّ أقوى ولا أيسر منَّي حين تخلفتُ عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك)؛ قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: هذا الحديث فيه فوائد كثيرة؛ منها: شدة مخافة الله في قلب كعب بن مالك رضي الله عنه؛ لأنه بيَّن أنه لو جلس عند أحد من ملوك الدنيا، لخرج منه بعذر؛ لأنه أُعطي جدلًا ومحاجة ومخاصمة، ولكنه يخشى أن يخرج من الرسول علية الصلاة والسلام بعذر، ثم ينزل فيه قرآن يفضَحه، فلهذا أخبر بالصدق.

خوف عبدالرحمن بن عوف رضي الله من كثرة ماله أن يهلكه:

عن أم المؤمنين أم سلمه رضي الله عنها، قالت: دخل عليها عبدالرحمن بن عوف، فقال: يا أُمه، قد خفت أن يهلكني كثرة مالي أنا أكثر قُريش مالًا، قالت: يا بني فأنفق؛ [أخرجه أحمد].

ــــ(107)

والصحابة رضي الله عنهم، إذا أذنبوا أحدث ذلك لهم قلقًا في أنفسهم، وخوفًا من الله جل جلاله في قلوبهم، جعلهم يقومون بعمل الآتي:

المبادرة إلى التوبة:

عن أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، أنها اشترت نُمرقة فيها تصاوير، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بالباب، فلم يدخل، فقالت: أتوب إلى الله مما أذنبت، قال: (ما هذه النمرقة؟)، قُلتُ: لتجلس عليها، وتتوسَّدها، قال: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يُقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه الصورة)؛ [أخرجه البخاري]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في هذا الحديث دليل على فوائد، منها:

• شدَّة إنابة عائشة رضي الله عنها؛ لأنها عرفت أن الرسول علية الصلاة والسلام لم يمتنع من الدخول إلا لسبب، فقالت: أتوب إلى الله مما أذنبتُ.

 • المبادرة بالتوبة من حين أن يعلم الإنسان بالذنب، ولا يؤخر، وهذا كما هو مقتضى الشرع، فهو أيضًا مقتضى العقل؛ لأن المعصية إذا استمر الإنسان عليها بعد أن علم أنها معصية، فإنما يزداد إثمًا وبعدًا من الله عز وجل.

 الندم الشديد على المعصية:

الصحابة رضي الله عنهم، إذا ارتكب أحدهم ذنبًا، ندم على ذلك، واستشعر مغبة ذلك الذنب، وخاف من تبعاته، وظهر أثر هذا الخوف والندم، في التعبير عمَّا فعل بعبارات قوية، قال الصحابي الذي وقع على امرأته في رمضان: (هلكت)، وفي رواية ثانية: (احترقت)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه: الندم على المعصية، واستشعار الخوف.

ــــ(108)  

فعل ما يكون كفارةً لذنوبهم:

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن لطَم مملوكه أو ضربه، فكفارته أن يعتقه)؛ [أخرجه مسلم]، والصحابة رضي الله عنهم قد يغضب أحدهم على أحد مماليكه، وقد يضربه، لكنه يُسارع بفعل ما يكون كفارة لما قام به، فيعتقُ من قام بضربه من مماليكه، ومن الصحابة الذين قاموا بذلك:

• ابن عمر رضي الله عنه، فقد أعتق مملوكًا، وأخذ من الأرض عودًا، وقال: ما فيه من الأجر ما يساوي هذا، إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من لطم مملوكه أو ضربه، فكفارته أن يعتقه) [أخرجه مسلم] قال العلامة العثيمين رحمه الله: قول ابن عمر رضي الله عنهما:( ما فيه من الأجر ما يسوى هذا) يعني: أنني لا أريدُ بذلك البرَّ والتقرب إلى الله عز وجل ولكن أُريدُ بذلك زكاة نفسي.

• ومنهم: أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال: كنتُ أضرب غلامًا لي، فسمعتُ من خلفي صوتًا: (اعلم أبا مسعود، للهُ أقدرُ عليك منك عليه)، فالتفتُّ، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله: هو حُرٌّ لوجه الله، فقال: (أما لو لم تفعل، للفحتك النار، أو لمستك النار)؛ [أخرجه مسلم].

 • ومنهم: أبو معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، قال: كانت لي جارية ترعى غنمًا... فاطَّلعت ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صكَكتُها صكةً، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَعَظَّمَ ذلك عليَّ، قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها قال: (ائتني بها)، فأتيته بها، فقال لها: (أين الله؟)، قالت: في السماء قال: (من أنا)، قالت: أنت رسول الله قال: (اعتقه فإنها مؤمنة)؛ [أخرجه مسلم].

ــــ(109) 

طلبهم من الرسول علية الصلاة والسلام أن يطهرهم من ذنوبهم:

مع أن الأفضل للعاصي أن يستر على نفسه، وأن يتوب إلى الله من ذنوبه، ولا يذكر ذلك لأحد، إلا أن الخوف من الله جل جلاله بلغ في قلوب الصحابة رضي الله عنهم مبلغًا عظيمًا، أدى بهم أن يطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطهرهم من ذنوبهم التي اقترفوها، ولو كان ثمن ذلك موتهم وإزهاق أرواحهم، فقد جاء ماعز رضي الله عنه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام واعترف مرارًا بأنه زنا، وطلب أن يُطهره، فرُجِم حتى مات، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي هذا الحديث منقبة عظيمة لماعز بن مالك؛ لأنه استمر على طلب إقامة الحد عليه...، ولم يرجع عن إقراره، مع أن الطبع البشري يقتضي أنه لا يستمر على الإقرار بما يقتضي إزهاق رُوحه، فجاهد نفسه على ذلك وقوِي عليها، وأقرَّ من غير اضطرار إلى إقامة ذلك عليه بالشهادة، مع وضوح الطريق إلى سلامته من القتل بالتوبة.

رضي الله عنه، جاء في رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لقد رأيتُه بين أنهار الجنة ينغمس)، وفي رواية: (قد غُفِر له وأُدخِل الجنة).

 وكما جاء ماعز فقد جاءت الغامدية رضي الله عنها، واعترفت بالزنا، وطلبت من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُطهرها، وكانت حاملًا من الزنا، فطلب منها الرسول علية الصلاة والسلام، أن تذهب حتى تضعه، فذهبت حتى وضعته، ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم ليطهرها، فأمرها أن تذهب وترضعه حتى تفطمه، ثم جاءتْه بعد أن فطمتْه، تطلب أن يطهرها، فمرور الأيام لم يجعل الخوف من الله العظيم يزول من قلبها، عند ذاك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تُرجَم، فشُدَّتْ عليها ثيابُها، ورُجِمَتْ حتى ماتت، رضي الله عنها.

ــــ(110) 

ولم يقتصر الخوف في قلوبهم على فعل الكبائر، بل إن الخوف من الذنوب ولو كانت صغائر، موجود في قلوبهم رضي الله عنهم، فإذا ارتكب أحدهم صغيرة، جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يفعل به ما يشاء، رجاء أن يكون تطهيرًا له، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني وجدت امرأة في بستان، ففعلت بها كل شيء غير أني لم أُجامعها، قبَّلتها ولزِمتها، فافعل بي ما شئت؛ [أخرجه مسلم]، فرضِي الله عن أولئك الصحب الكرام، وجمعنا وإياهم في مستقر رحمته.

البكاء على ما قاموا به:

لقد بلغ الخوف بالصحابة رضي الله عنهم أن يبكوا على ما فاتهم من الخير، ففي قصة الثلاثة الذين خُلِفوا كعب بن مالك وصاحبيه، قال كعب رضي الله عنه وهو يحكي ما حدث له: ففاضت عيناي، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه: استحباب بكاء العاصي أسفًا على ما فاته من الخير.

وفي الختام فمما ينبغي التنبيه إليه أن على العبد الخوف من الله جل جلاله، وخشيته في الغيب والشهادة، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: فأما خشية الله في الغيب والشهادة، فالمعنى بهما أن العبد يخشى الناس سرًّا وعلانية، وظاهرًا وباطنًا، فإن أكثر الناس يرى أنه يخشى الله في العلانية وفي الشهادة، ولكن الشأن في خشية الله في الغيب، إذا غاب عن أعين الناس، وقد مدح الله من يخافه بالغيب؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 49]، وقال: ﴿ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 33] وقال تعالى: ﴿ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ﴾ [المائدة: 94]

ــــ(111)

وقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [الملك: 12]، كان بعض السلف يقول لإخوانه: زهَّدنا الله وإيَّاكم في الحرام زهادة من قدَر عليه في الخلوة، فعلِم أن الله يراه فترَكه، والموجب لخشية الله في السر والعلانية أمورٌ؛ منها: قوة الإيمان بوعده ووعيده على المعاصي، ومنها: النظر في شدة بطشه وانتقامه وقوته وقهره، وذلك يوجب على العبد ترك التعرض لمخالفته؛ كما قال الحسن: ابن آدم، هل لك طاقة بمحاربة الله، فإن من عصاه فقد حاربه، وقال بعضهم: عجبتُ مِن ضعيف يعصي قويًّا، ومنها: قوة المراقبة له، والعلم بأنه شاهد ورقيب على قلوب عباده وأعمالهم".

كما ينبغي التنبيه على مقوله يقولها بعض الناس وهي: "إني أخافك، وأخاف مَن لا يخافك"؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وبعض الناس يقول: يا رب إني أخافك، وأخاف من لا يخافك، وهذا كلام ساقط لا يجوز، بل على العبد أن يخاف الله وحده، ولا يخاف أحدًا، لا من يخاف الله، ولا من لا يخاف الله، فإن من لا يخاف الله أخسُّ وأذلُّ من أن يُخاف، فإنه ظالم، وهو من أولياء الشيطان، فالخوف منه قد نهى الله عنه.

اللهم اجعلنا ممن يخافك ويخشاك في الغيب والشهادة، والسر والعلانية، واجعلنا يا كريم ممن قلت فيهم: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴾ [النازعات: 40]، وممن قلت فيهم: ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 46].

 واجعلنا يا كريم ممن إذا ذكَرك خاليًا فاضتْ عيناه، فنكون بجودك ورحمتك من السبعة الذين تظلهم في ظلك يوم لا ظلَّ إلا ظلُّك

ــــ(112)

فصل : صور من ورعهم رضي الله عنهم

إمام الورعين هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي ينبغي أن يكون القدوة والأسوة لنا في الورع مما لا يُشَكُّ ويُرتابُ فيه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لأنقلب إلى أهلي، فأجد التمرة ساقطة على فراشي، فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فأُلقيها))؛ [متفق عليه].

قال الإمام النووي رحمه الله: وفيه استعمال الورع؛ لأن هذه التمرة لا تحرم بمجرد الاحتمال، لكن الورع تركُها، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: لم يمتنع من أكلها إلا تورُّعًا؛ لخشية أن تكون من الصدقة التي حُرِّمت عليه.

تمرة مشكوك فيها، هل هي من تمر الصدقة أو من غيره، ومع ذلك تورع إمام الورعين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عنها وتركها، فاللهم ارحمنا وتجاوز عنا.

الورع يشمل ترك المحرمات، ويشمل ترك المشتبهات، فما يخشى المسلم من عاقبته في الآخرة فليتركه؛ فعن الحسين بن علي رضي الله عنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((دع ما يُريبُك إلى ما لا يُريبُك))؛ [أخرجه النسائي والترمذي].

قال الإمام ابن العطار رحمه الله: ومعناه: اترك ما شككتَ في حلِّه وإباحته إلى ما لا تشُكُّ في حلِّه وإباحته، وذلك الورع المطلوب به.

وقال العلامة ابن الملقن رحمه الله: وهو أصل عظيم في الورع.

وقال العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله: هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الدين، وأصل الورع الذي عليه مدار اليقين.

 

ــــ(113)

والتورع عن الأمور الْمُشتبهات شامل لكل شيءٍ؛ قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: "فالذي يريب اتركه، سواء كان من العلم، أو القول، أو العمل، أو العلاقات، أو الظن، فكل ما يُربيك فتخاف منه ولا تطمئنُّ إليه دعه واتركه إلى أمر لا يُربيك".

والورع قُرْبة يُؤجَر عليها المسلم؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحلال بيِّنٌ، وإن الحرام بيِّنٌ، وبينهما أُمور مُشتبهات، لا يعلمهُنَّ كثير من الناس، فمن اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام))؛ [متفق عليه].

قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: وفي الحديث مشروعية اجتناب الشبهات، وأن الاحتياط في الأعمال من القربات التي يتقرب بها الإنسان إلى ربه، وأن الورع عمل صالح يؤجر العبد عليه.

ومن الأمور التي ينبغي الحرص على الورع فيها: ما يأكله الإنسان ويشربه؛ لأن إجابة الدعاء متوقُّف على كونها طيبة مباحة؛ قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ينبغي للمؤمن أن يتوقف فيما يشك فيه، فإن هذا من الورع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فمن اتقى الشُّبهات استبرأ لدينه وعرضه))، لا سيما في المآكل والمشارب التي طيبها من أسباب إجابة الدعوة، وخبثها من أسباب ردِّ الدعوة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يُطيل السفر، أشعث أغبر، يمدُّ يديه إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام، قال: ((فأنَّى يُستجاب لذلك))، فليحرص الإنسان على الورع، لا سيما في مأكله ومشربه وملبسه ومنكحه، فإن الأمر خطير جدًّا.

ــــ(114)

وإذا كانت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما تقول: إن الناس قد ضيَّعوا أعظم دينهم: الورع، فما هو حالنا اليوم؟! قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ورع الصحابة ليسوا كحالنا اليوم، إذا قلت: نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: هل هو حرام أو لا؟ ثم تقول: نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: نعم، لكن هل هو حرام، أو ليس حرامًا؟ يُريدُ منك أن تقول: ليس بحرام، من أجل أن يفعله؛ ولكن الإنسان الورع إذا قيل له: نهى عنه الرسول عليه الصلاة والسلام تركه، فإن كان حرامًا أُثيب عليه ثواب ترك الحرام، وإن كان مكروهًا أُثيب عليه ثواب ترك المكروه.

لقد كان للورع منزلة عظيمة عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ضربوا رضي الله عنهم أمثلة عظيمة في ذلك، في أشياء يسيرة لا يلقي لها كثير من الناس اهتمامًا، فخالد بن الوليد رضي الله عنه، دخل مع الرسول صلى الله عليه وسلم على ميمونة رضي الله عنها، وهي خالتُهُ، وكان عندها ضبٌّ محنوذٌ، فقدمت الضبَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الضبِّ، فقالت امرأة من النساء: إنه ضبُّ يا رسول الله، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَهُ عن الضبِّ، فقال خالد بن الوليد: أحرامٌ الضَّبُّ يا رسول الله؟ قال: (( لا، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه))؛ [أخرجه البخاري].

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وفي الحديث دليل على ورع الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رفع يده، سأله خالد رضي الله عنه، فقال: أحرامٌ الضَّبُّ يا رسول الله؟

 

ــــ(115)

ومن أمثلة ورع الصحابة رضي الله عنهم:

توقيهم سكنى الحرم:

فقد كان جماعة من الصحابة يتقون سكنى الحرم؛ خشية ارتكاب الذنوب فيه؛ منهم: ابن عباس، وعبدالله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهم.

توقُّفهم عن أخذ العوض على قراءة القرآن:

فقد ذكر أبو سعيد الخدري رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث قومًا من أصحابه في سريَّة، فنزلوا على جماعة من الناس؛ ولكنهم لم يُضيِّفوهم، ثم إن سيد هؤلاء لُدِغَ، فطلبوا منهم أن يرقوا سيَّدَهم، فقام أحد الصحابة فرقاهُ، فبرأ، فأمر لهم بغنم، فقال بعض الصحابة لبعض: لا تحدثوا شيئًا حتى نأتي ونسأل النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدموا المدينة، أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: ((اقسموا واضربوا لي بسهمٍ))؛ [متفق عليه] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: من فوائد الحديث: ورع الصحابة رضي الله عنهم، حيث كفوا عن أخذ هذا العوض إلا بعد أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم.

عدم مساعدتهم لمن صاد وهو حلال وهم مُحرِمون:

عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: "كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم فيما بين مكة والمدينة، وهو محرم، وأنا رجل حل على فرس، وكُنتُ رقَّاءً على الجبال، فبينا أنا على ذلك إذ رأيتُ الناس مُتشوفين لشيءٍ، فذهبتُ أنظره، فإذا هو حمار وحش، فقلت لهم: ما هذا؟ قالوا: لا ندري، قلتُ: هو حمار وحش! فقالوا: هو ما رأيت، وكنتُ نسيت سوطي، فقلتُ لهم: ناولوني سوطي، فقالوا: لا نُعينك عليه، فنزلت فأخذته"؛[أخرجه البخاري].

ــــ(116)

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في هذا الحديث دليل على فوائد؛ منها: ورع الصحابة رضي الله عنهم، وذلك من وجوه: أنه لما قال: هو حمار وحش، قالوا: هو ما رأيت! ولم يقولوا: حمار وحش، وأنه بعد ما قتله، وطلب منهم حمله، لم يحملوه حتى ذهب هو، وحمله إليهم.

ورع أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان لأبي بكر غلامٌ يُخرجُ له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيءٍ فأكل منه أبو بكر، فقال الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: ما هو؟ فقال: لقد تكهنتُ لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني لذلك هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كلَّ شيءٍ في بطنه"؛ [أخرجه البخاري]، قال الإمام الطيبي رحمه الله: فقاء؛ أي: للورع.

وقد جاء عمر بن الخطاب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وقال له: "إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن، فقال أبو بكر: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير"؛ [أخرجه البخاري] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في هذا الحديث فوائد؛ منها: ورع أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه قال: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

وعن الحسن رضي الله عنهما قال: لما احتُضِر أبو بكر رضي الله عنه قال: يا عائشة، انظري اللقحة التي كنَّا نشرب لبنها، والجفنة التي كنَّا نصطبح فيها، والقطيفة التي ــــ(117)

كُنَّا نلبسها، فإنا كنا ننتفع بذلك حين كنا في أمر المسلمين، فإذا متُّ فارْدديه إلى عمر، فلما مات أبو بكر رضي الله عنه أرسلت به إلى عمر رضي الله عنه، فقال: رضي الله عنك يا أبا بكر، لقد أتعبتَ مَن جاء بعدك"؛ [أخرجه الطبراني في الكبير]

ورع عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

وعن نافع "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف، وفرض لابنه ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين، فلمَ نقصته؟ فقال إنما هاجر به أبوه يقول ليس هو كمن هاجر بنفسه[أخرجه البخاري]

عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه مسك وعنبر من البحرين، فقال عمر: والله لودِدْتُ أني أجد امرأة حسنة الوزن، تزن لي هذا الطيب، حتى أُفرِّقه بين المسلمين، فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد: أنا جيدة الوزن، فهَلُمَّ أزن لك، قال: لا، قالت: ولِمَ؟ قال: إني أخشى أن تأخذيه هكذا، وأدخل أصابعه في صدغيه، وتمسحين عنقك، فأصيب فضلًا من المسلمين"؛ [أخرجه الإمام أحمد في الورع].

ورع عبدالله بن مسعود رضي الله عنه:

عنه رضي الله عنه قال: لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمِّصات، والمتفلِّجات للحُسْن، المغيِّرات خلق الله، فبلغ ذلك امرأة، فجاءت فقالت له: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت، وإني أرى أهلك يفعلونه، قال: فاذهبي فانظري، فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئًا فقال: لو كانت كذلك ما جامعتها[متفق عليه]قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في هذا دليل على ورع الصحابة رضي الله عنهم وكراهيتهم أن يجتمعوا مع امرأة تعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم

ــــ(118) 

ورع ابن عمر رضي الله عنهما:

عن سالم أن عبدالله بن عمر رضي الله عنه، قال: "كنتُ أعلمُ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تُكرى، ثم خشي عبدالله أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أحدث في ذلك شيئًا، لم يكن يعلمه، فترك كراء الأرض"؛ [متفق عليه].

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: كان ابن عمر رضي الله عنهما استمرَّ في المزارعة زمن النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكر وعمر وعثمان، وصدرًا من إمارة معاوية رضي الله عنهم، لكنه رضي الله عنه كان ورعًا جدًّا، وعنده خوف كثير، فخاف أن يكون النهي عامًّا، وأنه يشمل المزارعة الجائرة، فتركه خوفًا من أن يكون حدث في الأمر شيء ما علِمه.

ورع عبدالله بن مغفل رضي الله عنه:

عنه رضي الله عنه أنه رأى رجلًا يحذف، فقال له: لا تحذف، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحذف، أو كان يكره الحذف، وقال: ((إنه لا يُصاد به صيد، ولا يُنكى به عدو، ولكنها قد تكسر السن، وتفقأُ العين))، ثم رآه بعد ذلك يحذف، فقال له: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الحذف، أو كره الحذف وأنت تحذف! لا أُكلمك كذا وكذا"؛ [متفق عليه].

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: هذا من ورع الصحابة وشدة تعظيمهم لأوامر الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا عبدالله بن مغفل رضي الله عنه هجر هذا الرجل لمدة مُعينة لما رآه يحذف بعد أن سمِع النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك.

ــــ(119)

ورع سعيد بن عامر رضي الله عنه من تولِّي الإمارة:

دعا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سعيد بن عامر رضي الله عنهما، فقال له: إني مستعملك على أرض كذا وكذا، فقال: لا تفتني يا أمير المؤمنين، قال: والله لا أدعك قلدتموها في عنقي وتتركوني؛ [حلية الأولياء وطبقات الأصفياء؛ لأبي نعيم الأصبهاني، وقال محقق الكتاب: إسناده حسن].

ورع أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها:

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: ((يا زينب، ما علمتِ؟ ما رأيتِ؟))، فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمتُ عليها إلا خيرًا، قالت: وهي التي كانت تُساميني فعصمها الله بالورع"؛ [متفق عليه].

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: زينب رضي الله عنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم محبوبة، كما أن عائشة رضي الله عنها كذلك، ومع ذلك لورعها رضي الله عنها ما تكلمت في عائشة، مع أن العادة جرت في مثل هذا أن المرأة إذا رأت إحدى زوجات زوجها محبوبة عنده وغاليةً، جرت العادة أنها تتكلم فيها؛ لأنها تغار، لكن زينب رضي الله عنها من أجل ورعها قالت: والله ما علمتُ إلا خيرًا، وهذه منقبة عظيمة، وذلك أنها حمت سمْعَها وبَصَرَها من الكلام في عائشة رضي الله عنها.

إن على المسلم أن يكون ورعًا، وأن يبتعد عن المشتبهات؛ لأن من اقترب منها وقع فيها، ومن وقع فيها وقع في الحرام، ووقوعه في الحرام يُفسَّر -كما قال الحافظ ابن رجب رحمه الله - بمعنيين:

ــــ(120)

أحدهما: أن يكون ارتكابه للشُّبَه مع اعتقاد أنها شُبَه ذريعةً إلى ارتكابه الحرام بالتدرُّج والتسامُح.

الثاني: أن من أقدم على ما هو مشتبه عنده، لا يدري: أهو حلال أم حرام، فإنه لا يأمَنُ أن يكون حرامًا في نفس الأمر، فيُصادف الحرام، وهو لا يدري أنه حرام.

إن علينا أن نُراجِع أنفسنا في: مأكلنا، ومشربنا، وملبسنا، وكتاباتنا، وما ننظر إليه، وما نستمع إليه، وما نتحدَّث به، وفي المسائل التي نفتي فيها، وفي كل أمورنا؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورَع في كلمة واحدة؛ فقال: ((من حُسْن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه))، فهذا يعمُّ الترك لما لا يعني من: الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع.

وقد ورد عن بعض السلف: إن أشدَّ الورع ورع اللسان، وقال غيره: إنك لتعرف ورع الرجل في كلامه، وقال ثالث: قوم ملوا العبادة، ووجدوا الكلام أهون عليهم من العمل، وقلَّ ورعُهم، فتكلَّموا.

إنَّ من قلَّ ورعُه أكثر الكلام فيما ما لا يعنيه، وفيما لا يُحسِنه، وفيما يضُرُّهُ، وفيما ضررُه أكثرُ من نفعه، فلنجاهد أنفسنا على حَبْسِ ألسنتنا إلا على قول الخير، ما استطعنا لذلك سبيلًا، والله عز وجل في عون العبد الصادق المجاهد لنفسه.

الورع كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله : يطهر دنس القلب ونجاسته، كما يطهر الماءُ دنس الثوب ونجاسته

قال أحد علماء السلف: ما شيء أهون عندي من الورع، إذا رابني شيء تركته.

فهو سهل على من سهَّلَه الله عليه, ومن ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه.

ــــ(121)

فصل : صور من بكاءهم رضي الله عنهم

سبحان من أضحك الإنسان وأبكاه! قال الله عز وجل: ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ﴾ [النجم: 43]، قال الإمام القرطبي رحمه الله: قيل: إن الله تعالى خَصَّ الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان، وليس في سائر الحيوان مَنْ يضحك ويبكي غير الإنسان، وقد قيل: إن القرد وحدَه يضحك ولا يبكي، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك.

الإنسان يضحك في هذه الدنيا، ويبكي لأسباب متعددة، وأغراض متنوِّعة؛ فالمنافقون يضحكون في الدنيا لخداعهم المؤمنين، لكنهم سيبكون كثيرًا في الآخرة؛ قال الله جل جلاله: ﴿ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [التوبة: 82]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الدنيا قليل، فليضحكوا فيها ما شاؤوا، فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى الله عز وجل، استأنفوا بكاءً لا ينقطع أبدًا"، وقال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله: "فليتمتَّعوا في هذه الدنيا المنقضية، ويفرَحوا بلذَّاتها، ويَلهوا بلَعِبِها، فسيبكون كثيرًا في عذاب أليم".

والكفار والسفهاء الذين يضحكون في الدنيا من المؤمنين لاستقامتهم على طاعة الله، سيبكون في الآخرة البكاء الطويل والأليم؛ قال الله جل جلاله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾ [المطففين: 29 - 34]؛ قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:وذلك يوم القيامة وهذا والله الضحكُ الذي لا بكاء بعده أما ضحك المجرمين بالمؤمنين بالدنيا، فإن بعده البكاء الطويل

ــــ(122) 

وهناك من الناس من يبكي لأسباب مُتعدِّدة، فمن بكى من خشية الله وعظمتِه، فله الثواب العظيم، والأجر الكبير؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ تعالى في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه))، وذكَر منهم: ((ورجلٌ ذَكَرَ اللهَ خاليًا ففاضَتْ عَيْناهُ))؛ متفق عليه.

قال أهل العلم: أي خاليًا عن الناس، وفي خلوة وحدَه، أو خاليًا قلبُه من الشواغل، فجمع بين الخوف من الله وإخفاء العمل؛ قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: أي خاليًا من ذِكْر الدنيا، وما يتعلَّق بها، ما في قلبه تلك الساعة إلا الله سبحانه وتعالى، وخاليًا من الناس، ليس عنده أحد؛ لأن مَنْ كان عنده أحد فرُبما تفيض عيناه لنوع من الرياء، نسأل الله العافية والسلامة.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَلِجُ النارَ رجلٌ بكى من خَشْيَةِ الله حتى يعُودَ اللبنُ في الضَّرْعِ، ولا يجتمع غُبارٌ في سبيل الله ودُخانُ جهنَّمَ))؛ أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسنٌ صحيح.

 لقد بكى الصحابة رضوان الله عليهم في مواقفَ متعددةٍ؛ منها:

البكاء في الصلاة :

بكاء أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الصلاة:

عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: ((مُرُوا أبا بكرٍ يُصلِّي بالناس))، قُلتُ: إن أبا بكر إذا قام في مقامِك لم يُسمِعِ الناسَ من البكاء، فمُرْ عُمَرَ فليُصَلِّ بالناس" قال الشيخ محمد أشرف الصديقي العظيم آبادي رحمه الله: "وفي الحديث دليلٌ على أن البكاء لا يُبطِل الصلاة، وقد قيل: إن كان البكاء من خشية الله لم يُبطِل، وهذا الحديث يدلُّ عليه".

ــــ(123)

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: البكاء نوعان:

النوع الأول: مُتكلَّف، وهذا منهيٌّ عنه، كما يفعل بعض الأئمة، ولا سيَّما في قيام رمضان، تجده يتباكى، وإذا بكى صوَّت صوتًا عظيمًا؛ من أجل أن يُبكي الناس، وهذا غلط.

النوع الثاني: بكاء يأتي بطبيعة الحال بدون تكلُّفٍ، وهذا لا شكَّ أنه دليلٌ على رِقَّة القلب، والإنسان يجد ذلك من نفسه، فـأحيانًا يقرأ القرآن، فيجد رِقَّةً في قلبه وبكاءً، وأحيانًا يقرأ نفس الآيات التي قرأها فيما سبق ولا يتحرَّك قلبُه؛ لأن القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن، ولا يكون على وتيرة واحدة، حتى قال بعضهم:

وما سُمِّي الإنسانُ إلا لنَسْيهِ *** ولا القلبُ إلَّا أنَّهُ يَتَقَلَّبُ

البكاء عند قراءة القرآن الكريم:

يقول عبدالله بن مسعود رضي الله: ينبغي لقارئ القرآن أن يُعرَف ببكائه إذا الناس يضحكون، وقال الإمام الآجُرِّي رحمه الله: فأحب لمن قرأ القرآن أن يتحزَّن عند قراءته ويتباكى، ويخشع قلبُه.

قال الإمام النووي رحمه الله: "البكاء عند قراءة القرآن صفةُ العارفين، وشعارُ الصالحين؛ قال الله عز وجل: ﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [مريم: 58]، قال العلامة السعدي رحمه الله: أي خضعوا لآيات الله وخشعوا لها، وأثَّرت في قلوبهم من الإيمان والرغبة والرهبة، ما أوجب لهم البكاء والإنابة والسجود لربهم".

لقد كان خير البشر رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي عند سماعه لآيات الله تُتلَى, فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه

ــــ(124)

وسلم: ((اقرأ عليَّ القرآن))، فقلتُ: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أُنْزِل؟ قال: ((إني أُحِبُّ أن أسمعَه من غيري))، فقرأتُ عليه سورة النساء حتى إذا جئتُ إلى هذه الآية: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41]، قال: ((حسبُك الآن)) فالتفتُّ إليه، فإذا عيناه تَذرفان"؛ متفق عليه

بكاء أبي بكر الصديق رضي الله عنه عند قراءته للقرآن الكريم:

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:" كان أبو بكر رجلًا بكَّاءً، لا يملِكُ عينيه إذا قرأ القرآن"؛ متفق عليه.

بكاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقرأ القرآن في صلاة الفجر:

عن عبدالله بن شداد رضي الله عنه قال: "سمِعتُ نشيج عمر وأنا في آخر الصَّفِّ في صلاة الصبح، وهو يقرأ: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [يوسف: 86]"؛ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف.

البكاء عند سماع المواعظ ورؤية القبر وتذكُّر ما بعد الموت:

بكاء الصحابة إذا وُعِظُوا وذُكِّروا بالله:

عن العرباض بن سارية رضي الله قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبَل علينا فوعَظنا موعظةً بليغةً ذرَفت منها العيون، ووجِلتْ منها القلوب"؛ أخرجه أبو داود؛ قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقوله: "ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب": هذا الوصفان بهما مدح الله المؤمنين عند سماع الذكر؛ كما قال جل جلاله: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الأنفال: 2] وقال: ﴿ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الحج: 34، 35] وقال: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ ــــ(125)

لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَق ﴾ [الحديد: 16] وقال: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 23]، وقال: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ﴾ [المائدة: 83]، وعن أنس رضي الله عنه قال: "خطب النبي صلى الله عليه وسلم خُطْبةً ما سمِعتُ مثلَها قَطُّ، قال: ((لو تعلمون ما أعْلَمُ لضَحِكْتُم قليلًا ولَبَكَيْتُم كثيرًا))، فغطَّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم، لهم حنين"؛ متفق عليه.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: والمراد بالعلم هنا: ما يتعلَّق بعظمة الله وانتقامه ممن يعصيه، والأهوال التي تقع عند النزع والموت، وفي القبر، ويوم القيامة.

وعن أنس رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس، فصلَّى الظهر، فلمَّا سلَّم قام على المنبر، فذكر الساعة، وذكر بين يديها أمورًا عِظامًا، ثم قال: ((من أحبَّ أن يسأل عن شيء، فليسأل عنه، فوالله، ما تسألوني عن شيء إلا أخبرتُكم به في مقامي هذا))، قال أنس: فأكَثَرَ الناسُ البكاء"؛ متفق عليه.

بكاء عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على القبر:

عن هانئ مولى عثمان قال: كان عثمان إذا وقف على قبرٍ يبكي حتى يبلَّ لحيته، فقيل له: تذكَّر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه، فما بعده أيْسَرُ منه، وإن لم يَنْجُ منه فما بَعْدَه أشَدُّ منه))، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما رأيْتُ منظرًا قطُّ إلا والقبر أفظعُ منه))؛ أخرجه ابن ماجه.

ــــ(126) 

بكاء عمرو بن العاص رضي الله عنه لما بعد الموت:

لما حضرت عمرو بن العاص رضي الله عنه الوفاة بكى، فقال له ابنه عبدالله: "لِمَ تبكي؟ أجزعًا على الموت؟ فقال: لا والله، ولكن مما بَعْدُ"؛ أخرجه أحمد.

البكاء لفراق الصالحين ووجعهم:

بكاء أبي بكر رضي الله عنه لفراق رسول الله عليه الصلاة والسلام:

عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن عبدًا خيَّره اللهُ بين أن يُؤتِيَه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده))، فبكى أبو بكر، وقال: يا رسول الله، فَدَيْناكَ بآبائنا وأُمَّهاتنا، قال: فعجِبنا، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يُخبِرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عَبْدٍ خيَّره الله بين أن يُؤتيَه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عند الله، وهو يقول: فَدَيْناك بآبائنا وأُمَّهاتنا، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر، وكان أبو بكر هو أعلمنا به.

وعن أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: "إنَّ أبا بكر رضي الله عنه أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يُكلِّم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُغشًّى بثوب حَبِرةٍ، فكشف عن وجهه ثم أكبَّ عليه فقبَّله، وبكى"؛ متفق عليه.

بكاء عبدالله بن عباس رضي الله عنه لاشتداد وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم:

قال ابن عباس رضي الله عنه: "يوم الخميس، وما يوم الخميس؟ ثم بكى حتى بَلَّ دمعُه الحصى...اشتدَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعُه"؛ أخرجه البخاري.

ــــ(127)

بكاء عبدالله بن مسعود عندما تذكَّر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما:

عن زيد بن وهب قال: سأل عبدَالله رجلانِ عن آية فقال لأحدهما: مَنْ أقرأك؟ قال عمر فقال للآخر, من أقرأك؟ قال: أبو حكيم, فقال: اقرأ كما أقرأك عمر, ثم بكى حتى بَلَّ الحصى دموعُه، ثم قال: إن عمر رضي الله عنه كان للإسلام حِصْنًا حصينًا، يدخلون في الإسلام ولا يخرجون، فلما أُصِيب عمر انثلم الحِصْنُ[ أخرجه الطبراني]

بكاء فاطمة رضي الله عنها عندما أخبرها الرسول عليه الصلاة والسلام بموته:

عن أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فاطمة ابنته فسارَّها فبكَتْ، ثم سارَّها فضحِكَتْ، فقالت عائشة: ما هذا الذي سارَّكِ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فبكيْتِ، ثم سارَّكِ فضحِكْتِ؟ قالت: سارَّني فأخْبَرني بموته فبكيْتُ، ثم سارَّني فأخبرني أني أول مَن أتبعُه من أهله فضحِكْتُ"؛ متفق عليه.

بكاء عمر رضي الله عنه لمقتل النعمان وآخرين في معركة نهاوند:

عندما قُتِل النعمان بن مقرن المزني رضي الله عنه في معركة نهاوند، بايع الناس حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وكان عمر بن الخطاب رضوان الله عليه بالمدينة يدعو الله، فكتب إلى عمر بالفتح مع رجل من المسلمين، فلما قدم عليه قال: أبْشِرْ يا أمير المؤمنين بفَتْحٍ أعزَّ اللهُ فيه الإسلام وأهلَه، وأذلَّ الشِّرْكَ وأهلَه، قال: النعمان بعثَكَ؟ قال: احتَسِبِ النعمانَ يا أمير المؤمنين، فبكى عمر، واسترجع، وقال: ومَنْ وَيْحَكَ؟ قال: فلان وفلان، حتى عدَّ أناسًا، ثم قال: وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم، فقال عمر رضوان الله عليه وهو يبكي: لا يضُرُّهم ألَّا يعرفهم عمرُ لكن الله يعرفهم؛ أخرجه ابن حبان.

ــــ(128)

بكاء أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما طُعِنَ أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب:

لما طُعِن عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه قال: "يا عبدالله، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين؛ فإني لستُ اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمر أن يُدْفَنَ مع صاحبيه، فسلَّم وأستأذن، ثم دخل عليها فوجدها قاعدةً تبكي"؛ أخرجه البخاري.

البكاء سرورًا بنعم الله وفضله:

بكاء أبي بكر رضي الله عنه عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نفعني مال قطُّ ما نفعني مالُ أبي بكر)):

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نفعني مالٌ قطُّ ما نفعني مالُ أبي بكر))، فبكى أبو بكر، وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؛ أخرجه أحمد.

بكاء أبي هريرة رضي الله عنه فرحًا بإسلام أُمِّه:

قال رضي الله عنه: "جئتُ فقلتُ: يا رسول الله، إني كنت أدعو أُمِّي إلى الإسلام فتأبى عليَّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادْعُ الله أن يهدي أمَّ أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم اهْدِ أمَّ أبي هريرة))، فخرجْتُ مستبشرًا بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم فلما جِئتُ...قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أبكي من الفرح"؛ أخرجه مسلم.

بكاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه رأى له قصرًا في الجنة.

ــــ(129)

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ قال: ((بينا أنا نائم رأيتُني في الجنة، فإذا امرأةٌ تتوضَّأ إلى جانب القَصْر، فقلتُ: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرتُ غيرتَه فوَلَّيْتُ مُدْبِرًا))، فبكى عمر: أعليك أغار يا رسول الله"؛ أخرجه البخاري.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قال ابن بطال: وبكاء عمر يحتمل أن يكون سرورًا، ويحتمل أن يكون تشوُّقًا أو خشوعًا.

بكاء أُبِي بن كعب رضي الله عنه؛ لأن الله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه القرآن:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم لأُبي: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك:﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ [البينة: 1]، قال: وسمَّاني؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((نعم))، قال: فبكى"؛ متفق عليه, قال الإمام النووي رحمه الله: أما بكاؤه فبكاءُ سرورٍ واستصغار لنفسه عن تأهيله لهذه النعمة، وإعطائه لهذه المنزلة، وقيل: إنما بكى خوفًا من تقصيره في شُكْر هذه النعمة.

بكاء أبي ذرٍّ رضي الله عنه لما حدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضل السجود:

عن الأحنف بن قيس قال: "دخلتُ بيت المقدس، فوجدْتُ فيه رجلًا يُكثِر السجود، فَوَجَدْتُ في نفسي من ذلك، فلما انصرف، قلتُ: أتدري على شفْعٍ انصرفْتَ أم على وِتْرٍ؟ قال: إن لم أكُ لا أدري، فإن الله عز وجل يدري، ثم قال: أخبرني حِبِّي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، ثم بكى، ثم قال: أخبرني حِبِّي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، ثم بكى، ثم قال: أخبرني حِبِّي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم أنه قال: ــــ(130)

((ما من عبد يسجدُ لله سجدةً إلا رفَعَه الله بها درجةً، وحَطَّ عنه بها خطيئةً، وكَتَبَ له بها حَسَنةً))، قلتُ: أخْبِرني: من أنت يرحمُك الله؟ قال: أنا أبو ذرٍّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَتَقاصَرَتْ إليَّ نفسي"؛ أخرجه أحمد.

البكاء خوفًا أن تكون النعم والطيبات استدراجًا وسببًا للعداوة والبغضاء:

بكاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أُتِي بكنوز كِسْرى:

عن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف، قال: "لما أُتي عمر رضي الله عنه بكنوز كسرى، قال له عبدالله بن أرقم الزهري: ألا تجعلها في بيت المال، فقال عمر رضي الله عنه: لا نجعلها في بيت المال حتى نقسمَها، وبكى عمر رضي الله عنه، فقال له عبدالرحمن رضي الله عنه: ما يُبكيك يا أمير المؤمنين؟ فوالله، إن هذا لَيَوْمُ شُكْرٍ، ويومُ سُرُورٍ، ويومُ فَرَحٍ، فقال عمر: إن هذا لم يُعْطِهِ اللهُ قومًا قطُّ إلا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء"؛ أخرجه البيهقي في السنن الكبرى.

بكاء عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهم خوفًا أن تكون طيباتهم عُجِّلت لهم في الدنيا:

أُتِي عبدُالرحمن بن عوف رضي الله عنه يومًا بطعامه، فقال: "قُتِل مصعبُ بن عمير، وكان خيرًا مني، فلم يُوجَد لَهُ ما يُكفَّنُ فيه إلا بُرْدةٌ، وقُتِل حمزةُ – أو رجلٌ آخَرُ- خيرٌ مني، فلم يُوجَد له ما يُكفَّنُ فيه إلا بُرْدَةٌ، لقد خَشِيتُ أن تكون قد عُجِّلَتْ لنا طيِّباتُنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي"؛ أخرجه البخاري.

البكاء إذا أُذي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

بكاء أبي هريرة رضي الله عنه؛ لأن أمه أسمعته في رسول الله عليه الصلاة والسلام ما يكره:

ــــ(131)

قال أبو هريرة رضي الله عنه: "كنتُ أدعو أُمِّي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتُها يومًا فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي"؛ أخرجه مسلم.

البكاء تأثُّرًا بأحوال المسلمين:

بكاء عمر عندما رأى الحصير قد أثَّر في جنب الرسول عليه الصلاة والسلام:

عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيتُ أثَرَ الحصير في جنبه فبكيتُ، فقال عليه الصلاة والسلام: ((وما يُبكِيكَ؟))، فقلتُ: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله، فقال: ((أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة))"؛ أخرجه البخاري, لقد بكى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما رأى ما فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضيق العيش، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام هوَّنَ عليه الأمر، فالمؤمن يرضى بما يُصِيبه من قلَّة ذات اليد بما يُؤمِّل ويرجو من ثواب الله وفضله في الآخرة.

بكاء أبي قتادة رضي الله عنه لما عَلِمَ أن غريمه مُعْسِر:

عن أبي قتادة رضي الله عنه، قال: "أنه كان لهُ على رجلٍ دَيْنٌ، وكان يأتيه يتقاضاه، فيختبئ منه، فجاء ذات يوم فخرج صبيٌّ، فسأله عنه، فقال: نعم، هو في البيت، فناداه يا فلان، اخْرُجْ فقد أُخْبِرتُ أنك ها هنا، فخرج إليه، فقال: ما يُغيِّبُكَ عني؟ قال: إني مُعْسِرٌ، وليس عندي، قال: آلله، إنك مُعْسِر؟ قال: نعم، فبكى أبو قتادة، ثم قال: سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ نفَّسَ عن غريمه أو محا عنه، كان في ظِلِّ العرش يوم القيامة))"؛ أخرجه أحمد.

ــــ(132)  

بكاء خباب بن الأرت عندما تذكَّر أن حمزة رضي الله عنهما لم يوجد له كفنٌ:

عن حارثة بن مضرب قال: "دخلتُ على خباب فأُتِي بكفنه، فلما رآه بكى، وقال: لكِنَّ حمزةَ لم يُوجَدْ له كَفَنٌ إلا بُرْدةٌ مَلْحاءُ، إذا جُعِلَتْ على رأسه قَلَصَتْ عن قدميه، وإذا جُعِلَتْ على قدميه قَلَصَتْ عن رأسه، حتى مُدَّتْ على رأسِه، وجُعِلَ على قدميه الإذْخِرُ"؛ أخرجه أحمد.

البكاء تأثُّرًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:

بكاء ابن عمر رضي الله عنه عندما تذكَّر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:

عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه أنه كان واقفًا في عرفات، فنظر إلى الشمس حين تدلَّت مثل التُّرْسِ للغُرُوب فبكى، واشتد بكاؤه، فقال له رجل عنده: يا أبا عبدالرحمن، قد وقفْتَ معي مرارًا لم تصنع هذا؟ فقال: ذكرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بمكاني هذا، فقال: ((أيُّها الناس؛ إنه لم يَبْقَ من دُنياكم فيما مضى منها إلَّا كما بقِيَ من يومِكم هذا فيما مضى منه))؛ أخرجه أحمد.

وعن أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف، قال: التقى عبدالله بن عمرو وابن عمر، ثم مضى عبدالله بن عمرو، وبقي ابن عمر يبكي، فقال له رجل: ما يُبكيك يا أبا عبدالرحمن؟ قال: هذا - يعني عبدالله بن عمرو - زعم أنه سمِع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ كان في قلبه مِثْقالُ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ من كِبْرٍ، أكبَّه اللهُ على وَجْهه في النار))؛ أخرجه أحمد.

بكاء عبدالله بن عمرو عندما حدَّث بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام:

عن عبدالله بن عمرو قال: سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سمَّعَ الناس بعمله سمَّع اللهُ به سامِعَ خَلْقِه وصَغَّره وحَقَّره) فذرفت عينا عبدالله [أحمد]

ــــ(133) 

بكاء أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه عندما حدَّث بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام:

عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه، قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا لا يَمْنَعَنَّ رجُلًا هَيْبةُ الناس أن يقُولَ بحَقٍّ إذا عَلِمَه))، فبكى أبو سعيد، وقال: قد والله رأينا أشياءَ فَهِبْنا"؛ أخرجه ابن ماجه.

البكاء تأثُّرًا ببكاء الآخرين:

بكاء عمر بن الخطاب لبكاء الرسول عليه الصلاة والسلام، وأبي بكر الصديق:

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو قاعد وأبو بكر، وإذا هُما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخْبِرني: ماذا يُبكيك أنت وصاحِبُك؟ فإن وجدت بكاءً بكيتُ، وإن لم أجد بُكاءً تباكيتُ لبُكائكما"؛ أخرجه أحمد.

 بكاء أبي بكر وعمر لبكاء أم أيمن رضي الله عنهم:

عن أنس رضي الله عنه قال: "قال أبو بكر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر: انطلق بنا إلى أُمِّ أيمن نزورُها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورُها، فلما انتَهَيَا إليها، بَكَتْ، فقالا لها: ما يُبْكيك؟ فما عند الله خيرٌ لرسوله، قالت: إني لأعْلَمُ أن ما عند الله خيرٌ لرسُولِه، ولكن أبكي؛ لأن الوحي انقطع من السماء؛ فهيَّجَتْهُما على البكاء، فجعلا يبكيان معها"؛ أخرجه مسلم.

 البكاء على ما فات من أمر الدين:

بكاء أنس بن مالك رضي الله عنه لتضييع الصلاة عن وقتها:

ــــ(134)

قال الزهري: "دخلتُ على أنس بن مالك رضي الله عنه بدمشق وهو يبكي، فقلتُ له: ما يُبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئًا مما أدركتُ إلا هذه الصلاةَ، وهذه الصلاةُ قد ضُيِّعَتْ"؛ أخرجه البخاري في باب تضييع الصلاة عن وقتها.

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في هذا الحديث دليلٌ على جواز البكاء على ما فات من أمر الدين، وعلى ما انتُهِكَ من الحُرُمات أيضًا، فإن البكاء على ترك الواجب يُوازيه البكاء على فعل المحرم، ولا شك أن كل إنسان في قلبه حياة إذا رأى انتهاك المحرَّمات أو تضييع الواجبات، لا شك أنه سيتألم، وإذا كان سريع البكاء، فإنه سوف يبكي.

بكاء أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما:

بكائها رضي الله عنها لما قُذِفَتْ في عرضها:

عنها رضي الله عنها قالت في حادثة الإفك: "قدمنا المدينة فاشتكيتُ حين قدمت شهرًا والناسُ يُفيضُون في قول أصحاب الإفك، لا أشعُر بشيءٍ من ذلك، وهو يُريبُني في وجعي أني لا أعرفُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي...حتى خرجتُ مع أم مسطح، فعَثَرَت في مِرْطِها، فقالت: تَعِسَ مِسْطَحُ، فقلتُ لها: بئس ما قُلْتِ، أتسُبِّينَ رجلًا شهِد بَدْرًا؟ فقالت: أي هَنْتاهُ، أولم تسمعي ما قال؟ قلتُ: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك؛ فازددْتُ مرضًا على مرضي...فبكيتُ تلك الليلة حتى أصبحت لا يَرْقَأ لي دَمْعٌ، ولا أكتحل بنومٍ، ثم أصبحتُ أبكي، فبَكَيْتُ يومي ذلك كله...وقد بكِيْتُ ليلتين ويومًا لا يَرْقَأ لي دَمْعٌ، ولا أكتحِلُ بنومٍ حتى إني لأَظُنُّ أن البكاءَ فالِقٌ كَبِدي"؛ متفق عليه.

 

ــــ(135) 

لقد بكت رضي الله عنها، وحُقَّ لها أن تبكي؛ فقد قُذِفَتْ في عرضها، والعرض غالٍ، والمحافظة عليه لازمةٌ، والبُعْدُ عن كل ما يؤدِّي لانتهاكه واجبٌ، اللهم احفظ أعراضَنا وجميع أعراض أخواتنا المسلمات.

بكاؤها رضي الله عنها؛ لأنها حاضت قبل أن تتمَّ عُمْرَتَها:

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُهِلِّينَ بالحجِّ...فدخل عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ((ما يُبكِيكِ؟)) قلتُ: سمِعتُ كلامَكَ مع أصحابك، فسمِعتُ بالعُمْرة، فمُنِعْتُ العُمْرة، قال: ((وما لك؟))، قلتُ: لا أُصلِّي"؛ متفق عليه.

تبكي رضي الله عنها وأرضاها؛ لأنها مُنِعَتْ من طاعة وعبادة، بسبب أمر كَتَبَه الله على جميع النساء، فما حال من يترك الطاعة متعمِّدًا؟! وما حال مَنْ لا يبكي إذا حُرِمَها؟! وما حال من يفرح بتركها؟!

 بكاؤها رضي الله عنها في نذرها:

قال عروة بن الزبير رضي الله عنه: "عن عائشة كانت لا تمسك شيئًا مما جاءها من رزق الله إلا تصدَّقَتْ، فقال عبدالله بن الزبير: ينبغي أن يُؤخَذ على يديها، فقالت: أيُؤخَذ على يدي؟ عليَّ نَذْرٌ إنْ كَلَّمْتُه، فاستشفع إليها المسور بن مخرمة وعبدالرحمن بن الأسود بن عبديغوث، وطفقا يُناشِدانها إلا ما كلَّمَتْهُ، وقبِلت منه، فلما أكثَرَا على عائشة من التذكرة، طفِقَتْ تُذكِّرهما وتبكي، وتقول: إني نذرتُ، والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كلَّمَتِ ابن الزبير، وأعْتَقَتْ في نذرها ذلك أربعين رقبةً، وكانت تذكر بعد ذلك، فتبكي حتى تَبُلَّ دموعُها خِمارَها"؛ أخرجه البخاري.

 

ــــ(136) 

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "كانت تذكر نذرَها، فتبكي حتى يبُلَّ دمعُها خمارها": فيه إشارة إلى أنها كانت تظُنُّ أنها ما وفَّتْ بما يجب عليها من الكفَّارة.

وفي الختام أذكر مواقفَ كان سماحة الشيخ العلامة عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله يبكي فيها، تتشابه كثيرًا مع المواقف التي بكى فيها صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، أنقلها من كتاب "جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله "؛ للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد، ومن تلك المواقف:

• كثيرًا ما كان يبكي إذا صلى بالناس، ولكنه يُغالِب نفسَه.

• كان رحمه الله كثيرًا ما يبكي عند سماع القرآن الكريم، أيًّا كان صوت التالي، أو حُسْن ترتيله من عدمه.

• كان يبكي إذا سمِع شيئًا من السنة النبوية.

• كان كثير البكاء إذا سمِع شيئًا يتعلَّقُ بتعظيم القرآن أو السنة.

• كان يبكي إذا سمِع أخبار الاضطهاد والتعذيب التي تمرُّ بالمسلمين في بعض البلاد.

• كان يبكي كثيرًا إذا تُوفِّي أحد العلماء المشهورين، أو من لهم بلاء في الإسلام.

• وكثيرًا ما كان يبكي إذا سمِع حادثة الإفك، أو قصة الثلاثة الذين خُلِّفُوا.

أما طريقة بكائه رحمه الله، فكان يبكي بصوتٍ خافِتٍ جدًّا، ويُرى التأثُّر على وجهه، أو يُرى الدمعُ يُهراق من عينيه، وكان لا يحب رفع الصوت بالبكاء.

اللهم وفِّقنا للاقتداء بأولئك الأخيار الأبرار، واجمعنا وإيَّاهم في أعلى درجات الجِنان برحمتك وجُودِك يا كريم يا رحمن.

 

 

ــــ(137)

فصل : صور من حياءهم رضي الله عنهم

من أسماء الله الحسنى "الحييُّ"؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حييٌّ يستحيي من عبده إذا مدَّ يديه إليه أن يردَّهما صفْرًا))؛ [أخرجه أبو داود والترمذي]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله عز وجل حييٌّ ستِّير، يُحِبُّ الحياءَ والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر))؛ [أخرجه أبو داود والنسائي].

فالحياء صفة لله عز وجل، على ما يليق بجلاله وكماله، ليس كحياء المخلوقين، وقد جاءت النصوص بالحث على الحياء والترغيب فيه، وأن الله جل جلاله يحبُّه، وأنه خيرٌ كلُّه، وأنه من شُعَب الإيمان.

وهو خُلُق تقرُّهُ الفِطَر المستقيمة، وتدعو إليه العقول السليمة؛ لأنه يبعث على ترك الأمور القبيحة، والتحلِّي بالصفات الجميلة.

قال الحسن رحمه الله: "أربع من كُنَّ فيه كان كاملًا، ومن تعلَّق بواحدة منهنَّ كان من صالحي قومه: دين يرشده، وعقل يُسدِّده، وحَسَب يصونه، وحياء يقُوده".

قال الأصمعي رحمه الله: "سمعتُ أعرابيًّا يقول: من كساه الحياء ثوبه لم يرَ الناس عيبه".

وقد اتَّصف بهذا الخُلُق صفوة الخلق والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فنبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم كان أشدَّحياءً من العذراء في خِدْرِها، ونبيُّ الله موسى عليه السلام كان حييًّا ستِّيرًا، لا يُرى من جلده شيء استحياء منه؛ [متفق عليه].

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم ممن اتصفوا بهذا الخُلُق، على رأس هؤلاء أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم، والملائكة الكِرام يستحيون منه؛ فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله ــــ(138)

صلى الله عليه وسلم: ((إن عثمان رجل حيي))، وفي رواية: ((ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة))؛ [أخرجه مسلم]، 

ومن صور حياء الصحابة رضي الله عنهم:

الحياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم:

عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "لما بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كنتُ أشدَّ الناس حياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ملأتُ عيني من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا راجعتُه بما أُريدُ حتى لحق بالله عز وجل حياءً منه"؛ [أخرجه أحمد].

وعن أنس رضي الله عنه، قال: "بعثني أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأدعوه، وقد جعل طعامًا، قال: فأقبلتُ ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس، فنظر إليَّ، فاستحييتُ فقلتُ: أجِبْ أبا طلحة"؛ [أخرجه مسلم].

وحياء الإنسان من الآخرين يدل على توقيره واحترامه لهم، ومكانتهم عنده.

الحياء من فعل ما يخرم المروءة:

عن عبدالله بن مُغَفَّل رضي الله عنه قال: "كُنَّا مُحاصرين قصر خيبر، فرمى إنسان بجراب فيه شحم، فَنَزَوْتُ لآخُذُه، فالتفتُّ فإذا النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحييتُ منه"؛ [متفق عليه].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي قوله: "فاستحييت منه" إشارة إلى ما كانوا عليه من توقير النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معاناة التنزُّه عن خوارم المروءة.

 

 

ــــ(139)  

الحياء من ذكر ما يُستحيَا منه عرفًا:

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنتُ رجلًا مذَّاءً، فاستحييتُ أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرتُ المقداد بن الأسود أن يسأله، فقال: ((فيه الوضوء))، وفي رواية: "كنت رجلًا مذَّاءً، فأمرت رجلًا أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته"؛ [متفق عليه].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه استعمال الأدب في ترك المواجهة بما يُستحيا منه عُرْفًا، وترك ذكر ما يتعلَّق بجِماع المرأة ونحوه بحضرة أقاربها.

وإن أراد الإنسان الإخبار عما يستحي منه، فليكن التعبير عن ذلك بأدب وإيجاز؛ فعن أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: إن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه احترق، قال: ((مالك؟))، قال: أصبْتُ أهلي في رمضان، وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "وقَعْتُ على امرأتي وأنا صائم"؛ [متفق عليه]

وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: "حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله: إنها حائض"؛ [أخرجه البخاري].

وعن عبدالله بن شهاب الخولاني، قال: "كنتُ نازلًا على عائشة، فاحتلمْتُ في ثوبي، فغمستُهما في الماء فرأتني جارية لعائشة فأخبرتْها فبعثت إليَّ عائشة فقالت: ما حملَكَ على ما صنعتَ بثوبيك؟ قال: قُلتُ: رأيتُ ما يرى النائم في نومه[أخرجه مسلم]

حياء الصغار وأدبهم عند وجود الكبار:

عن عبدالله ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدِّثوني: ما هي؟))، فوقع الناس

ــــ(140)

في شجر البوادي، قال عبدالله: فوقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييتُ، ثم قالوا: حدِّثنا، ما هي يا رسول الله؟ قال: ((هي النخلة))، قال عبدالله: فحدَّثْتُ أبي بما وقع في نفسي، فقال: ما منعَكَ أن تقولها؟ لو كنتَ قُلتَها كان أحبَّ إليَّ من كذا وكذا، قال: ما منعني إلَّا أني لم أركَ ولا أبا بكر تكلمتما فكرهتُ، وفي رواية: "فأردْتُ أن أقول: هي النخلةُ، فإذا أنا أصغر القوم، فسكتُّ"، وفي رواية: "فإذا أنا عاشر عشرة، أنا أحدثهم"؛ [متفق عليه].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه استحباب الحياء ما لم يُؤدِّ إلى تفويت مصلحة؛ ولهذا تمنَّى عمر أن ابنه لم يسكت.

حياء الصحابيات رضي الله عنهن:

الحياء إذا كان في الرجال جميلاً, فهو في النساء أجمل، فالمرأة من طبيعتها وفطرتها الاستحياء؛ قال الله عز وجل: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾ [القصص: 25]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: رُوي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال: "جاءت متسترة بكم درعها، ليست بسَلْفَع من النساء لا خرَّاجة ولا ولَّاجة"، هذا إسناد صحيح.

 قال الجوهري: السلفع من النساء: الجريئة السليطة.

ونساء الصحابة رضي الله عنهم، كان الحياء خُلُقهن، وإن كان ذلك لم يمنعهن من السؤال والفقه في الدين؛ فعن أُمِّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: "نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهنَ في الدين"؛ [متفق عليه].

 

ــــ(141) 

لقد بلغ الحياء بأمهات المؤمنين، ونساء الصحابة رضي الله عنهن، أن يسترن وجوههنَّ، وأن يضعن أيديهنَّ على رؤوسهنَّ، إذا سمعن ما يُستحيا منه؛ فعن أُمِّ سلمة رضي الله عنها، قالت: جاءت أُمُّ سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم، إذارأت الماء))، فغطَّت أمُّ سلمة رضي الله عنها وجْهَها، وقالت: يا رسول الله، وتحتلم المرأة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((نعم، تربَتْ يداك، ففيمَ يُشبهها ولدُها))؛ [متفق عليه].

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "جاءت فاطمة بنت عتبة تُبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عليها: ﴿أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ ﴾ [الممتحنة: 12]، فوضعت يدها على رأسها حياء، فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة: أقري أيتها المرأة، فوالله ما بايعنا إلا على هذا، قالت: فنعم إذًا، فبايعها بالآية"؛ [أخرجه أحمد].

وبلغ الحياء بهن أن تتمنَّع البِكْر، فلا تنطق مُبديةً رغبتها في النكاح بل تسكت؛ فعن أمِّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تُنكَح البِكْر حتى تُستأذن))، قلت: يا رسول الله، إن البكر تستحيي، فقال عليه الصلاة والسلام: ((إذْنُها صُماتُها))؛ [متفق عليه].

وبلغ الحياء بهن أن يمتنعنَ من المشي مع الرجال الأجانب؛ فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: "تزوَّجني الزبير وما له في الأرض من مال، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير، وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئتُ يومًا والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ثم ــــ(142)

قال: ((إخ إخ))؛ ليحملني خلفه، فاستحييتُ أن أسير مع الرجال، فعرَف النبي صلى الله عليه وسلم أنِّي قد استحييتُ، فمضى"؛ [أخرجه البخاري].

ويبلغ الحياء غايته ومنتهاه عند أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها المبرَّأة المطهَّرة من كل شكٍّ وريبة، فتستحيي رضي الله عنها وأرضاها أن تخلع ثيابها عند رجل ميت من أطهر وأغير عباد الله المؤمنين، ومن أفضل الصحابة بعد أبي بكر الصديق، وهو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فعن أُمِّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قالت: "كنت أدخُلُ بيتي الذي دُفِن فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبي، فأضع ثيابي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دُفِن عُمَرُ معهم، فوالله ما دخلتُه إلَّا وأنا مشدودة عليَّ ثيابي حياءً من عمر"؛ [أخرجه أحمد].

 اللهم وفِّقنا ونساءنا للتحلِّي بخُلُق الحياء، واجعلنا ممن يقتدي بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ــــ(143)

فصل : صور من مبادرتهم ومسابقتهم رضي الله عنهم إلى الإنفاق في سبيل الله

الإنفاق في سبيل الله يدلُّ على صحة الإيمان، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله علية الصلاة والسلام: (الصدقة برهان) [أخرجه مسلم]. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: الصدقة برهان على صحة الإيمان، وسببُ هذا: أن المال تحبُّه النفوس، وتبخل به، فإذا سمحت بإخراجه لله، دلَّ على صحة إيمانها بالله، ووعده ووعيده.

والمُتصدق به صاحب الولاية من أصحاب الجنة، فعن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مُقسط مُتصدق موفق ) [أخرجه مسلم]

 للإنفاق في سبيل الله فضائل كثيرة، ومنافع عديدة، قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحديد: 18] وقال الله جل جلاله ﴿ نْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245] وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحديد: 11]

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: سمى.. الإنفاق قرضاً حثاً للنفوس وبعثاً لها على البذل، لأن الباذل متى علم أن عين ماله يعود إليه ولا بدّ، طوَّعت له نفسه بذله، وسهًل عليه إخراجه، فإن علم أن المستقرض مليّ وفيّ محسن كان أبلغ في طيب قلبه وسماحة نفسه، فإن علم أنَّ المستقرض يتَّجر له بما أقرضه. وينميه له، ويثمّره حتى يصير أضعاف ما بذله، كان بالقرض أسمح وأسمح، فإن علم أنه مع ذلك كلّه يزيده ــــ(144)

من فضله وعطائه أجراً آخر من غير جنس القرض، وأن ذلك الأجر حظ عظيم، وعطاء كريم، فإنه لا يتخلف عن قرضه، إلا لآفة في نفسه من البخل، والشح، أو عدم الثقة بالضمان، وذلك من ضعف إيمانه، ولهذا كانت الصدقة برهاناً لصاحبها، وقال رحمه الله: في الصدقة فوائد ومنافع لا يحصيها إلا الله، فمنها: أنها تقي مصارع السوء، وتدفع البلاء، حتى أنها لتدفع عن الظالم، وتطفئ الخطيئة، وتحفظ المال، وتجلب الرزق، وتفرح القلب، وتوجب الثقة بالله، وحسن الظن به، وترغم الشيطان، وتزكى النفس وتنميها، وتُحببُ العبد إلى الله، وإلى خلقه، وتستُر عليه كل عيب، وتزيد في العمر، وتستجلب أدعية الناس ومحبتهم، وتدفع عن صاحبها عذاب القبر، وتكون عليه ظلاً يوم القيامة، وتشفع له عند الله، وتهون عليه شدائد الدنيا، والآخرة، وتدعوه إلى سائر أعمال البر، فلا تستعصي عليه، وفوائدها ومنافعها أضعاف ذلك.

والمتصدق مغبوط على هذه النعمة التي وفقها الله لها، فعن سالم عن أبيه رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا علي اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار) [متفق عليه] قال الإمام النووي رحمه الله: والراد بالحديث لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين، وما في معناهما.

من فوائد الصدقة ومنافعها:

إذا كانت وقفاً فإن ثوابها يلحق صاحبها بعد وفاته:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد

ــــ(145)

صالح يدعو ) [أخرجه مسلم] قال الإمام النووي رحمه الله: قال العلماء معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له، إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه كان سببها.الصدقة الجارية وهي الوقف...وفيه دليل لصحة أصل الوقف وعظيم ثوابه.

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: الصدقة الجارية من أوسعها وأعمِّها وأنفعها وأفضلها: بناء المساجد، لأن المسجد تُقام فيه الصلوات، وقراءة القرآن، ودروس العلم، ويُؤوى الفقراء في الحرِّ والبرد، وفيه مصالح كثيرة ليلاً ونهاراً، ثم هو أدوم من غيره..كذلك الماء حيث يحفر الإنسان عيناً يشرب منها الناس، فهذه صدقة جارية...وكذلك الأربطة -وهي مساكن لطلاب العلم- وكتبُ العلم.

دواء للمرضى:

عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (داووا مرضاكم بالصدقة) [حسنه الباني في صحيح الجامع].

تدفع ميتة السوء وتكون سبباً لحسن الخاتمة:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام: ( يا معشر النساء تصدقن، فإني أُريتكن أكثر أهل النار ) [متفق عليه] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: إنما أمرهن بالصدقة لأمور...أن الصدقة من فوائدها أنها تدفع ميتة السوء، وتكون سبباً لحسن الخاتمة.

 حلول البركة في المال وزيادته:

قال الله عز وجل: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 268] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين

ــــ(146)

رحمه الله: ومن فوائد الآية: البشرى لمن أنفق...بالزيادة لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ﴾ فإن قال قائل: كيف يزيد الله تعالى المنفِق فضلاً ونحن نشاهد أن الإنفاق ينقص المال حساً فإذا أنفق الإنسان من العشرة درهماً صارت تسعة فما وجه الزيادة ؟ فالجواب: أما بالنسبة لزيادة الأجر في الآخرة فالأمر ظاهر، فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.وأما بالنسبة للزيادة الحسية في الدنيا فمن عدة أوجه:

الوجه الأول: أن الله قد يفتح للإنسان باب رزق لم يخطر له على بال، فيزداد ماله.

الوجه الثاني: أن هذا المال ربما يقيه الله سبحانه وتعالى آفات لولا الصدقة لوقعت فيه، وهذا مشاهد فالإنفاق يقي المال الآفات.

الوجه الثالث: البركة في الإنفاق بحيث ينفق القليل وتكون ثمرته أكثر من الكثير، وإذا نُزعت البركة من الإنفاق فقد ينفق الإنسان شيئاً كثيراً في أمور لا تنفعه أو تضره.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال) [أخرجه مسلم] قال الإمام النووي رحمه الله: ذكروا فيه وجهين:

أحدهما: معناه أنه يبارك فيه، ويندفع عنه المضرات، فينجبر نقص الصورة بالبركة الخفية، وهذا مدرك بالحسِّ والعادة.

الثاني: أنه وإن نقصت صورته كان في الثواب المترتب عليه جبر لنقصه وزيادة إلى أضعاف كثيرة.

 

ــــ(147)

سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات والوقاية من النار:

قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 267، 268] قال العلامة السعدي رحمه الله: لما حثهم على الإنفاق النافع ونهاهم عن الإمساك الضار بيّن لهم أنهم بين داعيين داعي الرحمن.وداعي الشيطان فمن كان مُجيباً لداعي الرحمن وأنفق مما رزقه الله، فليبشر بمغفرة الذنوب.

وقال الله جل جلاله: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 271] قال العلامة العثيمين رحمه الله: ومن فوائد الآية أن الصدقة سبب لتكفير السيئات.

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصدقة تُطفئ الخطيئة كما يُطفئُ الماءُ النار)[أخرجه الترمذي]قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: وفي الحديث أن الذنوب والمعاصي يكفرها الله بما يفعله الإنسان من الطاعات ومن أعظمها الصدقات وظاهر هذا أن الخطيئة تشمل الكبيرة والصغيرة وجمهور أهل العلم على أن الخطايا الكبار والذنوب والمعاصي العظيمة لا يكفرها إلا التوبة.

والصدقة ستر ووقاية من النار، فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل) وفي رواية: (اتقوا النار ولو بشق تمرة ) [أخرجه مسلم] قال الإمام النووي وفيه الحثُّ على الصدقة وأنه لا يمتنع منها لقلتها، وأن قليلها سبب للنجاة من النار

ــــ(148)  

أجرها عظيم وثوابها كبير:

أنها تُضاعف لصاحبها أضعافاً كثيرةً:

قال الله عز وجل: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245] وقال الله جل جلاله: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف...وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف... قال الإمام أحمد حدثنا... عن حريم بن وائل قال: ( من أنفق نفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة ضعف ) وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: أنت إذا أنفقت درهماً فجزاؤه سبعمائة درهم، ثواباً من عند الله عز وجل، والله فضله أكثر من عدله وأوسع، ورحمته سبقت غضبه، فيضاعفه له إلى سبعمائة بل إلى أكثر.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعدُ إلى الله إلا الطيبُ فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يُربِّيها لصاحبها كما يُربى أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل) [متفق عليه].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله (فلوه) هو المهر لأنه يفلى أي يفطم...وضرب به المثل لأنه يزيد زيادة بينة...فإن العبد إذا تصدق من كسب طيب لا يزال نظر الله إليها يكسبها نعت الكمال حتى تنتهي بالتضعيف إلى نصاب تقع المناسبة بينه وبين ما قدم نسبة ما بين التمرة إلى الجبل

ــــ(149)  

أن الله جل جلاله يظل صاحبها يوم القيامة في ظله:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلُّ امرئٍ في ظلِّ صدقته حتى يُقضى بين الناس) [أخرجه أحمد] وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله..ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) [متفق عليه] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: فإن قال قائل: إذا تصدق رجل بصدقة فرأى من المصلحة أن يُعلنها حتى يُقتدى بها فهل يخرج من هذا الثواب أو لا ؟

فالجواب: الظاهر أنه لا يخرج لأنه بينها لمصلحة.

أنَّ الله عز وجل يخلف عليه:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي ( بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يُحول الماء بمسحاته فقال له: يا عبد الله ما اسمك ؟ قال: فلان. للاسم الذي سمع في السحابة فقال له: يا عبد الله لما سألتني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول:اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها. قال: أما إذ قُلتَ هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثُلثاً وأردُّ فيها ثلثه وفي رواية (وأجعلُ ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل [أخرجه مسلم] قال الإمام النووي رحمه الله: وفي الحديث فضل الصدقة والإحسان إلى المساكين وأبناء السبيل.

 

ــــ(150) 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله عز وجل: أنفق أُنفق عليك ) [متفق عليه] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وهو وعد بالخلف.

تسابق وتنافس الصحابة رضي الله عنهم للإنفاق في سبيل الله:

لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتنافسون ويتسابقون في الإنفاق والصدقة في سبيل الله، ولهم مواقف في ذلك، منها:

وقف بني النجار أرضهم لمسجد رسول الله علية الصلاة والسلام:

عن أنس رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا بني النجار ثامنوني بحائطكم ) قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. [متفق عليه] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله ( لا نطلب ثمنه إلا إلى الله ) أي لا نطلب ثمنه من أحد، لكن هو مصروف إلى الله.

تصدق أبو بكر الصديق بماله وتصدق عمر بن الخطاب بنصف ماله رضي الله عنهما:

عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أبقيت لأهلك ؟ ) فقلتُ: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أبقيت لأهلك ؟ ) قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قُلتُ: لا أُسابقك إلى شيءٍ أبداً. [أخرجه أبو داود] قال المحدث السهارنفوري رحمه الله: قوله:( ما أبقيت لأهلك ؟ ) قال: أبقيت لهم الله ورسوله، يعني لم أترك لهم شيئاً

ــــ(151)

من المال، ولكن بقيت لهم ما يرضي به الله ورسوله...ففي الحديث تصريح بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل من أبي بكر التصدق بجميع ماله، ولم ينكر عليه لعلمه بقوة صبره على المشاق، وتوكله على الله تعالى.

وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأرضه بخيبر في سبيل الله:

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أصبت أرضاً من أرض خيبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أصبت أرضاً لم أصب مالاً أحبُّ إلي ولا أنفس عندي منها فما تأمرني به ؟ قال: ( إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ) قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها و لا تورث ولا توهب، قال: فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف[أخرجه مسلم] قال الإمام النووي رحمه الله: قوله " أنفس " معناه أجود، والنفيس الجيد...وفي هذا الحديث دليل على صحة أصل الوقف....وفيه فضيلة الوقف وهي الصدقة الجارية، وفيه فضيلة الإنفاق مما يحب وفيه فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ينبغي لنا أن نتأسى بهذا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي جعل هذه الشروط في حياة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإقراره، وألاً نخُصَّ الأوقاف بالأولاد والذُّرية وما أشبه ذلك كما يوجد– الآن– في أكثر أوقاف الناس بل نجعلها في هذه المصالح العامة

حفر عثمان بن عفان رضي الله عنه لبئر رومه وتجهيزه لجيش العسرة:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من يحفر بئر رومه فله الجنة ) فحفرها عثمان، وقال: ( من جهز جيش العسرة فله الجنة) فجهزهُ عثمان. [أخرجه البخاري] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: المراد بجيش العسرة: تبوك...وأخرج ــــ(152)

أحمد والترمذي من حديث عبدالرحمن بن حباب السلمي أن عثمان أعان فيها بثلاثمائة بعير، ومن حديث عبدالرحمن بن سمرة أن عثمان أتى فيها بألف دينار فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم.

تصدق أبي الدحداح بحائطه:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لفلان نخله، وأنا أقيم حائطي بها، فمره يعطيني أقيم بها حائطي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أعطه إياها بنخلة في الجنة ) فأبى، فأتاه أبو الدحداح فقال: بعني نخلتك بحائطي ففعل، فأتى أبو الدحداح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد ابتعت النخلة بحائطي فاجعلها له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كم من غدق دواح لأبي الدحداح في الجنة ) "مراراً" فأتى أبو الدحداح امرأته، فقال: يا أم الدحداح اخرجي من الحائط، فقد بعته بنخلة في الجنة فقالت: ربح البيع [أخرجه ابن حبان]

كان مرثد بن عبدالله لا يجيء المسجد إلا ومعه شيء يتصدق به:

عن يزيد بن أبي حبيب قال: كان مرثد بن عبدالله لا يجيءُ إلى المسجد إلا ومعه شيء يتصدقُ به، فجاء ذات يوم إلى المسجد ومعه بصل، فقلتُ له: أبا الخير، ما تريدُ إلى هذا يُنتنُ عليك ثوبك ؟ قال: يا ابن أخي، إنه والله ما كان في منزلي شيء أتصدق به غيره، إنه حدثتي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ظلُّ المؤمن يوم القيامة صدقته) [أخرجه أحمد].

قال الشيخ أحمد عبدالرحمن البانا الساعاتي رحمه الله: والمعنى أن الرجل إذا لم يجد ما يتصدق به إلا الشيء الحقير فليتصدق به، فإنه يكون كبيراً عند الله عز وجل، ــــ(153)

وينفعه الله به يوم القيامة، ويكون فوق رأسه كالظلة في الموقف، إلى أن يقضى بين العباد، والعبرة بالإخلاص في العمل لا بالكثرة والقلة.

تصدق كعب بن مالك رضي الله عنه ببعض ماله لتوبة الله عز وجل عليه:

عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ) [متفق عليه] قال الإمام النووي رحمه الله: معنى أنخلع منه: أخرج منه وأتصدق به، وفيه استحباب الصدقة شكراً للنعم المتجددة، لاسيما ما عظم منها.

تصدق ابن عمر رضي الله عنهما بما يحبُّ من ماله:

قال أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله في كتابه " حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه، أنه كان لا يعجبه شيء من ماله إلا خرج منه لله عز وجل، قال: وربما تصدق في المجلس الواحد بثلاثين ألفاً..وعن نافع قال: ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان أو زاد، وعن مجاهد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لما نزلت: ) لن تنالوا البر حتى تُنفقوا مما تحبون [ دعا ابن عمر رضي الله تعالى عنه، جارية له فأعتقها.

مبادرة نساء الصحابة إلى الصدقة بحليهن:

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد..فصلى وخطب..ثم أتى النساء فوعظهن وأمرهن بالصدقة فرأيتهن يهوين إلى آذانهن وحلوقهن يدفعن إلى بلال. [متفق عليه] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي مبادرة تلك النسوة إلى الصدقة بما يعز عليهن من حليهن مع ضيق الحال في ذلك الوقت دلالة على رفيع مقامهن في الدين، وحرصهن على امتثال أمر الرسول

ــــ(154)

صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن.

وفق الله نساء المسلمات وخصوصاً منهن الموسرات للإقتداء بالصحابيات في الصدقة.

عدم إمساك أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق لشيءٍ جاءها وتصدقها به:

قال عروة بن الزبير رضي الله عنه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كانت لا تمسك شيئاً مما جاءها من رزق الله تصدقت. [أخرجه البخاري] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: أي لا تدخر شيئاً مما يأتيها من المال.

قال أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله في كتابه " حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: عن هشام بن عروة عن أبيه أن معاوية بعث إلى عائشة رضي الله تعالى عنها، بمائة ألف، فوالله ما غابت الشمس عن ذلك اليوم حتى فرقتها، قالت مولاة لها: لو اشتريت لنا من هذه الدراهم بدرهم لحماً، فقالت: لو قلت قبل أن أفرقها لفعلت.

 محبّة أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها للصدقة:

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً ) قالت: فكانت أطولنا يداً زينب، لأنها كانت تعمل بيدها وتحبُّ الصدقة [متفق عليه] قالت رضي الله عنها كما جاء في رواية الحاكم في المناقب من مستدركه – كما نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح -: وكانت زينب لمرأة صناعة باليد، وكانت تدبغ وتخرز وتصدق في سبيل الله.

تسمية أم المؤمنين زينب بنت خزيمة الهلالية رضي الله عنها بأم المساكين لكثرة صدقتها:

 

ــــ(155)

عن الزهري قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة، وهي أم المساكين، سميت لكثرة إطعامها للمساكين،..توفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي لم تلبث معه إلا يسيراً.[أخرجه الطبراني]

رضي الله عنها وأكثر من مثيلاتها من نساء المسلمين.

 تصدق زينب زوج ابن مسعود بحليها:

عن أبي هريرة رضي الله عنها قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى النساء في المسجد فوقف عليهن فقال: ( يا معشر النساء إني قد أريت أنكن أكثر أهل النار يوم القيامة فتقربن إلى الله ما استطعن ) وكان في النساء امرأة عبدالله بن مسعود فأتت إلى عبدالله فأخبرته بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذت حُليّاً لها فقال ابن مسعود: أين تذهبين بهذا الحُلي ؟ فقالت: أتقربُ به إلى الله ورسوله لعلَّ الله أن لا يجعلني من أهل النار. [أخرجه أحمد].

وفي الختام فهناك أمور ينبغي أن تراعي في الصدقة والإنفاق في سبيل الله حتى تقع موقعها، ويثاب العبد عليها، منها:

• أن تكون لوجه الله عز وجل، قال جل جلاله: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114] وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها) [أخرجه البخاري]

 

 

ــــ(156) 

• ألا تكون من أجل الرياء والسمعة، قال الله عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ﴾ [النساء: 38]

 • أن تكون من كسب طيب، قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [البقرة: 267].

• أن لا تكون بمنٍّ ولا أذى حتى لا يبطل أجرها، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 262] وقال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 264].

 • أن تُخفى ولا يُجهرُ بها، إلا أن تكون هناك مصلحة راجحة في إظهارها، قال الله جل جلاله: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [البقرة: 271]

 

 

 

 

 

 

ــــ(157)

فصل : صور من برِّهم رضي الله عنهم بآبائهم

كان صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام يرون أن بِرَّ الوالدين وخصوصًا البِرَّ بالأمهات من أفضل الأعمال؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لرجل: "إني لا أعلمُ عملًا أقرَب إلى الله عز وجل من برِّ الوالدة"؛ [أخرجه البخاري في الأدب المفرد]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما "أنه قال لرجل: أحَيٌّ والدُاكَ؟ قلت: عندي أُمِّي، قال: لو ألَنْتَ لها الكلامَ، وأطعَمْتَها الطعامَ لتدخُلَنَّ الجنَّة ما اجتنبت الكبائر"؛ [أخرجه البخاري في الأدب المفرد].

ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على البِرِّ بوالديهم، ويخصُّون الأُمَّ بمزيد عناية؛ لعظيم حقِّها، فقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم رؤيا، ورؤيا الأنبياء حَقٌّ أن أحد الصحابة في الجنة بسبب بِرِّه بأُمِّه؛ فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نمْتُ فرأيتني في الجنة، فسمعتُ صوت قارئ يقرأ، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا حارثة بن النعمان))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذلك البِرُّ، كذلك البِرُّ))، وكان أبَرَّ الناس بأُمَّه؛ [أخرجه أحمد].

 ومن مواقفهم في البِرِّ بوالديهم:

البِرُّ بهما ولو كانا مشركين:

فعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: قدمت أُمِّي وهي مشركةٌ، فاستفتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أمِّي قدمت وهي راغبة، أفأصِلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ))؛ [متفق عليه]

 

ــــ(158)

الحرص على دعوتهما إلى الإسلام:

عن أبي هريرة رضي الله عنه "جئتُ فقلت: يا رسولَ الله، إني كنتُ أدعو أُمِّي إلى الإسلام، فتأبى عليَّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادْعُ اللهَ أن يهدي أُمَّ أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أبي هريرة))، فخرجتُ مستبشرًا بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جئت، قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"؛ [أخرجه مسلم].

البر بهما مع الثبات على الدين

قال سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه: "أُنزلت فيَّ هذه الآية: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ﴾ [لقمان: 15]، قال: كنتُ رجلًا برًّا بأُمِّي، فلما أسلمتُ قالت: يا سعدُ، ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟! لتدعَنَّ دينَكَ هذا أو لا آكُلُ ولا أشربُ حتى أموت، فتُعيَّرُ بي فيُقالُ: يا قاتل أُمِّه، فقلتُ: لا تفعلي يا أمه، فإني لا أدَعُ ديني هذا لشيء، فمكثَتْ يومًا وليلة لم تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثَتْ يومًا آخر وليلة لم تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثَتْ يومًا وليلة أخرى لم تأكل، فأصبحت قد اشتدَّ جهدها، فلما رأيتُ ذلك قلتُ: يا أمه، تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسًا نفسًا، ما تركت ديني هذا لشيء، فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي، فأكلتْ"؛ [قال ابن كثير: أخرجه الطبراني في كتاب العشرة].

ترك حج التطوُّع لصحبة الأُمِّ:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "والذي نفس أبي هريرة بيده، لولا الجهادُ في سبيل الله والحجُّ وبِرُّ أُمِّي لأحببْتُ أن أموتَ وأنا مملوك)[أخرجه البخاري ومسلم] ــــ(159)

زاد مسلم في رواية: قال: يعني الزهري: وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحجُّ حتى ماتَتْ أُمُّه؛ لصحبتها، قال الإمام النووي رحمه الله: المراد به حج التطوُّع؛ لأنه قد كان حج حجةَ الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فقدَّم بِرَّ الأُمِّ على حج التطوُّع؛ لأن بِرَّها فرضٌ، فقُدِّم على التطوُّع.

الصيام عنهما الصيام الواجب عليهما:

وعن عطاء بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: "كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة، فقالت: يا رسول الله، إن أُمِّي كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال: ((صومي عنها))"؛ [أخرجه مسلم].

 الصدقة عنهما في حياتهما:

وعن عطاء بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: "كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة، فقالت: يا رسول الله، إنِّي تصدَّقْتُ على أُمِّي بجارية، وإنها ماتت قال: ((وجب أجرُك، وردَّها عليك الميراث))"؛ [أخرجه مسلم].

الصدقة عنهما بعد موتهما:

وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "إن سعد بن عبادة رضي الله عنه تُوفِّيت أُمُّه وهو غائب، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أُمِّي تُوفِّيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها شيء إن تصدَّقْتُ به عنها؟ قال: ((نعم))، قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها"؛ [أخرجه البخاري].

 الحجُّ والعمرة عنهما:

عن عطاء بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: "كنتُ جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة، فقالت: يا رسول الله، إني أُمِّي لم تحجَّ قَطُّ، أفأحجُّ عنها؟ ــــ(160)

قال: ((نَعَم، حجِّي عنها))"؛ [أخرجه مسلم].

وعن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه أنه أتى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: "يا رسول الله، إن أبي شيخٌ كبيرٌ، لا يستطيع الحَجَّ ولا العمرة ولا الظعن، قال: ((حُجَّ عن أبيك واعتمر))"؛ [أخرجه البخاري مسلم].

وعن الفضل بن عباس رضي الله عنهما قال: إن امرأة قالت: "يا رسول الله، إن أبي شيخٌ كبيرٌ، قد أدركته فريضة الله في الحج، وهو شيخ كبير، لا يستطيع أن يستوي على ظهر البعير، قال: ((حجِّي عن أبيك))"؛ [متفق عليه].

الدعاء لهما:

عن مولى أم هاني بنت أبي طالب "أنه ركب مع أبي هريرة إلى أرضه بالعقيق، فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته: عليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أمتاه، تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يقول: رحمك الله كما ربَّيتني صغيرًا، فتقول: يا بني، وأنت جزاك الله خيرًا، ورضي عنك كما بررتني كبيرًا"؛ [أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وقال العلامة الألباني: حسن الإسناد].

قضاء النذر عنهما:

وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذرٍ كان على أُمِّه، توفيتْ قبل أن تقضيَه، فقال: ((اقْضِه عنها))؛ [متفق عليه].

بِرُّهما بعد وفاتهما:

عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: "لما حضر قتال أُحُد، دعاني أبي من الليل، فقال: إني أراني إلا مقتولًا في أول مَنْ يُقتَل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه  ــــ(161)

وسلم، وإني والله ما أدَعُ أحدًا؛ يعني: أعزَّ عليَّ منك بعد نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن عليَّ دَيْنًا، فاقْضِ عنِّي ديني، واستوصِ بأخواتك خيرًا، فأصبحنا، فكان أول قتيل، فدفنتُه مع آخر في قبر، ثم لم تَطِبْ نفسي أن أتركَه مع آخر في قبر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضَعَتْه غير أُذنه"؛ [أخرجه البخاري].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي قصة والد جابر من الفوائد: الإرشاد إلى بِرِّ الأولاد بالآباء خصوصًا بعد الوفاة.

وعن عبدالله بن دينار، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما "أن رجلًا من الأعراب لقيَه بطريق مكة، فسلَّم عليه عبدالله، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامةً كانت على رأسه، فقلنا له: أصلَحَكَ الله، إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير، فقال عبدالله بن عمر: إن أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإني سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أبَرَّ البِرِّ صِلةُ الرجل أهلَ وُدِّ أبيه))"؛ [أخرجه مسلم].

قال الإمام النووي رحمه الله: وفي هذا فضل صلة أصدقاء الأب، والإحسان إليهم، وإكرامهم، وهو متضمَّن لبِرِّ الأب وإكرامه؛ لكونه بسببه، ويلتحق به أصدقاء الأُمِّ والأجداد.

فينبغي بر الوالدين والاعتناء بأمرهما، والقيام بمصالحهما وخدمتهما، وقضاء دينهما، والنفقة عليهما إذا كانا محتاجين، وأن يجاهد الإنسان نفسه في ذلك؛ فالصحابي الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، قال له الرسول عليه الصلاة والسلام: ((أحيٌّ والداك؟))، قال: نَعَمْ قال: ((ففيهما جاهد))

 

ــــ(162)

فصل : صور من تربيتهم رضي الله عنهم لأبنائهم

 كما كان للصحابة رضي الله عنهم عناية عظيمة ببِرِّ الوالدين، فقد كانت لهم اهتمام بتربية وتأديب أبنائهم، ولهم مواقفُ في ذلك:

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "حافظوا على أولادكم في الصلاة، وعلِّمُوهم الخير؛ فإنما الخير عادة"؛ [أخرجه البيهقي في السنن الكبرى].

وقال ابن عمر رضي الله عنه لرجل: "أدِّب ابنَكَ؛ فإنك مسؤول عن ولدك ماذا أدَّبْتَه، وماذا علَّمْتَه، وإنه مسؤول عن بِرِّكَ وطواعيته لك"؛ [أخرجه البيهقي في السنن الكبرى].

وقال سعيد بن العاص رضي الله عنه: "إذا علَّمتُ ولدي وزوجته وأحجيته، فقد قضيتُ حقَّه وبقي حقِّي عليه"؛ [أخرجه البيهقي في السنن الكبرى].

والتربية لا تقتصر على الأقوال بل لا بدَّ من الأفعال، والصحابة رضي الله عنهم كانت لهم مواقف في ذلك، منها:

العدل بينهم:

عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: أعطاني أبي عطيةً، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهِد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعطيتُ ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أُشهدك يا رسول الله، قال: ((أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟))، قال: لا، قال: ((فاتَّقوا الله واعدِلوا بين أولادكم))، قال: فرجع فردَّ العطية"؛ [متفق عليه].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث الندب إلى التآلف بين الإخوة، وترك ما يُوجِب الشحناء، أو يُورث العقوق للآباء.

ــــ(163)

تعويدهم على الصوم:

عن الربيع بنت معوِّذ بن عفراء، قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قُرى الأنصار التي حول المدينة: ((من كان أصبح صائمًا، فليُتِمَّ صومَه، ومن كان أصبح مفطرًا، فليُتِمَّ بقية يومه))، فكنا بَعْدُ نصومه، ونُصَوِّم صِبْياننا الصِّغار، ونذهب بهم إلى المسجد، فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدُهم أعطيناه إياه، حتى يكون عند الإفطار؛ [متفق عليه]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث حجة على مشروعية تمرين الصبيان على الصيام.

الحجُّ بهم:

عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: إن امرأة أخذت بعَضُدِ صبيٍّ، فقالت: يا رسول الله، هل لهذا حج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نَعَم ولك أجر))؛ [أخرجه مسلم].

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وقوله: ((أجر)) مُنكَّر؛ يعني: أجر بقدرِ ما أحسن إلى هذا الصبي من التأديب والتوجيه، وما أشبه ذلك.

وعن السائب بن يزيد قال: "حجَّ بي أبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأنا ابن سبع سنين"؛ [أخرجه البخاري].

مضاحكتهم وملاعبتهم:

عن حنظلة رضي الله عنه، قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوَعَظَنا، فذكر النار، قال: ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان، ولا عبت المرأة، قال: فخرجت فلقيتُ أبا بكر، فذكرت ذلك له، فقال: وأنا فعلتُ مثل ما تذكر"؛ [أخرجه مسلم].

ــــ(164) 

سؤالهم عن أسباب تأخُّرهم في العودة للمنزل:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: "خرجتُ من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجِّهًا إلى أهلي، فمررتُ بغلمان يلعبون، فأعجبني لعبهم، فقمتُ على الغلمان، فانتهى إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم على الغلمان، فسلَّم على الصبيان، ثم أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة له، فرجعتُ إلى أهلي بعد الساعة التي كنتُ أرجعُ إليهم فيها، فقالت لي أُمِّي: ما حبسك اليوم يا بُني؟ فقلتُ: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة له"؛ [أخرجه أحمد].

تعليمهم الأدعية التي تحفظهم في نومهم:

عن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمنا كلمات نقولهنَّ عند النوم من الفزع: ((بسم الله، أعوذُ بكلمات الله التامَّة من غضبه وعقابه وشرِّ عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون))، فكان عبدالله بن عمرو يُعلِّمها من بلغ من ولده، يقولها عند نومه؛ [أخرجه أحمد].

محبة الخير لهم:

عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثلُ المؤمن مثل شجرة لا تطرح ورقَها)) فوقع الناس في شجر البدو، ووقع في قلبي أنها النخلة، فاستحييتُ أن أتكلَّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هي النخلة))، فذكرت ذلك لعمر، فقال: يا بني، ما منعك أن تتكلم؟ فوالله لأن تكون قلت ذلك أحَبُّ إليَّ من أن يكون لي كذا وكذا"؛ [متفق عليه]قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ووجه تمنِّي عمر رضي الله عنه ما طبع الإنسان عليه من محبَّة الخير لنفسه ولولده.

ــــ(165) 

رحمتهم وإيثارهم على أنفسهم:

عن أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "دخلت امرأة معها ابنتان لها، فسألت، فلم تجد عندي شيئًا غير تمرة، فأعطيتُها إيَّاها فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها شيئًا، ثم قامت فخرجتْ، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ابتُلي بشيءٍ من هذه البنات، كُنَّ له سترًا من النار))"؛ [متفق عليه].

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: هذا الحديث فيه عجائب؛ منها: الرحمة العظيمة في هذه المرأة، فإنها إن قسمت التمرة أثلاثًا ضعُف نصيب كل واحدة، وإن أعطتها واحدةً دون الأخرى، صار في ذلك جَوْرٌ، فما بقي إلَّا أن تُؤثِرَ ابنتيها على نفسها، وتشقَّ التمرة بينهما نصفين، وهذا شيء عجيب!".

وفي رواية لمسلم:جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتُها ثلاث تمرات فأعْطَتْ كل واحدة منهما تمرة, ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها, فاستطعمَتْها ابنتاها, فشقَّت التمرة التي كانت تُريدُ أن تأكلها بينهما, فأعجبني شأنها, فذكرتُ التي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار)

تشجعيهم على حفظ الأسرار:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة له، فرجعتُ إلى أهلي بعد الساعة التي كنتُ أرجعُ إليهم فيها، فقالت لي أُمِّي: ما حبسك اليوم يا بني؟ فقلتُ: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة له، قالت: وما هي؟ قلتُ: هو سِرٌّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فاحفظ على رسول الله سِرَّه، فما أخبرتُ به أحدًا قطُّ"؛ [أخرجه أحمد].

ــــ(166) 

توجيههم إلى لبس الملابس المباحة:

عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه "أنه أتاه ابنٌ له وعليه قميص من حرير، والغلامُ مُعجَبٌ بقميصه، فلما دنا من عبدالله خرَقه، ثم قال: اذهب إلى أُمِّكَ فقل لها: فلتُلْبِسْكَ قميصًا غير هذا"؛ [أخرجه الطبراني في الكبير].

توجيههم إذا بلغوا ألا يدخلوا إلا بإذن:

وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنه "أنه كان إذا بلغ بعض ولده، عزله فلم يدخل عليه إلَّا بإذن"؛ [أخرجه البخاري في الأدب المفرد].

تأديبهم إذا ارتكبوا ما يخالف الشرع:

وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنه "كان إذا وجد أحدًا من أهله يلعب بالنرد، ضربه وكسرها"؛ [أخرجه البخاري في الأدب المفرد].

وصيَّتُهم لأبنائهم حين حضور الموت:

عن عكرمة بن خالد أن سعدًا بن أبي وقَّاص رضي الله عنه، قال لابنه حين حضره الموت: "يا بني، إنك لن تلقى أحدًا هو أنصح لك مني، إذا أردْتَ أن تصلي فأحسِنْ وضوءك، ثم صَلِّ صلاة لا ترى أنك تصلي بعدها، وإيَّاك والطمع؛ فإنه فقر حاضرٌ، وعليك باليأس؛ فإنه الغنى، وإياك وما يُعتذَر منه من العمل والقول، واعمَل ما بدا لك"؛ [أخرجه الطبراني في الكبير].

 اللهم وفِّقْنا للاقتداء بأولئك الصَّحْب الكرام رضي الله عنهم، فاجعلنا ممَّن يبرُّون والديهم، ويهتمُّون ويحرصون على تربية وتأديب أبنائهم.

 

 

ــــ(167)

فصل : صور من حياتهم الزوجية رضي الله عنهم

الزواج فطرة جبلِّيَّة مركوزة في النفوس، لا غنى للرجال والنساء عنه، والزواج يشوبه ما يشوب غيره من العلاقات من وجود اختلاف بين الزوجين في حل المشكلات التي تعتري حياتهما الزوجية، فيُوفِّق الله البعض لتجاوزها، فتسير الحياة الزوجية، لا تنتهي إلا بموت أحد الزوجين، ويقف بعض الأزواج عندها لا يستطيعون حَلَّها، فتكون حياتهما الزوجية مضطربة غير مستقرة، وقد تنتهي في بعض الأحيان إلى الفِراق والطلاق، ولعلَّ في ترسم الحياة الزوجية لرسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا معينًا بعد توفيق الله في السير بالحياة الزوجية لبَرِّ الأمان، ويليها في ذلك الاستفادة من مواقف الصحابة الكرام رضي الله عنهم في حياتهم الزوجية، فلهم مواقفُ ينبغي على الزوجين الاستفادة منها، وتطبيقها في حياتهما الزوجية، ومن تلك المواقف:

المهر العظيم:

عن ثابت البناني رحمه الله عن أنس رضي الله عنه، قال: "خطب أبو طلحة أُمَّ سليم، فقالت: والله ما مثلك يا أبا طلحة يُرَدُّ؛ ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحلُّ لي أن أتزوَّجك، فإن تسلم فذاك مهري، ولا أسألك غيره، فأسلم، فكان ذلك مهرها، قال ثابت: فما سمِعْتُ بامرأة قطُّ كانت أكرمُ مهرًا من أُمِّ سليم الإسلام، فدخل بها فولدت له"؛ [أخرجه النسائي]، وهذا المهر العظيم كان له ثماره الطيبة على حياتهما الزوجية، فالمهر العظيم ينتج ثمارًا عظيمة.

مشاركة كلا الزوجين للآخر في المشاعر والأحاسيس:

عن قيس أن عبدالله بن رواحة رضي الله عنه بكى، فبكت امرأته، فقال لها: ما ــــ(168)

يُبكيك؟ قالت: رأيتُكَ تبكي فبكيت، فقال: إني أُنبئتُ أني وارد، ولم أُنبأ أني صادر؛ [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنَّف]، وليس بالضرورة أن يبكي أحد الزوجين إذا كان الآخر باكيًا؛ ولكن ليس من العقل والحكمة أن يكون أحدهما باكيًا حزينًا مهمومًا، والآخر ينظر إليه ضاحكًا فرحًا مسرورًا.

صبر كلا الزوجين على بعض المؤذي من أجل راحة الطرف الآخر:

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: جاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضعًا رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي، ولا يمنعني من التحرُّك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي؛ [متفق عليه]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فيه استحباب الصبر لمن ناله ما يوجب الحركة، أو يحصل به تشويش لنائم.

التهوين والتأنيس على من أُصيب من الزوجين بما يُزعجه ويُقلقه:

عن عائشة أُمِّ المؤمنين رضي الله عنها قالت في حادثة مجيء الملك للرسول صلى الله عليه وسلم، في بداية الوحي: إنه رجع يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: ((زمِّلُوني زمِّلُوني))، فزمَّلُوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك تصِل الرَّحِم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتُقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق؛ [متفق عليه].

قال الإمام النووي رحمه الله: وفيه أنه ينبغي تأنيس من حصلت له مخافة وتبشيره، وذكر أسباب السلامة له.

ــــ(169)

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي هذه القصة من الفوائد: استحباب تأنيس من نزل به أمر بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه، وأن مَنْ نزل به أمر، استُحِبَّ له أن يُطْلِعَ عليه من يثِقُ بنصيحته، وصحَّة رأيه، وقال الإمام القسطلاني رحمه الله: وفيه إشارة إلى فضل خديجة وجزالة رأيها، وإنما أجابته بكلام؛ لتُزيل حيرته ودَهْشَته.

وما أجمل أن يجِدَ كلٌّ من الزوجين عند الآخر، ما يُزيل قلقه، ويجعله يطمئنُّ ويرتاح.

تشجيع كلا الزوجين للآخر على عمل الخير:

عن أنس رضي الله عنه "أن رجلًا قال يا رسول الله، إن لفلان نخلة، وأنا أقيم حائطي بها، فمُرْه أن يعطيني بها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعْطِها إيَّاه بنخلة في الجنة))، فأبى، وأتاه أبو الدرداح، فقال: بعني نخلك بحائطي، ففعل فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني قد ابتعت النخلة بحائطي، فاجعلها له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كم من عذق رداح لأبي الدحداح في الجنة)) مرارًا، فأتى امرأته فقال: يا أم الدحداح، اخرجي من الحائط، فإني بعته بنخلة في الجنة، فقالت: قد ربحت البيع"؛ [أخرجه الحاكم].

ملاعبة الزوج لزوجه:

عن حنظلة رضي الله عنه، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظنا فذكر النار، قال: ثم جئت إلى البيت... فلاعبت المرأة فخرجت، فلقيت أبا بكر فذكرت ذلك له، فقال: وأنا فعلتُ مثل ما تذكر؛ [أخرجه مسلم].

مواساة الزوجة لزوجها بمالها إذا كان محتاجًا:

عن رائطة امرأة عبدالله بن مسعود، وأم ولده - وكانت امرأة صناع اليد - فكانت تنفق عليه، وعلى ولدها، مِن صنعتها، فقالت لعبدالله بن مسعود: لقد ــــ(170)

شغلتني أنت وولدك عن الصدقة، فما أستطيع أن أتصدَّق معكم بشيء، فقال لها عبدالله: والله ما أحب إن لم يكن في ذلك أجر أن تفعلي، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة ذات صنعة، أبيع منها، وليس لي ولا لولدي نفقة غيرها، وقد شغلوني عن الصدقة، فما أستطيع أن أتصدَّق بشيء، فهل لي من أجر فيما أنفقتُ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنفقي عليهم، فإن لك في ذلك أجر ما أنفقت عليهم))؛ [أخرجه أحمد].

تصنع الزوجة لزوجها:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: مات ابن لأبي طلحة من أم سليم، فقالت لأهلها: لا تُحدِّثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أُحدِّثه، فقال: فقربت إليه عشاءً، فأكل وشرب، فقال: ثم تصنعت له أحسن ما كان تصنع قبل ذلك، فوقع بها"؛ [متفق عليه]، وفي رواية: "ثم تطيبت"، وفي رواية: "فتعرَّضَتْ له حتى وقع بها".

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي قصة أم سليم هذه من الفوائد: تزيُّن المرأة لزوجها، وتعرُّضها لطَلَب الجِماع منه.

تجمُّل الزوجة لزوجها:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى في يدي فتخات من ورقٍ، فقال: ((ما هذا يا عائشة؟))، فقلتُ: صنعتهُنَّ أتزيَّنُ لك يا رسول الله؛ [أخرجه أبو داود]، وعنها رضي الله قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش - انقطع عقد لي"؛ [الحديث أخرجه البخاري]. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي هذا الحديث من الفوائد: اتخاذهن [أي الزوجات] الحلي تجمُّلًا لأزواجهن.

ــــ(171)  

وعن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: "آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أمَّ الدرداء مُتبذِّلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا"؛ [أخرجه البخاري].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي هذا الحديث مشروعية تزيُّن المرأة لزوجها.

استجابة الزوجة لطلب زوجها:

عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخلت ليلًا، فلا تدخل على أهلك حتى تستحدَّ الْمُغيبة، وتمتشط الشعثة، وإذا دخلت فعليك الكيس والكيس))؛ [متفق عليه].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: جزم ابن حِبان في صحيحه بعد تخريج هذا الحديث، بأن الكيس: الجماع، ويؤيده قوله في رواية محمد بن إسحاق: ((فإذا قدمت فاعمل عملًا كيسًا))، وفيه: قال جابر: فدخلنا حين أمسينا، فقلتُ للمرأة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمرني أن أعمل عملًا كيسًا، قالت: سمعًا وطاعة، فدونك قال: فبتُّ معها حتى أصبحت؛ [أخرجه ابن خزيمة في صحيحه].

غيرة الزوج على زوجه:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: ((بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضَّأ إلى جانب القصر، فقلت: لمن هذا القصر؟))، فقالوا: لعمر بن الخطاب، ((فذكرتُ غيرته فولَّيْتُ مُدبِرًا))؛ [أخرجه البخاري].

 

ــــ(172)  

وعن المغيرة رضي الله عنه، قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصفح، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغيرُ منِّي، ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن))؛ [متفق عليه]، وكان رضي الله عنه معروفًا بشدة الغيرة، حتى إنه إذا طلَّق إحدى نسائه، لم يكن لأحد أن ينكحها؛ لأنهم يعرفون شدة غيرته، فلا يتزوجن النساء من بعده.

وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: "كنت أنقل النوى من أرض الزبير، وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يومًا والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ليحملني خلفه، فذكرت الزبير وغيرته، وكان أغير الناس"؛ [متفق عليه].

وعن أُمِّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، رضي الله عنهما، قالت: إن سالِمًا مولى أبي حذيفة، كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم، فأتَتْ سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن سالِمًا قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقل ما عقلوه، وإنه يدخل علينا، وإني أظنُّ في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أرضعيه تحرمي عليه))، قالت: فأرضعته، فذهب الذي في نفس أبي حذيفة؛ [أخرجه مسلم].

خدمة الزوجة لزوجها:

• عن أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا مسندته إلى صدري، ومع عبدالرحمن سواك رطب يستنُّ به، فأبَدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ــــ(173)

بصره، فأخذت السواك فقضمته، فطيَّبته، ثم دفعتُه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستنَّ به"؛ [متفق عليه].

قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: وفيه مراعاة الزوجة لزوجها وخدمتها له.

• وعن أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها، قالت: "وضعتُ للنبي صلى الله عليه وسلم ماءً يغتسل به، وسترته، فصب على يديه الماء... فناولته خرقة، فقال بيده هكذا، ولم يردها"؛ [متفق عليه]. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه خدمة الزوجات لأزواجهن، وقال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: وفيه أنه ينبغي للمرأة خدمة زوجها، خصوصًا في أحوال الطهارة ونحوها، مما جرت به العادة، وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: فوائد الحديث: فضل ميمونة رضي الله عنها بإكرامها النبي صلى الله عليه وسلم، وخدمتها إيَّاهُ.

• وعن أُمِّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قالت: كنتُ أغسلُ الجنابة من ثوب النبي عليه الصلاة والسلام؛ [متفق عليه].

وفي لفظ لمسلم: "لقد كنتُ أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركًا"، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: فوائد الحديث: المرأة يجوز لزوجها أن يستخدمها، وهذا مما جرت به العادةُ منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، ولكن فيما جرى به العرف لقوله تعالى: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء: 19]، وقال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: وفيه أن المرأة تخدم زوجها.

• وعنها رضي الله عنها, كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُخرجُ رأسه إليها وهو معتكف فأغسله وأنا حائض [متفق عليه]وعنها كنت أُرجِّل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض قال الحافظ ابن حجر: أي تسريح شعر رأسه.

ــــ(174)

وقال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: وفيه خدمة المرأة لزوجها.

• وعنها رضي الله عنها قالت: "أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طاف على نسائه"؛ [متفق عليه].

• وعنها رضي الله عنها، "أنها كانت تفتلُ القلائد للنبي صلى الله عليه وسلم فيقلد الغنم"؛ [أخرجه البخاري].

• وعنها رضي الله عنها, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أمر بكبش فأتي به, فضحى به فقال:(يا عائشة، هلُمِّي الْمُدية) ثم قال:(اشحذيها بحجرٍ) ففعلت[مسلم]

• وعن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، "أنهُ كان لها مخضب من صُفْرٍ قالت كنتُ أُرجِّلُ رأسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه[أخرجه النسائي]

• وعن ابن عباس رضي الله عنه، قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي الهيثم بن التيهان: ((إياك واللبون، اذبح لنا عناقًا))، فأمر أبو الهيثم امرأته، فعجنت لهم عجينًا، وقطع أبو الهيثم اللحم وطبخ وشوى"؛ [أخرجه الحاكم].

• وعن عبدالرحمن بن عثمان القرشي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه سلم، دخل على ابنته وهي تغسل رأس عثمان رضي الله عنه، فقال: ((يا بنية، أحسني إلى أبي عبدالله؛ فإنه أشبه أصحابي بي خُلُقًا))؛ [أخرجه الطبراني في الكبير].

شكوى الزوجة من زوجها بأحسن العبارات وتجاوب الأزواج:

عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: "آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء مُتبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا"؛ [أخرجه البخاري].فقد عبَّرت رضي الله عنها عن حالها مع زوجها بأحسن عبارة، ــــ(175)

فقالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، وفي رواية عند الدارقطني أنها قالت: "في نساء الدنيا"، وفي رواية عند ابن خزيمة: "يصوم النهار ويقوم الليل".

وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: "أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنته، فيسألها عن بعلها فتقول: نعم الرجل من رجل، لم يطأ لنا فراشًا، ولم يفتش لنا كنفًا ولم يعرف لنا فراشًا منذ أتيناه"؛ [أخرجه البخاري]، قال الإمام العيني رحمه الله: شكرت عبدالله أولًا بأنه قوام بالليل، صوام بالنهار، ثم شكت من حيث إنه لم يضاجعها ولم يطعم شيئًا عندها.

وعن أبي موسى قال: "دخلت امرأة عثمان بن مظعون على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فرأينها سيئة الهيئة، فقلن: ما لك؟ ما في قريش رجل أغنى من بعلك، قالت: ما لنا منه شيء، أما نهاره فصائم، وأما ليله فقائم، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرْنَ ذلك له فلقيه النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: ((يا عثمان، أما لك فيَّ أسوة؟))، قال: وما ذاك يا رسول الله، فداك أبي وأمي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((أما أنت فتقوم الليل وتصوم النهار، وإن لأهلك عليك حقًّا، وإن جسدك عليك حقًّا، صلِّ ونم، وصم وأفطر))، فأتتهم المرأة بعد ذلك عطرة كأنها عروس، فقُلْنَ لها: مه، قالت: أصابنا ما أصاب الناس"؛ [أخرجه ابن حبان].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إن امرأة ثابت بنت قيس أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس، أما إني لا أعيبُ عليه في خُلُق ولا دين؛ ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتردين عليه حديقته؟))، قالت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقبل الحديقة وطلِّقْها تطليقة))؛ [أخرجه البخاري].

ــــ(176)

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، أحد الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فإن امرأته كرهته كرهًا عظيمًا، حتى قالت: إني لا أعتب عليه في خُلُق ولا دين، فخُلُقه من أحسن الأخلاق، ودينه من أقوم الأديان؛ لكن أكره الكفر في الإسلام، واختلف شُرَّاح الحديث في معنى قولها: "أكره الكُفْر في الإسلام "؛ قال بعضهم: تريد عدم القيام بواجبه، وهو كفران العشير، وهذا هو الأصح، فكأنها تقول: إني لا أعتب عليه؛ لكني أخشى إن بقيتُ عنده أن آثم؛ لكوني لا أستطيع أن أقوم بواجب حقِّ الزوجية.

خروج الزوج من المنزل عند اشتداد الخلاف حتى تهدأ الأمور:

عن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيت فاطمة، فلم يجد عليًّا في البيت، فقال: ((أين ابن عمك؟))، قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقِلْ عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: ((انظر أين هو))، فجاء فقال: يا رسول الله، هو راقدٌ في المسجد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقِّه، وأصابه تراب، فجعل رسول الله يمسحه عنه، ويقول: ((قُمْ أبا تراب، قُمْ أبا تراب))؛ [متفق عليه].

 

 

 

 

ــــ(177)

فصل : صور من كمال عقولهم رضي الله عنهم وذكاءهم

من أعظم نِعم الله عز وجل على الإنسان بعد نعمة الإسلام والإيمان، نعمة العقل، والعقل عقلان: عقل إدراك وعقل رشد، فالمسلم عنده عقل الرشد وعقل الإدراك، وغيره عنده عقل الإدراك فقط، فهو يدرك ما ينفعه وما يضره في أمور دنياه، وقد يكون ذكيًّا سريع البديهة والفَهم، ولكن لا يوجد لديه عقل رشد يدله على ما ينفعه في آخرته، وقد نفى الله عنهم هذا العقل؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 171].

وقد جاء الثناء على العقل في مواضع من كتاب الله عز وجل؛ قال جل وعلا: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 76]؛ قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: من فوائد الآية الثناء على العقل والحكمة؛ لأن قولهم: ﴿أَفلا تَعْقِلُونَ ﴾، توبيخ لهم على هذا الفعل، وأنه ينبغي للإنسان أن يكون عاقلًا، ما يخطو خطوة إلا وقد عرف أين يضع قدمه، ولا يتكلم إلا وينظر ما النتيجة من الكلام، ولا يفعل إلا وينظر ما النتيجة من الفعل".

والعاقل يضبط حماسته وعاطفته، فالعاطفة بدون عقل تنقلب إلى عاصفة تهوي بصاحبها، والحماس بدون عقل ينقلب إلى تهور يدمر صاحبه.

والعاقل من يغلب عقله شهوته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قال أبو بكر عبدالعزيز من أصحابنا وغيره: خُلِقَ للملائكة عقول بلا شهوة، وخلق للبهائم شهوة بلا عقل، وخلق للإنسان عقل وشهوة، فمن غلب عقله شهوته، فهو خير من

ــــ(178)

 الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله، فالبهائم خير منه.

ومن عُرِفَ بالعقل، كُلِّفَ بالمهام المهمة والصعبة، فعندما عزم أبو بكر الصديق على جمع القرآن موافقةً لرأي الفاروق عمر بن الخطاب، أرسل إلى زيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين، وقال: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه؛ [أخرجه البخاري]، فمن الصفات التي جعلت أبا بكر يختار زيد بن ثابت رضي الله عنها لجمع القرآن الكريم: العقل.

وفي هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه من مكة إلى المدينة، قالت عائشة: لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف لقن، فيُدلجُ من عندهما بسحر، فُيصبح مع قريش بمكة كبائتٍ، فلا يسمع أمرًا يُكتادان به إلا وعاهُ، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام؛ [أخرجه البخاري]، فقد اخْتُير عبدالله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما لهذه المهمة الصعبة؛ لأنه شاب عاقل حاذق فاهم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله "ثقف" الحاذق، قوله: "لقن" السريع الفَهم.

وكمال العقل والذكاء والفطنة صفة لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومواقفهم رضي الله عنهم الدالة على ذلك كثيرة، منها:

 عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، ونبي الله صلى الله عليه وسلم شاب يعرف، فيلقى الرجل أبا بكر، فيقول: يا أبا بكر، مَن هذا الرجل الذين بين ــــ(179)

يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، قال: فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير؛ [أخرجه البخاري]، فمن فطنة أبي بكر رضي الله عنه أنه استخدم المعاريض في كلامه؛ لأنه يعلم أن الكذب حرام، ولا يجوز، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فيقول "هادٍ يهديني"، يريد الهداية في الدين ويحسبه الآخر دليلًا.

 عن حذيفة رضي الله عنه، قال: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، وقد أخذتنا ريح شديدة، وقرَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله عز وجل معي يوم القيامة)، فسكتنا فلم يجبه منا أحدٌ، ثم قال: (ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله عز وجل معي يوم القيامة)، فسكتنا فلم يجبه منا أحدٌ، فقال: (قمْ يا حذيفة فأتنا بخبر القوم)، فلم أجد بُدًّا إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال: (اذهب فأتني بخبر القوم، ولا تذعرهم عليَّ)، فلما وليتُ من عنده، جعلتُ كأنما أمشي في حمام حتى أتيتُهم، فرأيتُ أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعتُ سهمًا في كبد القوس، فأردت أن أَرميه، فذكرتُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولا تذعرهم عليَّ)، ولو رميتُه لأصبتُه ... ثم صاح أبو سفيان: لينظر كلُّ واحدٍ منكم مَن جليسُه؟ فبادرتُ الذي بجانبي وقلتُ له: مَن أنت؟ [أخرجه مسلم]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وفيه دليلٌ على كمال عقل الصحابة رضي الله عنهم، وأن الغيرة التي في قلوبهم لا تحملهم على مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولو كان من أهل الطيش - الذين يدَّعون أنهم ذَوو غيرة - لقتَله؛ لأنه يتمكن منه بسرعة، ولكن الجهاد أن يجاهد الإنسان نفسه ويُصبرها على طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه

ــــ(180)

وسلم، وليس الجهاد هو التهور، وفي ظني - والله أعلم - أنه لو وقع مثل هذا في كثير من شبابنا اليوم لقتله، ثم تأوَّل، لكن الصحابة رضي الله عنهم يعلمون أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم هي الخير كلُّه.

وقال الشيخ رحمه الله: قوله: ثم صاح أبو سفيان: لينظر كل واحد منكم من جليسه؟ يقول: فبادرت الذي بجانبي، وقلت له: من أنت؟ وهذا مما يدل على الذكاء.

 وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما توفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت لرجل مِن الأنصار: هَلُمَّ نسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه، فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجبًا لك يا بن عباس أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي علية الصلاة والسلام، فترك ذلك، وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتيه وهو قائل، فأتوسد على ردائي على بابه، فتَسفي الريح عليَّ التراب، فيخرج، فيراني، فيقول: يا بن عم رسول الله، ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسألك، قال: فبقِي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليَّ، فقال: هذا الفتى أعقل مني؛ [أخرجه البخاري].

 عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله)، فقام محمد بن سلمة، فقال: يا رسول الله أتحبُّ أن أقتُلهُ؟ قال: (نعم)، قال: فأذِن لي أن أقول شيئًا، قال: (قل)، فأتاه محمد بن سلمة، فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنَّانا، وإني قد أتيتُك أستسلفك)؛ [الحديث متفق عليه]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وقوله: (فقام محمد بن سلمة)، هذا ابن أخت كعب بن الأشرف، فيكون كعب

ــــ(181)

خاله، وقوله: (فأذِن لي أن أقول شيئًا)، كأنه يريد أن يقول شيئًا يُعرِّض فيه بسبِّ الرسول صلى الله عليه وسلم عند كعب، لأجل أن يطمئنَّ إليه كعب، فإذا جاء وتكلَّم بكلام ظاهره أنه يقدَح في الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الرجل سيطمئن إلى محمد...( وقوله: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة)، هذا صحيح والمراد: الزكاة، فقوله تورية، لكنه صحيح موافق للواقع، وقوله: (إنه قد عنَّانا) أي كلَّفنا، وهذا أيضًا صحيح؛ لأن الشريعة الإسلامية كلها تكليف، ويحتمل أن مراده: عنَّانا بتكليفه إيانا بقتلك، والمجيء إليك، ولكن كعب بن الأشرف فهِم من هذا أنه قد أتعبنا، وأننا قد ضجرنا منه، فهو يريدُ شيئًا وكعب يفهم شيئًا، وهذا ما يُعرف عند أهل العلم بالتورية أو التعريض... وفي هذا الحديث من الفوائد: حكمة ونباهة محمد بن سلمة في كيفية التورية، حيث خفي الأمر على كعب.

 عن جعفر بن عمرو الضمري، قال: خرجت مع عبيدالله بن عدي بن الخيار إلى الشام، فلما قدِمنا حمص، قال لي عبيدالله: هل لك في وحشي نسأله عن قتل حمزة؟ قُلتُ: نعم، قال: فسألنا عنه، فقيل لنا: هو ذاك في ظلَّ قصره، قال: فجئنا حتى وقفنا عليه، فسلَّمنا عليه فردَّ علينا السلام، وقال: عبيدالله مُعتجر بعمامته ما يرى وحشي إلا عينيه ورجليه، فقال عبيدالله: يا وحشي أتعرفني؟ قال: فنظر إليه، ثم قال: لا والله إلا أني أعلمُ أن عدي بن الخيار تزوج امرأة يُقال لها: أم قتال بنت أبي العيص، فولدت له غلامًا بمكة فاسترضعته، فحملتُ ذلك الغلام مع أمه فناولتها إياهُ، فلكأني نظرت إلى قدميك، قال: فكشف عبيدالله وجْهه؛ [أخرجه الإمام أحمد في المسند]، قال الشيخ الساعاتي رحمه الله: يعني أنه شبَّه قدَميه بقدمي الغلام الذي حمله، فكان هو هو، وكان بين الرؤيتين نحو من خمسين سنة.

ــــ(182)  

 عن أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قالت في حادثة الإفك: فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فإذا عقد لي قد انقطع، فالتمستُ عقدي، وحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري، الذي كنت ركبتُ، وهو يحسبون أني فيه، وكانت النساء إذ ذاك خفافًا، لم يُثقلهنَّ اللحم، إنما تأكل العلقة من الطعام، فلم يَستنكر القوم خِفَّةَ الهودج حين رفعوه، وكنتُ جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل، وساروا، فوجدتُ عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم، وليس بها داعٍ أو مجيب، فأممتُ منزلي الذي كنت به وظننتُ أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي؛ [متفق عليه]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في هذه الجملة من الحديث فوائد؛ منها: ذكاء عائشة رضي الله عنها وعقلها؛ لأنها لما جاءت وفقدت القوم، ما ذهبت تطلبهم عنا وهناك، مع أنه قد يبدو للإنسان أن الأحسن أن تلحقهم وتطلبهم، ولكنها رضي الله عنها جلست في مكانها، وعرفت أنهم سيفقدونها قطعًا، وإذا فقدوها فسيرجعون على إثرهم؛ حتى يصلوا إلى مكانها، وهذا من فقهها وعقلها وذكائها رضي الله عنها

 وعندما تكلم المنافقون في عرضها رضي الله عنها في حادثة الإفك، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنتِ بريئة فسيبرئك الله وإن كنتِ ألممتِ بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله، تاب الله عليه) قالت قلت لأبي أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: من فوائد الحديث: ذكاء عائشة رضي الله عنها لأنها طلبتْ من أبيها أن يجيب الرسول صلى الله عليه وسلم- وهي بالغة الذكاء- مع كونها حديثة السن ولا تقرأ شيئًا من القرآن

ــــ(183)  

 وعنها رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يُخيِّر أزواجه، فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنِّي ذاكر لك أمرًا، فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك)، وقد علم أن أبوَيَّ لم يكونا يأمراني بفِراقه، قالت: ثم قال: (إن الله قال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ.... ﴾ [الأحزاب: 28] إلى تمام الآيتين، فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أُريدُ الله ورسوله والدار الآخرة.

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: كانت رضي الله عنها عندها من العقل والدين ما يجعلها تقول هذا القول: "ففي أي هذا أستأمرُ أبويَّ؟!"، وفي لفظٍ: (أفي هذا أستأمرُ أبويَّ)؛ يعني: أستشيرهما، والمعنى: أن هذا لا يحتاج إلى مشورة؛ لأن العاقل يختارُ الله ورسوله والدار الآخرة ... وكان عمرها أربعة عشر عامًا تقريبًا، ومع هذا تقول هذا القول العظيم، وأنها تريد الله ورسوله والدار الآخرة.

 وعنها رضي الله عنها، قالت: دخل عبدالرحمن بن أبي بكر ومعه سواك يستن به، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتد عليه، فقلت: أُلينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فليَّنته؛ [أخرجه البخاري]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: من فوائد هذا الحديث: قُوةُ فطنة عائشة رضي الله عنها، ووجهه أنها عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم يُريدُ أن يتسوك، مع أنه احتُمِلَ أنه أراد انتقاد عبدالرحمن حين نظر إليه.

وقال العلامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: فيه دليلٌ على أنه صلى الله عليه وسلم يحب السواك محبة عظيمة، وفيه حُسن أدب عائشة ومعرفتها؛ حيث ــــ(184)

عرفت ذلك، فأخذته له، ومن كمال معرفتها: أنها لم تدفعه له حين أخذته، بل قضمته وطيَّبته، ليكون ألينَ له؛ لأنه في حالة ضَعف.

 وعنها رضي الله عنها، قالت: دخلت أسماء بنت شكل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، كيف تغتسل إحدانا إذا طهرت من المحيض؟ قال: (تأخذ سدرتها وماءها، فتتوضَّأ وتغسلُ رأسها وتُدلكه، حتى يبلغ الماء أصول شعرها، ثم تُفيضُ الماء على جسدها، ثم تأخذ فِرصتَها، فتَطهَّر بها)، فقالت: يا رسول الله، كيف أتطهَّر بها؟ قال: (تطهَّري بها)، قالت عائشة: فعرَفتُ الذي يكني عنه، فقلتُ لها: تتبَّعي آثارَ الدم؛ [متفق عليه]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفهِمت عائشة رضي الله عنها ذلك عنه، فتولَّت تعليمَها.

 عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، سألوها عن صلاة الركعتين بعد العصر، فقالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنهما، وإنه صلى العصر، ثم دخل علي، وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار فصلاهما، فأرسلت إليه الخادم، فقلت: قومي إلى جنبه، فقولي: تقول أم سلمة: يا رسول الله، ألم أسمعك تنهى عن هاتين الركعتين، فأراك تُصليهما؟! فإن أشار بيده فاستأخري، ففعلت الجارية، فأشار بيده، فاستأخرت عنه، فلما انصرف قال: (يا بنت أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، إنه أتاني أُناس من عبدالقيس بالإسلام من قومهم، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان؛ [أخرجه البخاري]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في الحديث من الفوائد: ذكاء أم سلمة رضي الله عنها، وهو ليس غريبًا عنها؛ حيث قالت للجارية: فإن أشار بيده فاستأخري؛ لأن الجارية قد لا تفهم ولا تعلم هذا ــــ(185)

الأمر، فلعله يشير لها وتُلحُّ عليه، لكن لما أرشدتها بقولها: فإن أشار بيده فاستأخري، كان هذا من ذكائها رضي الله عنها.

 وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن زوجه قالت له يومًا: عجبًا لك يا بن الخطاب، ما تريد أن تُراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يظل يومه غضبانَ! قال: فذهبت فدخلت على حفصة، فقال لها: يا بُنية، إنك لتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان، فقالت حفصة: والله إنا لنراجعه، فقال لها: تعلمين إني أُحذرك عقوبة الله، وغضب رسوله صلى الله عليه وسلم؟ يا بنيةُ لا يغرَّك هذه التي أعجبها حُسنها حُبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، يريد عائشة، ثم خرج فدخل على أم سلمة لقرابته منها، فكلَّمها، فقالت له: عجبًا لك يا بن الخطاب! دخلت في كل شيء حتى تبغي أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه! قال: فأخذتني والله أخذًا كسرتني عن بعض ما كنتُ أجدُ، فخرجت من عندها؛ [أخرجه البخاري]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: كانت أم سلمة رضي الله عنها عاقلة من أعقل النساء، ولهذا قال: "كسرتني عن بعض ما كنتُ أجدُ".

 وعن أنس رضي الله عنه، قال: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعتُ صوت النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفًا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ فأخرجت أقراصًا من شعير، ثم أخرجت خمارًا لها، فلفت الخبز ببعضه، ثم دسَّته تحت ثوبي، وردتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبتُ به، فوجدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ومعه الناس، فقمتُ عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرسلك أبو طلحة؟)، فقلتُ: نعم، قال: ــــ(186)

(بطعام؟)، فقلت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: (قوموا)، فانطلق وانطلقتُ بين أيديهم حتى جئتُ أبا طلحة، فقال أبو طلحة: يا أم سليم، قد جاء رسول الله صلى اله عليه وسلم بالناس، وليس عندنا من الطعام ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم؛ [متفق عليه]، قال الإمام النووي رحمه الله: وفيه منقبة لأم سليم رضي الله عنها، ودلالة على عظيم فِقها ورُجحان عقلها، لقولها: "الله ورسوله أعلم"، ومعناه: أنه قد غرف الطعام، فهو أعلم بالمصلحة، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:قالت الله ورسوله أعلم دلَّ ذلك على فطنة أم سليم ورجحان عقلها

وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في هذا الحديث فوائد؛ منها: ذكاء أم سليم رضي الله عنها؛ لأن النبي علية الصلاة والسلام لما جاء بالناس، وقال أبو طلحة رضي الله عنه: جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالناس، قالت: الله ورسوله أعلم؛ وذلك لأن الرسول علية الصلاة والسلام سأل أنسًا رضي الله عنه من قبلُ: ما الذي عندكم؟ قال: عندنا كذا وكذا، فدعا الناس، فعُلِمَ بهذا أنه سوف يكفي الناس، وهذا هو الذي حصل.

 في حادثة الإفك، قالت أم رومان لابنتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم: يا بنية هوِّني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يُحبها، ولها ضرائر، إلا أكثرن عليها؛ [متفق عليه]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وهذا الكلام من فطنة أمها وحُسن تأنِّيها في تربيتها بما لا مزيد عليه، فإنها علمت أن ذلك يَعظُم عليها، فهوَّنت عليها الأمر بإعلامها بأنها لم تنفرد بذلك؛ لأن المرء يتأسى بغيره فيما يقع له، وأدمجت في ذلك ما تُطيِّب به خاطرها من أنها فائقة في الجمال والحظوة، وذلك مما يعجب المرأة أن توصَف به.

ــــ(187) 

 وعن أم الفضل رضي الله عنها قالت: شكَّ الناس في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فأرسلت إليه بإناء فيه لبن، فشرب؛ [أخرجه البخاري]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وفي حديث أم الفضل رضي الله عنها دليل على ذكائها، فبدلًا من أن تذهب تسأل الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تُرسل إليه من يسأله، أرسلت إليه بلبن، فإن كان صائمًا فسيقول: إني صائمٌ، ولكنه علية الصلاة والسلام شرب.

وفي الختام فإن الذكاء والفطنة وكمال العقل من أجلِّ النعم إذا كانت مع الإيمان وطاعة الرحمن، فإن عريت منهما أصبحتْ وبالًا على صاحبها؛ قال الإمام الذهبي رحمه الله بعد ترجمته للزنديق الملحد الروندي: لعن الله الذكاء بلا إيمانٍ، ورضي الله عن البلادة مع التقوى.

وبعض الأعلام من الأذكياء لم ينفعهم ذكاؤهم، بل كان وبالًا عليهم، فمن أُعطِي الذكاء، فليشكر الرحمن الوهاب، وليَحذَر أن يكون هذا الذكاء سببًا للشكوك والشُّبهات التي قد تتدرج بصاحبها إلى الزندقة والإلحاد، نسأل الله الكريمَ كمالَ العقل مع طاعة للرحمن، والذكاء مع الإيمان.

 

 

 

 

 

 

ــــ(188)

فصل : صور من حرصهم رضي الله عنهم ومسابقتهم إلى فعل الخير

الصحابة رضي الله عنهم، لم يكونوا يجتهدون في فعل الطاعات، وأداء العبادات فقط؛ بل كانوا يتسابقون إلى فعلها، ويتنافسون في ذلك؛ ابتغاء ما عند الله من أجر وثواب؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، "قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم، قال: ((كيف ذاك؟))، قالوا: صلوا كما صلينا، وجاهدوا كما جاهدنا، وأنفقوا من فضول أموالهم، وليست لنا أموال، قال: ((أفلا أخبركم بأمر تُدركون من كان قبلكم، وتسبقون من بعدكم، ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله؟ تُسبِّحون في دبر كل صلاة عشرًا، وتحمدون عشرًا، وتكبرون عشرًا))"؛ [متفق عليه]قال العلامة العثيمين رحمه الله:في حديث أبي هريرة رضي الله عنه دليلٌ على فوائد منها حرص الصحابة رضي الله عنهم على المسابقة إلى الخير

وعن حذيفة رضي الله عنه قال:جاء أهل نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالو: يا رسول الله، ابعث إلينا رجلًا أمينًا فقال:(لأبعَثَنَّ إليكم رجلًا أمينًا حقَّ أمين، حقَّ أمين))، قال: فاستشرف لها الناس قال: فبعث أبا عبيدة بن الجراح[متفق عليه]

قال العلامة العثيمين رحمه الله: وفي الحديث دليلٌ على فوائد، منها: تسابُق الصحابة إلى الخير، والاطلاع إليه؛ لقوله: "فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"،وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد فصلَّى وخطب، ثم أتى النساء فوعظهن، وأمرهن بالصدقة، فرأيتهن يهوين إلى آذانهن وحلوقهن يدفعن إلى بلال"؛ [متفق عليه].قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في هذا الحديث دليل على فوائد، منها: أن نساء الصحابة كرجال الصحابة أشدُّ الناس مبادرةً في فعل الخير.

ــــ(189)

مسابقة أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى فعل الخير واجتهاده في العبادة:

وعن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: سمِعت عمر بن الخطاب يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدَّق فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئتُ بنصف مالي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقَيْتَ لأهلِكَ؟))، فقلتُ: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقَيْتَ لأهلِكَ؟))، قال: أبقيتُ لهم اللهَ ورسولَه، قُلتُ: لا أُسابِقُكَ إلى شيءٍ أبدًا"؛ [أخرجه أبو داود].

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: مرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه وأبو بكر، على عبدالله بن مسعود وهو يقرأ، فقام فتسمَّع قراءته، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ((مَنْ سرَّهُ أن يقرأ القرآن غضًّا كما أُنزِل فليقرأه من ابن عبد)) فأدلجت إلى ابن مسعود، لأبشِّره بما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمِع صوتي، قال: ما جاء بك الساعة؟ قلتُ: جئتُ لأبشِّرك بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قد سبقك أبو بكر، قلتُ: إن يفعل فإنه سبَّاقٌ بالخيرات، ما استبقنا خيرًا قَطُّ إلا سبقنا إليه أبو بكر"؛ [أخرجه أحمد].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من أصبح منكم صائمًا؟))، قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن اتَّبَع منكم اليوم جنازة؟))، قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟))، قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟))، قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمعن في امرئٍ إلَّا دخل الجنة))؛ [أخرجه مسلم].

 

ــــ(190)

اجتهاد عبدالله بن الزبير رضي الله عنه في الصيام والقيام وصلة الرحم:

عن أبي نوفل بن أبي عقرب "أن الحجاج  صلب عبدالله بن الزبير، فمرَّ عليه عبدالله بن عمر فقال لقد كنت صوَّامًا قوَّامًا تصِلُ الرَّحِم[أخرجه الطبراني في الكبير]

اجتهاد عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه في الصيام وقيام الليل:

عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "أُخبِر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله، لأصومَنَّ النهار، ولأقومَنَّ الليل ما عِشْتُ، فقال: ((اقرأ القرآن في كل شهر))، قلت: إني أجدني أقوى من ذلك، قال: ((فاقرأه في كل عشرة أيام))، قلت: إني أجدني أقوى من ذلك، قال: ((فاقرأه في كل ثلاث))، ثم قال: ((فإنك لا تستطيع ذلك، فصُمْ وأفْطِر، وقُمْ ونَمْ، وصُمْ من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر))، قُلتُ: فإني أُطيق أفضل من ذلك، قال: ((فصم يومًا وأفطر يومين))، قلتُ: إني أُطيق أفضل من ذلك، قال: ((فصُمْ يومًا وأفطِر يومًا؛ فذلك صيام داود عليه السلام، وهو أفضل الصيام))، فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا أفضل من ذلك))؛ [متفق عليه].

صلاة بلال رضي الله عنه ما تيسَّر له بعد كل طهور:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال نبي الله صلى الله عليه وسلم لبلال: ((يا بلالُ، خبِّرني بأرجى عملٍ عملته منفعةً في الإسلام؛ فإني قد سمِعْتُ الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنَّة))، قال: ما عملتُ يا رسول الله في الإسلام عملًا أرجى عندي منفعة من أني لم أتطهَّر طُهورًا تامًّا في ساعةٍ من ليل أو نهار إلَّا صليتُ بذاك الطهور لربِّي ما كُتب لي أن أصلي"؛ [متفق عليه].

ــــ(191) 

حرص ابن عمر رضي الله عنه على قيام الليل وعدم نومه إلا القليل من الليل:

عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه، قال: "رأيت في النوم كأن ملكين أخذاني، فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، فلقينا ملك آخر، فقال لي: لم تُرَع، فقصصتها على حفصة فقصَّتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((نِعْمَ الرجل عبدالله لو كان يُصلي من الليل)) فكان بعدُ لا ينام من الليل إلا قليلًا"؛ [متفق عليه].

اجتهاد جويرية بنت الحارث رضي الله عنها في ذكر الله من الصباح إلى الضحى:

عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها قالت: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح، ثم رجع بعد أن أضحى، وهي جالسة، فقال: ((ما زلت على الحال التي فارقتُكِ عليها؟))، قالت: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته))" [أخرجه مسلم].

 

 

 

 

 

 

 

ــــ(192)

فصل : صور من إيثارهم رضي الله عنهم

الأثرة مذمومة؛ لأنها من خصال البخل والشُّحِّ، ومن ابتُلي بالشُّحِّ فإنه يهلك، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((فإنَّ الشُّحَّ أهلك مَنْ كان قبلكم))؛ [أخرجه أبو داود].

ومن وقي شُح نفسه فهو مفلح؛ قال الله جل وعلا: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9].

والإيثار محمود؛ بل إنه من أكمل أنواع الجود والكرم؛ لأنه ليس من السهل على النفس أن تبذل شيئًا لغيرها، فكيف إذا كان هذا الشيء تحتاجه النفس وترغب فيه؟! لا شك أن ذلك يحتاج إلى إيمان قوي يجعل صاحبه يؤثر غيره على نفسه، وقد تحلَّى بهذا الخُلُق الكريم: الصحابة رضي الله عنهم؛ قال الله عز وجل عن الأنصار رضي الله عنهم: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]، قال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: وقوله: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾؛ أي: ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميَّزوا بها عمَّن سواهم: الإيثار، وهو أكمل أنواع الجُود، وهو الإيثار بمحابِّ النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها؛ بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خُلُقٍ زكي، ومحبَّة لله تعالى، مقدمة على شهوات النفس ولذَّاتها.

صاحب الإيثار لا يعرف الحسد والغل والحقد؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: لا،

ــــ(193)

إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها"؛ [أخرجه البخاري]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: الإقطاع: أن يجعل لهم أراضيَ وما أشبه ذلك، فقال الأنصار: لا يمكن إلا أن تعطي المهاجرين مثلها، وهذا من باب الإيثار.

إيثار سعد بن الربيع لعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما:

عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده، رضي الله عنه، قال: لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فقال لعبدالرحمن: إني أكثرُ الأنصار مالًا، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظُرْ أعجبَهما إليك، فسمِّها لي أُطلِّقها، فإذا انقضَتْ عِدَّتُها فتزوَّجْها، قال: بارك الله في أهلك ومالك... [الحديث أخرجه البخاري] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث منقبة لسعد بن الربيع في إيثاره على نفسه بما ذكر...وفيه استحباب المؤاخاة وحُسْن الإيثار من الغني للفقير.

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: انظُر الإيثار هنا، فقد شاطره ماله وأهله، فالمال يقسمه نصفين، والزوجتان يأخذ منهما التي تُعجِبُه، وهكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب فكلُّ شيء يرخص عند الإنسان، ولا تغلو الدنيا إلا لضعف الإيمان، أما قوي الإيمان فإن الدنيا لا تكون شيئًا عند الإنسان أبدًا.

إيثار رجل من الأنصار ضيفَه بطعامه:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إنَّ رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقُلْنَ: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يضُمُّ - أو يُضِيفُ - هذا؟))، فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت ــــ(194)

صبياني، فقال: هيِّئي طعامَكِ، وأصبحي سِراجَك، ونوِّمي صبيانك إذا أرادوا عشاءً، فهيَّأَتْ طعامَها، وأصبحَت سِراجَها، ونوَّمَتْ صبيانها، ثم قامت كأنها تُصلِح سِراجَها فأطفأتهُ، فجعلا يُريانه كأنهما يأكلان، فباتا طاوِيَيْنِ، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ضَحكَ اللهُ الليلة أو عجِبَ من فعالكما))، فأنزل الله: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9]"؛ [أخرجه البخاري ومسلم] قال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: آثر ضيفه بطعامه وطعام أهله وأولاده، وباتوا جياعًا، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ظاهر الحال: أن الضيف كان جائعًا، وأن هذا الأنصاري وزوجته وأولاده ليس عندهم شيء كثير؛ لأن طعام الزوجة وزوجها وأولادها لم يكْفِ إلا الضيف، وهذا من الإيثار على النفس بلا شك، مما يدُلُّ على فضلهم رضي الله عنهم.

إيثار عائشة لعمر رضي الله عنهما، وإذنها أن يدفن مع صاحبيه في غرفتها:

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا عبدالله بن عمر، اذهب إلى أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقل: يقرأ عمر بن الخطاب عليك السلام، ثم سَلْها أن أُدْفَنَ مع صاحبيَّ، قالت: كنتُ أريدهُ لنفسي فلأوثِرَنَّه اليوم على نفسي"؛ [أخرجه البخاري] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: أم المؤمنين رضي الله عنها قد بيَّنَتْ أنها قد أعدَّته لنفسها، فقد كانت تُريد أن تدفن مع الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومع أبيها رضي الله عنه؛ لأن الحجرة لها، ولكنها آثرَتْ أمير المؤمنين جزاها الله خيرًا.

 

ــــ(195)

إيثار جابر بن عبدالله رضي الله عنه لأخواته، وزواجه بالثيِّب من أجلهن:

عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: "هلك أبي، وترك سبع بنات أو تسع بنات، فتزوَّجت امرأة ثيِّبًا، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تزوجت يا جابر؟))، فقلت: نعم، فقال: ((بِكْرًا أم ثيِّبًا؟))، قلت: بل ثيِّبًا، قال: ((فهلا جارية تُلاعِبُها وتُلاعِبُك وتُضاحِكُها وتُضاحِكُك؟))، فقلت له: إن عبدالله هلك، وترك بنات، وإني كرهت أن أجيئهن بمثلهن، فتزوَّجت امرأةً تقوم عليهن، وتُصْلِحُهُنَّ، فقال: ((بارك الله))، أو ((خيرًا))؛ [متفق عليه].

 ومن وقي شح نفسه، كان صاحب إيثار؛ فإنه يهون عليه فعل الطاعات واجتناب المحرَّمات، قال العلامة ناصر بن عبدالرحمن السعدي رحمه الله: إذا وقي العبد شُحَّ نفسه، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله، ففعلها طائعًا مُنقادًا، منشِرحًا بها صدرُه، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه، وإن كان محبوبًا للنفس، تدعو إليه، وتتطلَّع إليه، وسمحت نفسه ببذْلِ الأموال في سبيل الله وابتغاء مرضاته وبذلك يحصل الفوز والفلاح.

 

 

 

 

 

 

 

ــــ(196)

فصل : صور من معيشتهم رضي الله عنهم

عدم وجود طعام لديهم في بيوتهم، وجوعهم الشديد:

عن البراء رضي الله عنه، قال: "إن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائمًا فلما حضره الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ فقالت: لا"؛ [أخرجه البخاري].

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "خرجتُ في غداة شاتية جائعًا وقد أوبقني البرد...والله ما في بيتي شيء آكل منه"؛ [أخرجه أبو يعلى].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "آلله الذي لا إله إلا هو، إن كنتُ لأعتمدُ بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنتُ لأشُدُّ الحَجَر على بطني من الجوع، ولقد رأيتُني وإني لأخِرُّ فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجرة عائشة من الجوع مَغشيًّا عليَّ"؛ [أخرجه البخاري]. وعنه رضي الله عنه، قال: "إنهم أصابهم جوع وهم سبعة، فأعطاني النبي صلى الله عليه وسلم سبع تمرات، لكل إنسان تمرة"؛ [أخرجه البخاري].

وعن هلال بن حصين قال: "نزلت على أبي سعيد الخُدْري فضمَّني وإيَّاه المجلس، فحدَّث: أنه أصبح ذات يوم وقد عصب على بطنه حَجَرًا من الجوع"أخرجه أحمد]

طعامهم التمر والماء وورق الشجر:

وعن أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: "إن كنا لننظُر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهِلَّة في شهرين، ما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم بنار، قال ابن الزبير: يا خالة، فما كان عيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح، فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه[متفق عليه]

ــــ(197) 

وعن جابر رضي الله عنه، قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمَّرَ علينا أبا عبيدة نَتَلَقَّى عيرًا لقريش، وزوَّدَنا جِرابًا من تمْرٍ، لم يجد لنا غيرَه، فكان أبو عُبيدة يُعطينا تمرةً تمرةً... نمَصُّها كما يَمَصُّ الصبيُّ، ثم نشرب عليها من الماء فيكفينا يومنا إلى الليل، وكُنَّا نضرب بعِصِيِّنا الخَبَط، ثم نبُلُّه بالماء فنأكُله"؛ [أخرجه مسلم].

وعن البراء رضي الله عنه، قال: "كنَّا - معشَرَ الأنصار- أصحاب نخل، فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي بالقِنْو والقِنْوَينِ فيُعلِّقه في المسجد، وكان أهل الصُّفَّة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاء أتى القِنْو، فضربه بعصاه، فيسقط البُسْر والتمر فيأكل"؛ [أخرجه الترمذي].

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "لقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لنا من طعام نأكله إلا ورق الحُبْلَة وهذا السَّمُر"؛ [متفق عليه].

وعن عتبة بن غزوان رضي الله عنه قال: "لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لنا من طعام نأكله إلَّا َوَرَقُ الشَّجَر حتى قَرِحَتْ أشداقُنا، فالتقطْتُ بُرْدةً فشَقَقْتُها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرْتُ بنِصْفِها، واتزر سعد بنِصْفِها"؛ [أخرجه مسلم].

لا يوجد لديهم إلا ثوب واحد (إزار):

عن أبي هريرة رضي الله عنه، سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُصلي الرجل في الثوب الواحد؟ قال: ((ألِكُلِّكُم ثوبان؟))؛ [أخرجه أحمد].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: "كنا نصلي في الثوب الواحد حتى جاءنا الله بالثياب"؛ [أخرجه ابن خزيمة].وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "كان أصحابُ الصُّفَّة سبعين رجلًا ما لهم أردية"؛ [أخرجه الحاكم].

ــــ(198) 

لا يوجد لديهم أكفان تغطي أجسامهم كاملة:

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى على حمزة، فوقف عليه، فرآه قد مُثِّل به، فدعا بنَمِرة، فكَفَّنَه فيها، وكانت إذا مُدَّت على رأسه بدَتْ قدماه، وإذا مُدَّت على قدميه بدا رأسُه"؛ [أخرجه أحمد].

وعن خباب رضي الله عنه، قال مصعب بن عمير قُتِل يوم أحد ولم يكن له إلا نَمِرة، كُنَّا إذا غطَّينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطَّينا رجليه خرج رأسُه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم(غَطُّوا بها رأسَه واجعلوا على رجليه من الإذْخَر[متفق عليه

وعن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال: "قُتل مصعب بن عمير، وكان خيرًا مني، فلم يوجد ما يُكفَّن فيه إلا بُرْدةٌ، وقتل حمزةُ أو رجل آخر خيرٌ مني، فلم يُوجَد له ما يُكفَّن فيه إلا بُرْدةٌ"؛ [أخرجه البخاري].

قلة الثياب عند نساء الصحابة:

عن أُمِّ عطية رضي الله عنها، قالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يُخرجُ الأبكار والعَواتِقَ وذوات الخُدُور والحُيَّضَ في العيدين، فأمَّا الحُيَّضُ فيعتزِلْنَ المصلَّى ويَشْهَدْنَ دعوةَ المسلمين، قالت إحداهُنَّ: يا رسول الله، إن لم يكن لها جلباب؟ قال: ((فلتُعِرْها أُخْتُها من جلابيبها))"؛ [متفق عليه].

عدم وجود مال لديهم للزواج:

عن ربيعة الأسلمي رضي الله عنه، قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا كئيب، فقال: ((ما لك يا ربيعة؟))، قلت: يا رسول الله، أتيتُ قومًا كِرامًا، فزوَّجُوني، ولم يسألونني بيِّنة وليس عندي ما أصدق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجمعوا له وزن نواة من ذهب))؛ [أخرجه أحمد].

ــــ(199) 

وفي قصة المرأة التي عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم لكي يتزوَّج بها، فلم يجبْها عليه الصلاة والسلام، فقام رجل من الصحابة، فقال: إن لم يكن لك بها حاجة فزوِّجنيها، فقال: ((هل عندك من شيءٍ؟))، فقال: لا؛ ولكن هذا إزاري، فلها نصفه، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((ما تصنع بإزارك؟! إن لبستَهُ لم يكن عليها منه شيء، وإن لبستْهُ لم يكن عليك شيء))؛ [أخرجه البخاري ومسلم]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: من فوائد الحديث: حال الصحابة رضي الله عنهم، وما هم عليه من الفقر وشظف العيش، ومع ذلك هم صابرون محتسبون، فإن هذا الرجل لا يملك إلا إزارًا فقط.

وعن أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليالٍ تباعًا حتى قُبض"؛ [متفق عليه]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: هذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لو شاء أن تسير الجبال معه ذَهَبًا لسارات، ومع ذلك تمرُّ عليه ثلاث ليالٍ تباعًا لا يشبع فيها من خبز الشعير أو من خبز البُرِّ، وإذا رأى الإنسان حالنا اليوم وجد أن الإنسان يُقدم له على الغداء عدة أصناف، وعلى العشاء كذلك، ولا كُنَّا نحدِّث أنفسنا بأن هذا من فضل الله علينا، وأنه لو شاء لسلبنا إيَّاه؛ كما قال الله عز وجل: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا﴾ [الواقعة: 63 - 65]، وقال في الماء: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا﴾ [الواقعة: 68 - 70]، وقال في النار: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ﴾ [الواقعة: 71، 72].

ــــ(200) 

ونحن في الحقيقة غافلون عن هذه الحقائق كأن هذا أمر معتاد يمرُّ بنا، أو كأنه مفروض علينا ومُحتَّم على الله عز وجل، ولو أننا نظرنا قليلًا في أمكنة قريبة منَّا وجدنا أنهم يموتون من الجوع، ويعجز الشابُّ أن يذهب من بلدته التي فيها الجوع إلى بلدة أخرى؛ بل يموت أثناء الطريق، ونحن الآن في هذه النِّعَم الوفيرة، وليتنا نشعُر بأنها نعم من الله عز وجل وفضل منه وإحسان، فنحمده إذا انتهينا من الأكل أو الشرب؛ بل كثير منَّا في غفلة عن هذا مع أن هذه البلاد يُحدِّثنا أهلها الذين هم أكبر منَّا أنه أتاها مجاعات عظيمة، وكانوا يموتون من الجوع في الأسواق، وكان ذوو الإحسان من الأغنياء من أهل البلد يخرجون بتمرات معجونة وماء، فإذا وجدوا أحدًا على آخر رمق صَبُّوا على فَمِه لعلَّه يبقى ولا يموت، وأحيانًا يموت، ويُصلَّى في المساجد على جنائز متعددة، كلُّ هذا من الجوع، فالذي أصابنا بالأمس يُمكن أن يأتينا اليوم إذا بطِرنا النعمة، ولم نشكرها.

وحدثني شخص أكبر منِّي قليلًا أنه كان إذا أتى أبوه بالنوى اجتمع عليه هو وإخوته، لعلهم يجدون نواة فيها سلب، يأخذونها ويمَصُّونها.

وكذلك حدثني شخص ثقة، قال: أقمنا ثلاثة أيام أنا ووالدتي لا نأكل، فلما كان ذات ليلة عجزنا أن ننام من الجوع، فقالت له: اذهب إلى مبيعة العلف واللحم، لعلك تجد فيها ولو علفًا أو عَظْمًا نطبخه، يقول: فذهبتُ، ووجدت أربع خفاف من خفاف الإبل، وكانوا في الأول يلحونها ويرمونها، وأخذت من العلف، وأتيت به بعد صلاة العشاء، يقول: فجعلنا نطبخ هذا الذي أتينا به من العلف، وشوبنا الخفاف ودققناها، وصرنا نذرُّها على العلف، فلما نضِج أكلناه.

ــــ(201) 

فإذا كان الأمر كذلك فالواجب أن الإنسان يعتبر ويتَّعِظ، وأقول هذا تذكيرًا لنفسي ولغيري بهذا النعم الكثيرة العظيمة الوفيرة التي نرتع فيها، مع الأمن العظيم؛ لكن ألا يمكن أن يُبدَّل هذا الأمن خوفًا، وهذا الرغد جوعًا؟! ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: 112]، واللباس لا يفارق الإنسان، بل هو شعار يُماسُّ البدن، ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [النحل: 33]ولهذا أذكر نفسي وغيري بهذه النعم العظيمة، وأسأل الله أن يُعيننا جميعًا على ذكره وشكره وحُسْن عبادته، فإن الإنسان إذا وكل إلى نفسه وكل إلى ضعف وعجز وعورة؛ لكن عليه أن يستعين الله عز وجل على شكر هذا النعم، وأن يتذكَّر إذا وضعت هذه الموائد بين يديه، وفيها من كل صنف، أن يتذكَّر حال النبي عليه الصلاة والسلام وما هو عليه من الجوع، وقلَّة ذات اليد، ومع هذا فهو صابر، صلوات الله وسلامه عليه، ما سأل الله يومًا من الدهر أن يُنوِّع له أصناف المآكل والمشارب؛ لكنه كان يدعو الله عز وجل أن يجعل رزقه كفافًا، لا يحتاج إلى أحد، حتى إنه عليه الصلاة والسلام جاءه ضيف ذات يوم، فأرسل إلى أهله، فمرَّ الرسول على الأبيات التسعة من أبيات الرسول عليه الصلاة والسلام، فما وجد عندهم إلا الماء، وهذا يُوجب للإنسان أن يزهد في الدنيا، وألا يجعلها إلا مطيَّةً للآخرة, بحيث لا تكون هي أكبر هَمِّه, ومبلغ عِلْمه وهي التي لا يفكر إلا بها, فإن هذه والله دناءة ودنوٌّ وانحطاط لأن الدنيا كما هي دنيا لكن الآخرة هي الحيوان وهي الحياة كما قال الله تعالى: ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإيَّاكم ممَّن آتاه الله في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقاه عذاب النار.

ــــ(202) 

فصل : صور من كراماتهم رضي الله عنهم

وجود أنس بن النضر وسعد بن الربيع رضي الله عنهما لريح الجنة:

عن أنس رضي الله عنه، قال: "غاب عمي أنس بن النضر رضي الله عنه عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غِبْتُ عن أوَّلِ قتالٍ قاتلتَ المشركين، لئنِ اللهُ أشهدني قتالَ المشركين ليَرَيَنَّ الله ما أصنع، فلما كان يوم أُحُدٍ، وانكشف المسلمون، قال: اللهمَّ إني أعتذر إليك ممَّا صنَع هؤلاء -يعني أصحابَه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء-يعني المشركين- ثم تقدَّم فاستقبله سعدُ بن معاذ، فقال: يا سعدُ بن معاذ، الجنةَ وربِّ النضر، إني أجدُ رِيحَها من دون أُحُدٍ، قال سعد: فما استطعْتُ يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربةً بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم"؛ [أخرجه البخاري].

وعن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه رضي الله عنه، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد، لطلب سعد بن الربيع، وقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله: ((كيف تجدك؟))، فجعلت أطوف بين القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق، وبه سبعون ضربة، ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت له: يا سعدُ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأ عليك السلام، ويقول لك: ((كيف تجدك؟))، قال: على رسول الله السلام، وعليك السلام، قل له: يا رسول الله، أجدني أجد ريح الجنة، وقل: لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله، أن يخلص إلى رسول الله وفيكم شفر يطرف، وفاضت نفسه رحمه الله"؛ [أخرجه الحاكم].

 

ــــ(203)

عدم تغيُّر جسد أبي طلحة رضي الله عنه بعد مضي سبعة أيام على موته:

عن أنس رضي الله عنه، "أن أبا طلحة رضي الله عنه قرأ القرآن: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: 41]، فقال: أرى أن تستنفروا شيوخًا وشبَّانًا، فقالوا: يا أبانا، لقد غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، فنحن نغزو عنك، فأبى، فركب البحر حتى مات، فلم يجدوا جزيرة يدفنوه إلا بعد سبعة أيام فما تغيَّر"؛ [أخرجه الحاكم].

عدم تغيُّر جسد والد جابر بن عبدالله رضي الله عنه بعد مضي ستة أشهر على موته:

عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: "لما حضر قتال أُحُد دعاني أبي من الليل، فقال: إني لا أُراني إلا مقتولًا في أول مَنْ يُقتَل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني والله ما أدعُ أحدًا يعني أعزُّ عليَّ منك بعد نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن عليَّ دينًا، فاقْضِ عنِّي ديني، واستوصِ بأخواتِكَ خيرًا، فأصبحنا، فكان أول قتيل فدفنته مع آخر في قبر، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر في قبر، فاستخرجتُه بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضَعْتُه غير أُذُنِه"؛ [أخرجه البخاري].

عدم إيذاء الأسد لسفينة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم:

عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها، فركبت لوحًا من ألواحها، فطرحني اللوح في أجمة فيها الأسد، فأقبل يريدني، فقلتُ: يا أبا الحارث، أنا مولى رسول الله، فطأطأ رأسَه وأقبل إليَّ، فدفعني بمنكبه حتى أخرجني من الأجمة، ووضعني على الطريق، وهَمْهَم، فظننت أنه يُودِّعُني، فكان آخر العهد به"؛ [أخرجه الطبراني في الكبير].

ــــ(204)  

رزق الله عز وجل لخبيب بن عدي رضي الله عنه لثمرة العنب، وما بمكة من ثمر:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريةً عينًا، وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت حتى إذا كانوا ببعض الطريق ذكروا لحيِّ من هذيل، فتبعوهم بقريب من مئة رجل رامٍ، فاقتصوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما أحسَّهم عاصم بن ثابت وأصحابه لجؤوا إلى فدفد، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقتلوا عاصمًا في سبعة نفر، وبقي خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة ورجل آخر، وانطلقوا بخبيب بن عدي وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة، فاشترى خُبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان قد قتل الحارث بن نوفل يوم بدرٍ، فمكث عندهم أسيرًا، فقالت إحدى بنات الحارث: ما رأيت أسيرًا خيرًا من خبيب، قد رأيته يأكلُ من قطف عنب، وما بمكة يومئذٍ ثمرة، وإنه موثق في الحديد وما كان إلا رزقًا رزقه الله إيَّاه"؛ [أخرجه أحمد].

استجابة الله لدعاء سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه على من تكلم فيه بغير حق:

عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل رجالًا يسألون عنه أهل الكوفة، فأثنوا عليه خيرًا حتى دخل مسجدًا، فقام رجل فقال: أما إذ نشدتنا فإن سعدًا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما والله، لأدعوَنَّ بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا قام رياءً وسمعة، فأطل عمره، وأطل فَقْرَه، وعرِّضه بالفتن، فكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد، قال عبدالملك (أحد رواة الحديث) فأنا رأيتُهُ بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرَّض للجواري في الطُّرُق يغمزهن"؛ [متفق عليه].

ــــ(205)  

استجابة الله لدعاء سعيد بن زيد رضي الله عنه على المرأة التي اتهمته ظلمًا:

عن عروة بن الزبير رضي الله عنه، أن أروى بنت أويس ادَّعَت على سعيد بن زيد رضي الله عنه، أنه أخذ شيئًا من أرضها، فخاصمته إلى مروان بن الحكم، فقال سعيد: أنا كنتُ آخذ من أرضها شيئًا بعد الذي سمِعْتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وما سمِعْتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه إلى سبع أرضين))، فقال له مروان: لا أسألك بيِّنة بعد هذا، فقال: اللهم إن كانت كاذبة فعمِّ بصرها، واقتلها في أرضها، قال: فما ماتت حتى ذهب بصَرُها، ثم بينا هي تمشي في أرضها إذا وقعت في حفرة فماتت"؛ [متفق عليه] وفي رواية لمسلم عن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر أنه رآها عمياء تلتمس الجدُر تقول: أصابتني دعوة سعيد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ــــ(206)

فصل : أمور أفرحتهم رضي الله عنهم

الإنسان إذا حصل له شيء يؤلمه فإنه يحزن، وإذا حصل له شيء يسرُّه فإنه يفرح، والفرح فرحان: 

الفرح الأول:فرح بطر يؤدي بالإنسان أن يكفر بالنعمة التي أنعم الله تعالى بها عليه؛ قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص: 76]، قال أهل العلم: المراد بالفرحين هنا: الذين أدَّى بهم الفرح إلى الأشر والبطر.

الفرح الثاني: فرح سرور وشكر لله تعالى على نعمه، فهذا محمود، وكان أكمل الناس الصحابة رضي الله عنهم يفرحون بما آتاهم الله من فضله، ومن الأشياء التي يفرح بها الإنسان نعم الله عليه، فعن عبدالله بن كعب، قال: سمِعْت كعب بن مالك حين تخلَّف عن تبوك: والله ما أنعم الله عليَّ من نعمة بعد إذ هداني أعظم من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا حين أُنزل الوحي: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 95] إلى قوله: ﴿الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 96]؛[متفق عليه].

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في قصة كعب بن مالك رضي الله عنه فوائد كثيرة، منها: أنه ينبغي للإنسان أن يفرح بنعم الله عليه، ولا سيَّما النعم الدينية، فإن كعبًا رضي الله عنه فرح بالإسلام، وفرح بكونه صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به.

والإنسان قد يعبر عن الفرح بالشيء، إما بالكلام الدال على فرحه، أو بالبكاء، فالإنسان قد يبكي من الفرح؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأُبي بن كعب: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن))، قال: ــــ(207)

آلله سمَّاني لك؟ قال: ((نعم))، وقال: وقد ذكرت عند رب العالمين؟ قال: ((نعم))، فذرفت عيناه"؛ [أخرجه البخاري] فالصحابي الجليل أُبي رضي الله عنه لم يأتِه شيء يكرهه، بل جاءه أمر يسُرُّه فبكى فرحًا،

ومن الأمور التي فرِحَ بها الصحابة رضي الله عنهم:

قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((المَرْءُ مع مَنْ أحَبَّ)).

عن أنس رضي الله عنه، "أن رجلًا قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وماذا أعدَدْتَ لها؟))، قال: حُبَّ الله ورسوله، قال: ((أنت مع مَنْ أحبَبْتَ))، قال أنس: فما فرحنا بشيءٍ بعد الإسلام فرحًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإنك مَعَ مَنْ أحبَبْتَ)) قال أنس: فأنا أحبُّ الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم"؛ [متفق عليه].

 نزول آية من القرآن بالرخصة في الأكل والشرب والجِماع حتى طلوع الفجر:

عن البراء رضي الله عنه، قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان الرجل صائمًا فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر، لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يُمسِي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائمًا، فلما حضره الإفطار، أتى امرأته، فقال: هل عندك طعام؟ فقالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل فغلبته عينه، وجاءته امرأته فلما رأته، قالت: خيبةً لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ [البقرة: 187]، ففرحوا بها فرحًا شديدًا ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187]؛ [أخرجه البخاري].

ــــ(208)  

التوفيق للصواب في مسألة:

عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه أتاه قوم، فقالوا: "إن رجلًا منَّا تزوَّج امرأة، ولم يفرض لها صداقًا، ولم يجمعها إليه حتى مات، فقال: أرى أن أجعل لها صداق نسائها، لا وكس ولا شطط، ولها الميراث، وعليها العدة أربعة أشهر وعشرًا، قال: وذلك بمسمع أناس من أشجع، فقاموا فقالوا: نشهد أنك قضيت بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة مِنَّا، يقال لها بروع بنت واشق، قال: فما رُئي عبدالله فرِحَ فرحَهُ يومئذٍ إلَّا بإسلامه"؛ [أخرجه النسائي].

شراء الأهل قميصًا  يستر عورته:

عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه، عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا حضرت الصلاة فليُؤذِّن أحدُكم، وليؤمُّكم أكثركم قُرْآنًا))، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنًا مني، فقدَّموني وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكان عليَّ بردة إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي: ألا تغطون عنا است قارئكم؟ فاشتروا لي قميصًا فما فرحت بشيءٍ فرحي بذلك القميص"؛ [أخرجه البخاري].

عدل الحاكم المسلم، نزول المطر في بلد من بلدان المسلمين:

فعن ابن عباس رضي الله عنهما، "أن رجلًا شتمه، فقال له: إنك لتشتمني، وإني فيَّ ثلاث خصال: إني لآتي على الآية من كتاب الله، فلوددت أن الناس يعلمون أكثر مما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين في أي أرض يعدل في رعيَّته فأفرح به، ولعلي لا أتحاكم في قضية واحدة، وإني لأسمع أن الغيث أصاب بلدًا من بلدان المسلمين فأفرح به، ومالي به من سائمة"؛ [قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني رجاله رجال الصحيح].

ــــ(209)  

فصل : صور من همومهم رضي الله عنهم

اهتمام عبدالله بن زيد رضي الله عنه لهمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم:

عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار، قال: "اهتمَّ النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها، فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضُهم بعضًا فلم يعجبه ذلك، فذكر له القنع فلم يعجبه، وقال: ((هو من أمر اليهود) فذكر له الناقوس فقال:(هو من أمر النصارى) فانصرف عبدالله بن زيد بن عبدربه وهو مُهتمٌّ لِهَمِّ رسول الله فأُرى الأذان في منامه[أخرجه أبو داود]

هم زيد بن أرقم رضي الله عنه لعدم تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام له:

عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، قال: سمِعت عبدالله بن أُبي يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى يَنْفَضُّوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرتُ ذلك لعمي أو لعمر، فذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني فحدَّثته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبدالله بن أُبي وأصحابه فحلفوا، فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدَّقهُ، فأصابني همٌّ لم يُصبني مثله قط، فأنزل الله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ﴾ [المنافقون: 1] فبعث إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ، فقال: ((إن الله صدَّقك يا زيد))؛ [أخرجه البخاري]، وفي رواية: فنمت كئيبًا حزينًا.

همُّ عمر بن الخطاب أن يدفن مع الرسول عليه الصلاة والسلام وأبي بكر الصديق:

عن عمرو بن ميمون الأزدي قال: رأيتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: يا عبدالله بن عمر، اذهب إلى أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقل: يقرأ عمر بن الخطاب عليك السلام، ثم سلها أن أُدْفَن مع صاحبي، قالت: كنتُ أريدُه لنفسي ــــ(210)

فلأوثِرَنَّه اليوم على نفسي، فلما أقبل قال له: ما لديك؟ قال: أذنت لك يا أمير المؤمنين قال: ما كان شيء أهم إليَّ من ذلك المضجع"؛ [أخرجه البخاري].

همُّ طلحة بن عبيدالله؛ لأنه لم يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم:

"مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بطلحة فرآه مهتمًّا، قال: لعلك ساءك إمارة ابن عمك – يعني: أبا بكر - قال: لا، ولكني سمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ((إني لأعلم كلمةً لا يقولها الرجل عند موته إلَّا كانت نورًا في صحيفته، أو وجد لها روحًا عند الموت))، قال عمر: أنا أُخبرك بها، هي الكلمة التي أراد بها عمه، شهادة أن لا إله إلا الله، قال: فكأنما كشف عني غطاء"؛ [أخرجه أحمد].

قضاء ديونهم:

لما طُعِن عمر رضي الله عنه، وعرف أنه ميت قال: "يا عبدالله بن عمر، انظر ماذا عليَّ من الدين. إن وفي له مال آل عمر فأدِّه من أموالهم وإلَّا فسَلْ في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم فسَلْ في قريش, ولا تعدُهُم إلى غيرهم" [أخرجه البخاري]

وعن عبدالله بن جابر رضي الله عنه، قال: لما حضر أُحد دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني إلا مقتولًا في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لا أترك بعدي أعزَّ عليَّ منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن عليَّ دينًا فاقْضِ واستوص بأخواتك خيرًا وفي رواية إن أكبر همِّي لديني[أخرجه البخاري]

وعن عبدالله بن الزبير رضي الله عنه، قال: "دعاني الزبير...فجعل يوصيني بدينه ويقول: يا بني، إن عجزت عن شيء منه، فاستعن عليه مولاي، قال: فوالله ما دريت ما أراد حتى قلتُ: يا أبَتِ، من مولاك؟ قال: الله، قال: فوالله ما وقعت في كربةٍ من دينه إلا قلتُ: يا مولى الزبير اقْضِ عنه دَيْنَه فيقضيه"؛ [أخرجه البخاري].

ــــ(211)

فصل : صور من صدقهم رضي الله عنهم

ذِكر حاطب رضي الله عنه للسبب الذي حمله على الكتابة للمشركين:

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: "بعثي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: ((انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخٍ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها))، فانطلقنا حتى أتينا الروضة، فإذا بالظعينة، فقلنا: هلمٍّي الكتاب، قالت: ما عندي من كتاب، فقلتُ: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((ما هذا يا حاطب؟))، قال حاطب: والله ما بي ألَّا أكون مؤمنًا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أردتُ أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته مَنْ يدفع الله به عن أهله وماله، فقال: ((صدق، ولا تقولوا إلَّا خيرًا))"؛ [متفق عليه].

صدق بلال رضي الله عنه في إجابته لمن سأله عن حال أخيه عندما أراد أن يتزوج منهم:

عن عمرو بن ميمون، حدثني أبي: "أن أخًا لبلال كان ينتمي في العرب، ويزعم أنه منهم، فخطب امرأة من العرب، فقالوا: إن حضر بلال زوَّجْناك، فحضر بلال، فقال: أنا بلال بن رباح، وهذا أخي، وهو امرؤ سوءٍ سيئ الخُلُق والدين، فإن شئتم أن تزوِّجوه فزوِّجوه، وإن شئتم أن تدعوه فدعوه"؛ [أخرجه البيهقي في السنن الكبرى].

 

ــــ(212)

صراحة كعب بن مالك رضي الله عنه في إخباره بأسباب تخلُّفه عن غزوة تبوك:

حدث كعب رضي الله عنه، حين تخلَّف في غزوة تبوك، قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما خلفك، ألم تكن ابتعت ظهرك ؟))، فقلت: يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه، ولقد أعطيت جدلًا؛ ولكن والله لقد علمت لئن حدثك اليوم بحديث كذب لترضى به عني، ليوشك أن الله عز وجل يُسخطك عليَّ، ولئن حدثك حديث صدق تجدُ عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله، والله ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك))؛ [متفق عليه]وقال رضي الله عنه: "والله ما أنعم الله عليَّ من نعمة بعد إذ هداني أعظم من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ما أعلمُ أحدًا أبلاه الله في صدق الحديث أحسن ممَّا أبلاني ما تعمَّدْت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبًا"؛ [متفق عليه].

صدق الصحابي في رغبته الشهادة في سبيل الله:

جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فآمن به، واتَّبعه، وقال: إنِّي اتَّبعتُكُ على أن أرمى ها هنا - وأشار إلى حلقه بسهم - فأموت فأدخل الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن تصدق الله يصدقك))، ثم نهض فقاتل فقتل، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((صدق الله فصدقه))؛ [أخرجه الترمذي].

صراحة الصحابي في الإجابة عن سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجل فأرسل إليه فخرج ورأسه يقطرُ فقال:(لعلنا أعجلناك؟) قال: نعم[متفق عليه]

ــــ(213) 

فصل : صور من تواضعهم رضي الله عنهم

قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: إنكم تغفلون أفضل العبادة التواضُع.

تواضُع أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

قال رضي الله عنه: "وليتكم ولستُ بخيركم"، قال سفيان: بلغنا عن الحَسَن أنه قال: بلى والله، إنه لخيرهم، ولكن المؤمن يهضم نفسه؛ [أبو داود في الزهد].

تواضُع عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

عن ابن عباس رضي الله عنه أنه دخل على عمر بن الخطاب حين طُعِن، فقال له: "أبشر يا أمير المؤمنين، أسلمت مع رسول الله حين كفر الناس، وقاتلت مع رسول الله حين خذله الناس، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك رجلان، وقُتِلت شهيدًا، فقال: أعد فأعاد، فقال: المغرور من غررتمُوه، لو أن لي ما على الأرض من بيضاء وصفراء، لافتديتُ به من هول المطلع"؛ [أخرجه ابن حبان].

وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه قال: "خرج عمر بن الخطاب إلى الشام ومعه أبو عبيدة بن الجرَّاح، فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة له، فنزل عنها، وخلع خُفَّيه، فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته، فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أنت تفعل هذا، تخلع خُفَّيْكَ وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة، ما يسرُّني أن أهل البلد استشرفوك، فقال عمر: أوه لم يقل ذا غيرك أبا عبيدة، جعلته نكالًا لأُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا كنا أذلَّ قوم، فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزَّنا الله به أذلَّنا الله"؛ [أخرجه الحاكم].

ــــ(214)

وعن سعيد بن المسيب رحمه الله قال: "لما نفر عمر كوَّم كومة من تراب، ثم بسط عليها ثوبه واستلقى عليها"؛ [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف].

 وعن عطاء الخراساني رحمه الله قال: "احتبس عمر بن الخطاب عن جلسائه، فخرج إليهم من العشي، فقالوا: ما حبسك؟ فقال: غسلت ثيابي، فلما جفَّت خرجت عليكم"؛ [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنَّف]. 

وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: "كان عمر يقولُ: أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا، يعني: بلالًا"؛ [متفق عليه]، قال العلامة ابن عثيمين رحمة الله: هذا من تواضُع عمر رضي الله عنه.

وعن ابن عباس رضي الله عنه، قال: "قال عمر: لأن أُقدَّم فتُضرَب عُنقي أحَبُّ إليَّ من أن أتقدَّم قومًا فيهم أبو بكر"؛ [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف].

وعن عامر أن عمر قال: "لا أسمعُ بأحد فضَّلَني على أبي بكر إلا جلدته أربعين"؛ [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف].

وعن عمرو بن ميمون، عن أبيه، قال: "قال رجل لعمر بن الخطاب: ما رأيت مثلك، قال: رأيت أبا بكر؟ قال: لا، قال لو قلت: نعم إني رأيتُه لأوْجَعْتُكَ"؛ [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف].

لما طُعِن عمر قال لابنه عبدالله رضي الله عنهما: "انطلق إلى عائشة أمِّ المؤمنين، فقل: يقرأُ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لستُ اليوم للمؤمنين أميرًا"؛ [أخرجه البخاري]، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: وهذا من التواضُع.

 

 

ــــ(215)

تواضُع عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه:

"أتي رضي الله عنه بطعام - وكان صائمًا - فقال: قُتِلَ مُصعب بن عمير - وهو خيرٌ مني - وكفن في بردة إن غُطِّي رأسُه بَدَتْ رجلاه، وإن غُطِّي رجلاه بَدا رأسُه، وقتل حمزة - وهو خيرٌ مني - ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط"؛ [أخرجه البخاري]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي قول عبدالرحمن بن عوف: هو خيرٌ مني، دلالة على تواضُعه.

تواضُع عبدالله بن مسعود رضي الله عنه:

عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: "لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي رجلان، ولحَثيتُم على رأسي التراب، ولودِدْتُ أن الله غفر لي ذنبًا من ذنوبي، وإني دعيتُ عبدالله بن روثة"؛ [أخرجه الحاكم].

تواضع أبو هريرة رضي الله عنه:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا عنه منِّي إلا ما كان من عبدالله بن عمرو، فإنه كان يكتبُ ولا أكتبُ"؛ [أخرجه البخاري].

تواضُع عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه:

عن مقسم مولى عبدالله بن الحارث بن نوفل، قال: "أتيت عبدالله بن عمرو بن العاص وهو يطوف بالبيت معلقًا نعليه بيده"؛ [أخرجه أحمد].

 تواضُع عبدالله بن عمر رضي الله عنه:

عن نافع قال: "كان ابن عمر لا يأكل حتى يُؤتى بمسكين يأكلُ معه"؛ [أخرجه البخاري].

ــــ(216)

تواضُع أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما:

عن ابن عباس رضي الله عنه أنه دخل على عائشة رضي الله عنها فقال لها: أبشري، فقالت: أيضًا، فقال: ما بينك وبين أن تلقي محمدًا صلى الله عليه وسلم والأحِبَّة إلَّا أن تخرج الروح من الجسد، كنتِ أحَبَّ نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله ولم يكن رسول الله يُحِبُّ إلا طيبًا وسقطت قلادتُك ليلة الأبواء، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يصبح في المنزل وأصبح الناسُ ليس معهم ماء، فأنزل الله عز وجل ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾[النساء: 43]، فكان ذلك في سببك، وما أنزل الله عز وجل لهذه الأُمَّة من الرخصة وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات جاء به الروح الأمين, فأصبح ليس مسجد من مساجد الله يذكر فيه الله إلا يُتلى فيه آناء الليل وآناء النهار فقالت دعني منك يا ابن عباس، والذي نفسي بيده لوددتُ أني كنتُ نسيًا منسيًّا[أخرجه أحمد] وعنها رضي الله قالت: شأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمرٍ، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: في الحديث فوائد، منها: ما كانت عليه عائشة رضي الله عنها من التواضُع واحتقار النفس.

وعنها رضي الله عنها قالت لابن الزبير ادفني مع صواحبي ولا تدفني مع النبي صلى الله عليه وسلم في البيت، فإني أكره أن أزكى[أخرجه البخاري]، قال ابن حجر أي يثني عليَّ بما ليس فيَّ بل بمجرد كوني مدفونة عنده دون سائر نسائه, فيظن أني خصصت بذلك من دونهن لمعنى فيَّ ليس فيهن, وهذا منها في غاية التواضُع, قال العلامة ابن عثيمين في تعليقه على إذنها لعمر أن يدفن مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في حجرتها: "هذا من تواضعها رضي الله عنها، أنها تركت أن تُدفن في حجرتها؛ لئلا تُزكى به من بين سائر زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام".

ــــ(217)  

فصل : صور من نصحهم رضي الله عنهم لغيرهم

عن زياد بن علاقة، قال: "سمِعت جرير بن عبدالله يوم مات المغيرة بن شعبة، قام فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار والسكينة حتى يأتيكم أمير؛ فإنما يأتيكم الآن، ثم قال: استعفوا لأميركم، فإنه كان يحب العفو، ثم قال: أما بعدُ، فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، قُلتُ: أبايعك على الإسلام، فشرط عليَّ: ((والنصح لكل مسلم))، فبايعته على هذا، وربِّ هذا المسجد، إني لناصح لكم، ثم استغفر ونزل"؛ [أخرجه البخاري].

وعن مسلم بن يتاق قال: "كنت مع عبدالله بن عمر في مجلس، فمرَّ علينا فتى مسبل إزاره، فقال: هلم يا فتى، فأتاه، فقال: أتحب أن ينظر الله إليك يوم القيامة؟ قال: نعم، قال: فارفع إزارك إذًا؛ فإني سمِعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: بأذنيَّ هاتين، وأهوى بإصبعيه إلى أذنيه، يقول: ((مَنْ جرَّ إزاره لا يريد إلا الخيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة))؛ [أخرجه أحمد].

وعن زيد بن أسلم، "أن ابن عمر أتى ابن مطيع ليالي الحرة، فقال: اطرحوا لأبي عبدالرحمن وسادة، فقال ما جئت لأجلس عندك، ولكن جئت أُخبرك ما سمِعْت من النبي صلى الله عليه وسلم، سمِعته يقول: ((مَنْ نزع يدًا من طاعة لم تكن له حجة يوم القيامة، ومن مات مفارقًا للجماعة، فإنه يموت موت الجاهلية))"؛ [أخرجه أحمد].

وعن سعيد بن عبيدة قال: "كنت عند ابن عمر، فحلف رجل بالكعبة، فقال ابن عمر: ويحك لا تفعلن؛ فإني سمِعْت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حلف بغير الله فقد أشرك))"؛ [أخرجه ابن حبان].

ــــ(218)  

وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه، "أنه مرَّ بعمير بن سعد وهو يعذب الناس في الجزية في الشمس، فقال: يا عمير، إني سمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يُعذِّبُ الذين يعذبون الناس في الدنيا))، قال: اذهب فخل سبيلهم"؛ [أخرجه ابن حبان].

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: "دخل شابٌّ على عمر، فجعل الشابُّ يُثني عليه، فرآه عمر يجرُّ إزاره، فقال له: يا بن أخي، ارفع إزارك، فإنه أتقى لربِّك، وأنقى لثوبك"؛ [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف].

وعن عائشة رضي الله عنها "أنها رأت عبدالرحمن بن أبي بكر يتوضَّأ فقالت: يا عبدالرحمن، أحسن الوضوء؛ فإني سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ويلٌ للأعقاب من النار))"؛ [أخرجه أحمد].

وعن يزيد بن الأصم قال: "تلَّقيت عائشة وهي مقبلة من مكة، أنا وابن لطلحة بن عبيدالله وهو ابن أختها، وقد كنا وقعنا في حائط من حيطان المدينة، فأكلنا منه، فبلغها ذلك، فأقبلت على ابن أختها تلومه وتعذلُه، ثم أقبلت عليَّ فوعظتني موعظة بليغة"؛ [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف].

عن عون بن عبدالله، قال: "أتى أم الدرداء رجل، فقال: إن بي داءً من أعظم الداء، فهل عندك له دواء؟ قالت: وما ذلك؟ قال: إني أجد قسوةً في القلب، فقالت: أعظم الداء داؤك، عُدِ المرضى، واتَّبِع الجنائز، واطَّلع في القبور؛ لعل الله أن يُلين قلبك، ففعل الرجل، فكأنه أحسَّ من نفسه رقَّةً، فجاء إلى أُمِّ الدرداء يشكر لها"؛ [أخرجه أبو داود في كتابه الزهد].

 

ــــ(219)

فصل : صور من أمانيهم رضي الله عنهم وهممهم العالية

اغتنام الفرص لسؤال المغفرة:

الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للأنصار رضي الله عنهم: ((والله، لا تسألوني اليوم شيئًا إلا أعطيتكموه))، فماذا سألوا ؟ قالوا: اغتنموا الأمر، واسألوا الرسول عليه الصلاة والسلام أن يدعو لكم بالمغفرة؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: شقَّ على الأنصار النواضح، فاجتمعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، يسألونه أن يكري لهم نهرًا سيحًا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مرحبًا بالأنصار، مرحبًا بالأنصار، والله لا تسألوني اليوم شيئًا إلا أعطيتكموه، ولا أسألُ الله لكم شيئًا إلا أعطانيه))، فقال بعضهم لبعض: اغتنموها، وسلوا المغفرة، فقالوا: يا رسول الله ادْعُ الله لنا بالمغفرة، فقال رسول الله صلى اله عليه وسلم: ((اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار))؛ [أخرجه أحمد].

أمنية عمر رجالٌ مثل أبي عبيدة ومعاذ وحذيفة وسالم رضي الله عنهم:

عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأصحابه "تمنوا فقال بعضهم: أتمنَّى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله، وأتصدَّق، وقال رجل أتمنَّى لو أنها مملوءة زبرجدًا وجوهرًا، فأنفقه في سبيل الله وأتصدَّق، فقال عمر: أتمنَّى لو أنها مملوءة رجالًا مثل أبي عبيدة ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وحذيفة بن اليمان[أخرجه الحاكم]

طلب ربيعة الأسلمي رضي الله عنه مرافقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة:

عنه رضي الله عنه، قال: "كنت أبيتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم، آتيه بوضوئه فقال: ((سلني))، قلتُ: مرافقتك في الجنة، قال: ((أو غير ذلك))، قلتُ: هو ذاك، قال: ((فأعنِّي على ذلك بكثرة السجود))؛ [أخرجه أبو داود].

ــــ(220)  

تمنِّي عوف بن مالك رضي الله عنه الموت ليدعو له الرسول عليه الصلاة والسلام:

عن عوف بن مالك رضي الله عنه، قال: "سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى على جنازة، يقول: ((اللهم اغفر له، وارحمه، واعف عنه، وعافه، وأكرم نزله، ووسِّع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقِّه من الخطايا، كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وقِهِ فتنة القبر، وعذاب النار))، قال عوف: فتمنَّيْتُ أن لو كنت أنا الميت لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الميت"؛ [أخرجه مسلم].

طلب عكاشة رضي الله عنه أن يكون مع السبعين الألف الذين يدخلون الجنة:

عن ابن عباس رضي الله عنه، "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخل الجنة من أُمَّتي سبعون ألفًا بغير حساب))، فقال عكاشة بن محصن رضي الله عنه: يا رسول الله، ادْعُ الله أن أكون منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنت منهم)) فقام آخر، فقال ادعُ أن أكون منهم، قال:(سبقك بها عكاشة)[متفق عليه]

 طلب عمير بن الحمام رضي الله عنه أن يكون من أهل الجنة:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قوموا إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض))، فقال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: ((نعم))، فقال: بخ بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يحملك على قول بخ بخ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: ((فإنك من أهلها))، فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييتُ حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، ثم رمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل"؛ [أخرجه مسلم].

ــــ(221)  

الصبر على الحاجة والفاقة رغبة في المسابقة إلى الجنة:

جاء ثلاثة نفر إلى عبدالله بن عمرو بن العاص، فقالوا: "يا أبا محمد، إنا والله ما نقدر على شيءٍ، لا نفقة، ولا دابَّة، ولا متاع، فقال لهم: ما شئتم، إن شئتم رجعتم إلينا، فأعطيناكم ما يسَّر الله، وإن شئتم ذكرنا أمركم للسلطان، وإن شئتم صبرتم؛ فإني سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ((إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفًا))، قالوا: فإنا نصبر لا نسألُ شيئًا"؛ [أخرجه مسلم].

محبة عمرو بن تغلب رضي الله عنه للكلمة التي قالها الرسول عليه الصلاة والسلام:

عن عمرو بن تغلب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى بمال، أو سبي، فقسمه، فأعطى رجالًا وترك رجالًا، فبلغه أن الذين تَرَكَ عتبوا، فحمد الله، ثم أثنى عليه، ثم قال: (أما بعد، فوالله إني لأعطي الرجل، وأدعُ الرجل، والذي أدْعُ أحَبُّ إليَّ من الذي أُعطي ولكن أُعطي أقوامًا لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع وأكِلُ أقوامًا إلى ما جعل في قلوبهم من الغنى والخير فيهم عمرو بن تغلب) فوالله ما أُحِبُّ أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حُمر النعم[أخرجه البخاري]

غبطة ابن مسعود للمقداد رضي الله عنهما:

عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا لأن أكون صاحبه أحَبُّ إليَّ مما عُدِلَ به، أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا ﴾ [المائدة: 24]؛ ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، أشرق وجهُه وسرَّه؛ يعني: قوله"؛ [أخرجه البخاري].

ــــ(222) 

الشجاعة من أجل الفوز بالجنة:

عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري قال: سمِعتُ أبي تجاه العدو يقول: سمِعْت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ((إن السيوف مفاتيح الجنة))، فقال له رجل رثُّ الثياب: يا أبا موسى، أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، فسلَّ سيفَه وكسر غمده، والتفت إلى أصحابه، وقال: أقرأ عليكم السلام، ثم تقدَّم إلى العدوِّ فقاتل حتى قُتِل"؛ [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ــــ(223)

فصل : صور من استشارتهم رضي الله عنهم

استشارة عمر للرسول عليه الصلاة والسلام في الأرض التي أصابها في خيبر:

عن عمر رضي الله عنه، قال: أصبت أرضًا من أرض خيبر، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: أصبت أرضًا لم أُصِبْ مالًا أحَبَّ إليَّ ولا أنفس عندي منها، فما تأمرني به؟ قال: ((إن شئت حبست أصلها وتصدَّقْتَ بها))، قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا تورث ولا توهب"؛ [أخرجه مسلم].

استشارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه للصحابة في عقوبة شارب الخمر:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، "أن النبي صلى الله عليه وسلم، أُتي برجل قد شرب الخمر، فجلده نحو الأربعين، وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبدالرحمن بن عوف: أخفُّ الحدود ثمانين، فأمر به عمر"؛ [متفق عليه].

استشارة فاطمة بنت قيس رضي الله عنها للرسول عليه الصلاة والسلام في نكاحها:

عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، أن زوجها طلقها البتة، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم، أن تعتدَّ في بيت أُمِّ شريك، وقال: ((تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتَدِّي عند ابن أُمِّ مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني))، فلما حللتُ، ذكرتُ له أن معاوية، وأبا جهم، خطباني، فقال: ((أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد))؛ [متفق عليه].

 

 

ــــ(224)

فصل : صور متفرقة من حياتهم رضي الله عنهم

العفو عمَّن أساء الأدب إذا كان جاهلًا:

عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: "دخل عيينة بن حصين بن حذيفة على عمر بن الخطاب، فقال له: هِيْ يا بن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همَّ به، فقال له الحرُّ بن قيس: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله"؛ [أخرجه البخاري].

حسن أدب الصحابة رضي الله عنهم:

عن سهل بن سعد رضي الله عنه، "أن امرأة جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد النظر وصوبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت أنه لم يقض فيها شيئًا جلست، فقام رجل من أصحابه، فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوِّجنيها" [متفق عليه].

 قال العلامة العثيمين رحمه الله من فوائد الحديث: حسن أدب الصحابة رضي الله عنهم، وأنهم على أعلى ما يكون من الأدب والخُلُق، وذلك لقول الرجل: "يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوِّجنيها"، ولم يقل مباشرة: زوِّجنيها، وهذا الأدب من هذا الرجل نظير الأدب مع ذي اليدين؛ حيث سلم النبي صلى الله عليه وسلم من الركعتين فقال يا رسول الله أنسيتَ أم قُصِرت الصلاة؟ ولم يجزم بأحدهما للاحتمال؛ فالصحابة أكمل الناس أدَبًا، ولا يوجد لهم نظير في الأدب والأخلاق.

ــــ(225)

وعن أنس رضي الله عنه، قال: "ذهبت إلى أبي طلحة، وهو زوج أم سليم بنت ملحان، فقلتُ: يا أبتاه"؛ [متفق عليه].

عدم الإنكار على الآخرين إذا كان في الأمر سَعة:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: "كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم"؛ [متفق عليه].

وعن محمد بن أبي بكر الثقفي قال: "قلت لأنس ونحن غاديان من منى إلى عرفات: ما كنتم تصنعون في التلبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم؟ قال: كان الملبي يُلبِّي فلا ينكر عليه ويُكبر المكبر فلا ينكرُ عليه"؛ [متفق عليه].

سؤال الله الجليس الصالح:

عن حريث بن قبيصة رضي الله عنه، "قال: قدمتُ المدينة، فقلت: اللهم يسِّر لي جليسًا صالحًا، فجلست إلى أبي هريرة رضي الله عنه"؛ [أخرجه الترمذي].

وعن علقمة قال: قدمت الشام، فصليت ركعتين، ثم قلت: اللهم يسِّر لي جليسًا صالحًا، فأتيت قومًا، فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى يجلس إلى جنبي، قلتُ: من هذا؟ قالوا: أبو الدرداء، فقلتُ: إني دعوتُ الله أن يُيَسِّر لي جليسًا صالحًا فيَسَّرك"؛ [أخرجه البخاري].

 الحذر من قرين وجليس السوء:

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "لصاحَبٌ صالحٌ خيرٌ من الوحدة، والوحدةُ خيرٌ من صاحب السوء"، وعن عمر رضي الله عنه قال: "في العزلة راحة من خلطاء السوء"؛ وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لا عليك ألَّا تصحب أحدًا إلَّا مَنْ أعانَكَ على ذكر الله عز وجل"؛ [أخرجهما البيهقي في السنن الكبرى].

ــــ(226) 

التعامل مع مال الله:

عن اليرفأ قال لي عمر: "إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن احتجت منه أخذْتُ منه، فإذا أيسرت رددته، وإن استغنيت استعففت"؛ [البيهقي في السنن الكبرى].

تأديب من يفتي بغير علم:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "سألني رجل من أهل الشام عن لحم اصطِيدَ لغيرهم، أيأكله وهو محرم؟ فأفتيته أن يأكله، فأتيتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذكرت له ذلك، فقال: بم أفتيتَ؟ قُلتُ: أمرته أن يأكله، قال: لو أفتيتَه بغير ذلك لعَلَوْتُ رأسَكَ بالدِّرَّة، ثم قال عمر: إنما نُهيت أن تصطاده"؛ [أخرجه البيهقي في السنن الكبرى].

العدل مع أبغض الخلق إلى الإنسان:

عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: "أفاء الله عز وجل خيبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقرَّهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كانوا عليه، وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبدالله بن رواحة فخرصها عليهم، ثم قال لهم: يا معشر اليهود، أنتم أبْغَضُ الخَلْق إليَّ؛ قتلتُمْ أنبياء الله عز وجل، وكذبتم على الله، وليس يحملني بُغْضي إيَّاكم على أن أحيف عليكم، قد خرصت عشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم فلكم، وإن أبيتم فلي، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض قد أخذنا فاخرجوا عنا"؛ [أخرجه أحمد].

 

 

ــــ(227)

عدم سؤال الناس شيئًا:

عن ثوبان رضي الله عنه، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مَنْ يتكفَّل لي ألَّا يسأل شيئًا وأتكفَّل له بالجنة؟)) قال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل أحدًا شيئًا، فكان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحدٍ ناولنيه حتى ينزل فيتناوله[أخرجه أحمد]

محبة أهل القرآن:

عن مسروق قال: "كنت جالسًا عند عبدالله بن عمرو بن العاص فذُكِر عبدالله بن مسعود، فقال: إن ذاك لرجلٌ لا أزال أُحِبُّه أبدًا، سمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((خُذُوا القرآن عن أربعة عن ابن أُمِّ عبدٍ)) فبدأ به"؛ [أخرجه مسلم].

الهدية المفيدة:

عن ابن أبي ليلى قال: قال لي كعب بن عجرة: ألا أُهدي لك هدية؟ قلنا: يا رسول الله، قد عرفنا كيف السلام عليك فكيف نصلي عليك؟ قال (قولوا:اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد[متفق عليه]

طلب التحديث بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم استفادةً من الوقت:

عن عبدالله بن رباح رضي الله عنه، قال: وفدنا إلى معاوية بن أبي سفيان، وفينا أبو هريرة، فكان كلُّ رجلٍ منَّا يصنع يومًا طعامًا لأصحابه، فكانت نوبتي، فقلتُ: يا أبا هريرة، اليوم يومي، فجاءوا إلى المنزل ولم يُدرك طعامنا، فقلتُ: يا أبا هريرة، لو حدثتنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدرك طعامنا، فقال: كُنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح"؛ [أخرجه مسلم].

ــــ(228) 

تذكر الموت والآخرة عند المرض:

عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعودني عام حجة الوداع، من وجع أشتدَّ بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدَّق بثلثي مالي؟ قال: ((لا))، قلت: الشطر، قال: ((لا))، ثم قال: ((الثلث والثلث كثير))"؛ [أخرجه البخاري].

وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: "جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني، وأنا مريض لا أعقل، فتوضَّأ، وصَبَّ عليَّ من وضوئه فعقلتُ، فقلت: يا رسول الله، لمن الميراث؛ إنما يرثني كلالة؟ فنزلت آية الفرائض"؛ [أخرجه البخاري].

من وقع في نفسه شيء فطلب من العالم أن يُحدِّثه بما ينفعه:

عن ابن الديلمي رضي الله عنه قال: "وقع في نفسي شيء من هذا القدر، خشيتُ أن يُفسِد عليَّ ديني وأمري، فأتيت أبي بن كعب، فقلت: إنه وقع في نفسي شيء من هذا القدر، فخشيت على ديني وأمري، فحدَّثني من ذلك بشيء، لعلَّ الله أن ينفعني به، فقال: لو أن الله عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو كان لك مثل جبل أُحُد ذهبًا تُنفِقه في سبيل الله ما قُبل منك حتى تؤمن بالقدر فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليُصيبك، وأنك لو مت على غير هذا دخلت النار"؛ [أخرجه ابن ماجه].

 

 

ــــ(229)

الالتزام بوفاء الدين:

عن عبدالله بن أبي قتادة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي برجل ليُصلَّى عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((صلُّوا على صاحبكم؛ فإن عليه دينًا))، قال أبو قتادة: هو عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بالوفاء))، قال: بالوفاء، فصلَّى عليه"؛ [أخرجه الترمذي].

عدم الدعاء على من ارتكب ذنبًا:

عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: "إذا رأيتم أخاكم قارف ذنبًا، فلا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه، تقولون: اللهم أخزه، اللهم العنْه؛ ولكن سَلُوا الله العافية"؛ [أخرجه عبدالرزاق في المصنف].

وعن أبي قلابة رضي الله عنه، "أن أبا الدرداء مَرَّ على رجل قد أصاب ذنبًا، فكانوا يسبُّونه، فقال: أرأيتم لو وجدتموها في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبُّوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أفلا نُبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي"؛ [أخرجه عبدالرزاق في المصنف].

الدعاء لمن صنع معروفًا:

عن عبدالله بن جعفر المخزومي، قال: حدثتني أم بكر بنت المسور: "أن عبدالرحمن بن عوف باع أرضًا له بأربعين ألف دينار، فقسمها في بني زهرة، وفقراء المسلمين والمهاجرين، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى عائشة رضي الله عنها بمال من ذلك، فقالت: مَنْ بعث هذا المال؟ قلتُ: عبدالرحمن بن عوف، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحنو عليكن من بعدي إلَّا الصابرون))، سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة"؛ [أخرجه الحاكم].

ــــ(230) 

تعلم لغة العدوِّ للحذر منه:

قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا زيدُ، تعلَّم لي كتاب يهود؛ فإني والله ما آمن يهود على كتابي))، قال زيد: فتعلَّمتُ له كتابهم، ما مرَّت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنتُ أقرأُ لهم كُتُبهم إذا كتبوا إليه، وأُجيبُ عنه إذا كتب"؛ [أخرجه البخاري].

وعنه رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتيني كُتُب من الناس لا أُحِبُّ أن يقرأها كل أحد، فهل تستطيع أن تتعلَّم كتاب السريانية))، قلت: نعم فتعلمتها في سبع عشرة"؛ [أخرجه أحمد].

الغضب عند الحاجة:

عن قزعة أنه سمِع أبا سعيد الخُدْري يُحدِّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأعجبني فدنوتُ منه، وكان في نفسي حتى أتيته، فقلت: أنت سمِعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فغضب غضبًا شديدًا، قال: فأُحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم أسمَع!"؛ [أخرجه أحمد].

الشكوى إلى الله جل جلاله:

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "تبارك الذي وسِعَ سمْعُه كلَّ شيءٍ، إني لأسمَع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى عليَّ بعضُه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقول: يا رسول الله، أكل شبابي، ونثرتُ له بطني، حتى إذا كبرت سنِّي، وانقطع ولدي، ظاهر منِّي، اللهم أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبرائيل بهؤلاء الآيات: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [المجادلة: 1]"؛ [أخرجه النسائي].

ــــ(231)  

محبة أن يشاركهم أقاربهم الخير الذين ينعمون به:

وعن زينب بنت أبي سلمة، قالت: إنَّ أمَّ حبيبة قالت: يا رسول الله، انكح أختي، قال: ((أو تُحبِّين ذلك؟))، قالت: نعم لست لك بمُخلية وأحَبُّ مَنْ شاركني في خيرٍ أُختي"؛ [متفق عليه].

قوة اليقين بأن ما في الآخرة خيرٌ ممَّا في الدنيا:

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة عليها السلام في شكواه الذي قبض فيه، فسارَّها بشيءٍ فبكت، ثم دعاها فسارَّها بشيءٍ فضحكت، فسألنا عن ذلك، فقالت: سارَّني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يُقبَضُ في وجعه الذي تُوفِّي فيه، فبكيتُ، ثم سارَّني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكْتُ"؛ [أخرجه البخاري].

 قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: بكت فاطمة رضي الله عنها لفقد أبيها، ثم ضحكت لسرعة لحاقها به، وفي هذا دليل على يقينها رضي الله عنها، بأنها إذا انتقلت من هذه الدار تنتقل إلى خير منها، وإلا فلا أحد يُقال له: إنك قريب الأجل فيضحك! بل هذا بعيد من حيث الطبيعة البشرية؛ لكن لإيمانها رضي الله عنها بأن ما في الآخرة خيرٌ ممَّا في الدنيا ضحكت.

الحزن على من قتل من المسلمين:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: "حزنتُ على مَنْ أُصِيب بالحرة، فكتب إليَّ زيد بن أرقم، وبلغه شِدَّةُ حزني، يذكرُ أنه سمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار))؛ [متفق عليه].

 

ــــ(232)

الإنصاف:

عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: "ذهبتُ أسُبُّ حسان عند عائشة، فقالت: لا تسُبَّه؛ فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ [أخرجه البخاري].

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في حديث عائشة رضي الله عنها دليلٌ على إنصافها؛ لأن حسان بن ثابت كان ممَّن تكلَّم في الإفك، وحدَّهُ النبي صلى الله عليه وسلم حدَّ القَذْفِ، فجاء هذا الرجل عند عائشة يسبُّه؛ ولكنها قالت: لا تسُبَّه، وعلَّلَتْ ذلك بأنه كان يُنافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصائده المشهورة، والذي يُنافح عن الرسول عليه الصلاة والسلام لا شكَّ أن الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات.

الزهد في الدنيا:

عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: "أنتم أكثر صيامًا، وأكثر صلاةً، وأكثر جهادًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيرًا منكم، قالوا: لِمَ يا أبا عبدالرحمن؟ قال كانوا أزهد في الدنيا، وأرغب في الآخرة[أخرجه ابن أبي شيبة]

 وعن سعيد بن جبير رحمه الله، قال: "دخلت على ابن عمر، فإذا هو مفترش ذراعيه، متُوسِّد وسادةً حشوها ليف"؛ [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف].

وعن عروة بن الزبير رضي الله عنه، قال: "كانت عائشة تقسم سبعين ألفًا، وهي ترقع درعها"؛ وعن عطاء "أن عائشة بعث لها معاوية قلادة قُومت بمئة ألف، فقبلتها وقسمتها بين أمهات المؤمنين"؛ [أخرجهما ابن أبي شيبة في المصنف].

وعن عروة "كانت رضي الله عنها تقسم في اليوم سبعين ألفًا، وإنها لترقع درعها"؛ [أبو داود في كتابه الزهد].

ــــ(233)

الخوف من الله جل جلاله:

عن نافع "أن ابن عمر رضي الله عنه، لقي راعيًا بطريق مكة، فقال له: بعني شاة؟ قال: ليست لي، قال له: فتقول لأهلك أكلها الذئب؟ قال: فأين الله؟! قال: اسمع، وافني ها هنا إذا رجعت من مكة، ومرَّ مولاك يُوافيني ها هنا، فلما رجع لقي رب الغنم، واشترى منه الغنم، واشترى منه الغلام، فأعتقه ووهب له الغنم"؛ [أخرجه أبو داود في كتابه الزهد].

الحرص أن يكونوا ممَّن يحبُّهم الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام:

وعن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خبير: ((لأُعطينَّ هذه الراية غدًا رجلًا يفتحُ الله على يديه، يُحِبُّ الله ورسوله، ويُحبُّهُ الله ورسوله))، فبات الناس يدوكون ليلتهم، أيُّهم يُعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أين علي بن أبي طالب؟))، فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينه، قال: ((فأرسلوا إليه))، فأتي به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية"؛ [متفق عليه].

وفاء رفاعة بن شداد

عنه رضي الله عنه قال : كنتُ أقومُ على رأس المختار فلما تبينتُ كذبه هممتُ وايم الله أن أسلَّ سيفي فأضرب عنقه, حتى ذكرت حديثاً حدثينه عمرو بن الحمق قال : سمعتً النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من أُمِنَ رجلاً على نفسه فقتله, أُعطى لواء الغدر يوم القيامة ) [أخرجه أحمد] قال الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا الساعاتي رحمه الله : " كنتُ أقوم على رأس المختار " أي حارساً.

ــــ(234)

عفو أبي بكر الصديق عن مسطح رضي الله عنهما

كان أبو بكر الصديق ينفق على ابن خالته مسطح رضي الله عنهما, فلما وقع مسطح في عرض عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك, حلف أبو بكر رضي الله عنه ألا ينفق عليه, فلما نزل قول الله عز وجل : ) ولا يأتل أُلوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أُولى القُربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم [  [النور:22] قال أبو بكر رضي الله عنه : بلى والله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا, ثم صار ينفق على مسطح.

 



ــــ(235)
الفهرس
الموضوع
الصفحة
المقدمة
3
تمهيد : محبة الله جل جلاله ورسوله علية الصلاة والسلام للصحابة
5
فصل : صور من محبتهم رضي الله عنهم للرسول علية الصلاة والسلام
7
محبتهم لما يُحبُّ علية الصلاة والسلام
10
قتلهم من آذاه علية الصلاة والسلام
11
حفظهم لسره علية الصلاة والسلام
13
اقتداؤهم بالرسول علية الصلاة والسلام
15
الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم وحمايته
17
عدم فعلهم لما يكره علية الصلاة والسلام
18
كراهيتهم لما يكره علية الصلاة والسلام
18
تعظيمه وتوقيره علية الصلاة والسلام
18
حرصهم على راحة رسول الله صلى الله عليه وسلم
19
تقبيل أسيد بن خضير لبطن رسول الله عندما كشفه له ليقتص منه
19
فصل : صور من تعظيمهم رضي الله عنهم لسنة الرسول علية الصلاة والسلام
20
اتباعهم للسنة وترك قول من خالفها كائناً من كان
22
توبيخ من أورد الإيرادات على تطبيق السنة
24
هجرهم وغضبهم الشديد على من خالف السنة ولو كان أقرب قريب
25
ــــ(236)
رجوعهم لاتباع السنة
27
حثهم لغيرهم على فعل السنة ولو لم يفعلوها مع بيان عذرهم في ذلك
29
الدعاء على من أنكر من اقتفى السنة
29
تنبيههم من أراد مخالفة السنة
29
تسليمهم التام للسنة علموا الحكمة منها أو لم يعلموا
30
عدم قبول مخالفة السنة ولو كانت تقديراً واحتراماً لهم
30
تطبيقهم للسنة بشكل مستمر دائم
30
غضبهم على من لم يخبرهم بالسنة
31
تطبيقهم للسنة في أشدَّ الظروف
31
مشاركة من تحت أيديهم لهم في تطبيق السنة
32
تطبيقهم للسنة مع كل أحد
32
فصل : صور من امتثالهم رضي الله عنهم لأمر الرسول علية الصلاة والسلام
33
فعل ما أمر به الرسول علية الصلاة والسلام ولو خالف أهواءهم
34
عدم مخالفة أمر الرسول علية الصلاة والسلام مهما كانت الأسباب
37
سرعة المبادرة إلى امتثال أمر الرسول علية الصلاة والسلام
39
امتثالهم لأمره علية الصلاة والسلام وعدم السؤال هل الأمر للوجوب ؟
45
امتثال محمد بن سلمه لأمر الرسول علية الصلاة والسلام بكسر سيفه
46
فصل : صور من اهتمامهم رضي الله عنهم بالصلاة
48
الصلاة أحبُّ إليهم من أبائهم وأبنائهم بشهادة أعدائهم
50
ــــ(237)
كان الرجل يذهب إلى الصلاة يُهادي به بين الرجل حتى يقام في الصف
50
إيقاظ الأهل لصلاة آخر الليل
51
الخشوع في الصلاة
51
البكاء لتأخير الولاة للصلاة عن وقتها
51
تصدق رجل من الأنصار بحائطه لأنه أشغله عن الصلاة
52
عدُّ الزوجة التي تكون سبباً لتخلف زوجها عن الصلاة ليلة العرس امرأة سوء
53
متابعتهم للرسول علية الصلاة والسلام لمعرفة كيف يؤدي صلاته
53
فصل : صور من عنايتهم رضي الله عنهم بطلب العلم وتعليمه
55
فضل العلم
56
الحث على طلب العلم
57
التنبيه إلى أهمية الإخلاص في طلب العلم
57
الحرص على تحصيل العلم
58
العلم ما أورث الخشية من الله
59
طلب العلم على العلماء الراسخين فيه
59
الاتباع والحذر من الابتداع
60
الحفظ
60
تقيد العلم وكتابته
61
مذاكرة المحفوظ ومراجعته
61
الرحلة في طلب العلم
61
أخلاق وآداب المتعلم
62
ــــ(238)
آداب مجلس العلم
64
أدب السؤال
66
الفتوى الإجابة عن الأسئلة
69
أخلاق وآداب العالم
72
نشر العلم
74
الحث على تعليم الأبناء وتأديبهم
74
العمل بالعلم
74
فصل : صور من أسئلتهم رضي الله عنهم للرسول علية الصلاة والسلام
76
السؤال عن العمل المقتضي لمحبة الله عز وجل ومحبة الناس
77
السؤال عن الأعمال التي تدخل الجنة
81
السؤال عن أحبّ الأعمال إلى الله عز وجل
84
السؤال عن خير خصال الإسلام
85
السؤال عن أفضل الأعمال والعبادات
86
السؤال عن خير الناس وأفضلهم
90
السؤال عن أكبر الذنوب وأعظمها
92
السؤال عن شيءٍ يُنتفع به
93
السؤال عن الأشياء التي تُشكل
94
السؤال عن برِّ الوالدين بعد موتهما
96
السؤال عن أمر يُعتصمُ به
97
السؤال عن أدعية وتعوذات
97
ــــ(239)
فصل : صور من خوفهم رضي الله عنهم
99
خوفهم النفاق على أنفسهم
103
خوفهم من الفتن
103
خوفهم أيهم يكون الناجي من بعث النار
104
شدة خوف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
105
خوف ثابت بن قيس رضي الله عنه أن يكون حبط عمله
106
شدة مخافة الله في قلب كعب بن مالك رضي الله عنه
107
خوف عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه من كثرة ماله أن يهلكه
107
الأعمال التي يقومون بها إذا حدث من واحد منهم ذنب
108
المبادرة إلى التوبة
108
الندم الشديد على المعصية
108
فعل ما يكون كفارة لذنوبهم
109
طلبهم من الرسول علية الصلاة والسلام أن يطهرهم من ذنوبهم
110
البكاء على ما قاموا به
111
فصل : صور من ورعهم رضي الله عنهم
113
توقيهم سكنى الحرم
116
توقفهم عن أخذ العوض على قراءة القرآن
116
عدم مساعدتهم لمن صاد وهو حلال وهم محرمون
116
ورع أبو بكر الصديق رضي الله عنه
117
ورع عمر بن الخطاب رضي الله عنه
118
ــــ(240)
ورع عبدالله بن مسعود رضي الله عنه
118
ورع ابن عمر رضي الله عنهما
119
ورع عبدالله بن مغفل رضي الله عنه
119
ورع سعيد بن عامر رضي الله عنه
120
ورع أم المؤمنين زينب بنت حجش رضي الله عنها
120
فصل : صور من بكاءهم رضي الله عنهم
122
البكاء في الصلاة
123
البكاء عند قراءة القرآن الكريم
124
البكاء عند سماع المواعظ ورؤية القبر وتذكر ما بعد الموت
125
البكاء لفراق الصالحين
127
البكاء سروراً بنعم الله
129
البكاء خوفاً أن تكون النعم والطيبات استدرجاً وسبباً للعداوة والبغضاء
131
البكاء إذا أُذي رسول الله صلى الله عليه وسلم
131
البكاء تأثراً بأحوال المسلمين
132
البكاء تأثراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
133
البكاء تأثراً ببكاء الآخرين
134
البكاء على ما فات من أمر الدين
134
بكاء أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما
135
فصل : حياءهم رضي الله عنهم
138
الحياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم
139
ــــ(241)
الحياء من فعل ما يخرم المروءة
139
الحياء من ذكر ما يستحي منه عرفاً
140
حياء الصغار وأدبهم عند وجود الكبار
140
حياء الصحابيات رضي الله عنهن
141
فصل : صور من مبادرتهم ومسابقتهم رضي الله عنهم إلي الإنفاق في سبيل الله
144
من فوائد الصدقة ومنافعها
145
وقف بني النجار أرضهم لمسجد رسول الله علية الصلاة والسلام
151
تصدق أبو بكر بماله وتصدق عمر بن الخطاب بنصف ماله رضي الله عنهما
151
وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأرضه بخيبر في سبيل الله
152
حفر عثمان بن عفان رضي اله عنه لبئر رومه وتجهيزه لجيش العسرة
152
تصدق أبي الدحداح رضي الله عنه بحائطه في سبيل الله
153
كان مرثد بن عبدالله لا يجيء المسجد إلا ومعه شيء يتصدق به
153
تصدق كعب بن مالك رضي الله عنه ببعض ماله لتوبة الله عز وجل عليه
154
تصدق ابن عمر رضي الله عنها بما يُحبُّ من ماله
154
مبادرة نساء الصحابة رضي الله عنهن إلى الصدقة بحليهن
154
عدم إمساك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لشيءٍ جاءها وتصدقها به
155
محبة أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها للصدقة
155
تسمية أم المؤمنين زينب بنت خزيمة رضي الله عنها بأم المساكين لكثرة صدقتها
155
تصدق زينب زوج عبدالله بن مسعود رضي الله عنهما بحليها
156
ــــ(242)
أمور تراعي في الصدقة حتى تقع موقعها ويثاب العبد عليها
156
فصل : صور من برهم رضي الله عنهم بآبائهم
158
البرّ بهما ولو كانا مُشركين
158
الحرص على دعوتهما إلى الإسلام
159
البر بهما مع الثبات على الدين
159
ترك حج التطوع لصحبة الأم
159
الصيام عنهما الصيام الواجب عليهما
160
الصدقة عنهما في حياتهما
160
الصدقة عنهما بعد موتهما
160
الحجُّ والعمرة عنهما
160
الدعاء لهما
161
قضاء النذر عنهما
161
برهما بعد وفاتهما
161
فصل : صور من تربيتهم رضي الله عنهم لأبنائهم
163
العدل بينهم
163
تعويدهم على الصوم
164
الحج بهم
164
مضاحكتهم وملاعبتهم
164
سؤالهم عن أسباب تأخرهم في العودة إلى المنزل
165
تعليمهم الأدعية التي تحفظهم في نومهم
165
ــــ(243)
محبة الخير لهم
165
رحمتهم وإيثارهم على أنفسهم
166
تشجيعهم على حفظ الأسرار
166
توجيههم إلى لبس الملابس المباحة
167
توجيههم إذا بلغوا إلا يدخلوا إلا بأذن
167
تأديبهم إذا ارتكبوا ما يخالف الشرع
167
وصيتهم لأبنائهم عند حضور الموت
167
فصل : صور من حياتهم الزوجية رضي الله عنهم
168
المهر العظيم
168
مشاركة كلا الزوجين للآخر في المشاعر والأحاسيس
168
صبر كلا الزوجين على بعض المؤذي من أجل راحة الطرف الآخر
169
التهوين والتأنيس على من أُصيب من الزوجين بما يزعجه ويقلقه
169
تشجيع كلا الزوجين للآخر على عمل الخير
170
ملاعبة الزوج لزوجه
170
مواساة الزوجة لزوجها بمالها إذا كان محتاجاً
170
تصنع الزوجة لزوجها
171
تجمل الزوجة لزوجها
171
استجابة الزوجة لطلب زوجها
172
غيرة الزوج على زوجه
172
خدمة الزوجة لزوجها
173
ــــ(244)
شكوى الزوجة من زوجها بأحسن العبارات وتجاوب الزوج
175
خروج المنزل من المنزل عند اشتداد الخلاف حتى تهدأ الأمور
177
فصل : صور من كمال عقولهم رضي الله عنهم وذكاءهم
178
فصل : صور من حرصهم رضي الله عنهم ومسابقتهم إلى فعل الخير
189
مسابقة أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى فعل الخير واجتهاده في العبادة
190
اجتهاد عبدالله بن الزبير رضي الله عنه في الصيام والقيام وصلة الأرحام
191
اجتهاد عمرو بن العاص رضي الله عنه في الصيام والقيام
191
صلاة بلال رضي الله عنه ما تيسر له بعد كل وضوء
191
حرص ابن عمر رضي الله عنهما على قيام الليل
192
اجتهاد أم المؤمنين جويرة بنت الحارث رضي الله عنها في ذكر الله
192
فصل : صور من إيثارهم رضي الله عنهم
193
إيثار سعد بن الربيع لعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما
194
إيثار رجل من الأنصار لضيفه
194
إيثار عائشة لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما
195
إيثار جابر بن عبدالله رضي الله عنه لإخواته
196
فصل : صور من معيشتهم رضي الله عنهم
197
عدم وجود طعام لديهم في بيوتهم وجوعهم الشديد
197
طعامهم التمر والماء وورق الشجر
197
لا يوجد لديهم إلا ثوب واحد ( إزار)
198
لا يوجد لديهم أكفان تغطى أجسادهم
199
ــــ(245)
قلة الثياب عند الصحابيات رضي الله عنهن
199
عدم وجود مال لديهم للزواج
199
فصل : صور من كراماتهم رضي الله عنهم
203
وجود أنس بن النضر وسعد الربيع رضي الله عنهما لريح الجنة
203
عدم تغير جسد أبي طلحة رضي الله عنه بعد مضي سبعة أيام على موته
204
عدم تغير جسد والد جابر رضي الله عنه بعد مضى ستة أشهر على موته
204
عدم إيذاء الأسد لسفينة رضي الله عنه مولى رسول الله علية الصلاة والسلام
204
رزق الله جل جلاله لخبيب رضي الله عنه
205
استجابة الله لدعاء سعد بن وقاص رضي الله على من ظلمه
205
استجابة الله لدعاء سعيد بن زيد رضي الله عنه على من ظلمته
206
فصل : أمور أفرحتهم رضي الله عنهم
207
قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( المرء مع من حب )
208
نزول آية من القرآن في إباحة الأكل والشرب والجماع حتى طلوع الفجر
208
التوفيق للصواب في مسألة
209
شراء الأهل قميصاً يستر عورته
209
عدل الحاكم المسلم, نزول المطر في بلد من بلدان المسلمين
209
فصل : صور من همومهم رضي الله عنهم
210
اهتمام عبدالله بن زيد رضي الله عنه لهمِّ الرسول صلى الله عليه وسلم
210
هم زيد بن أرقم رضي الله عنه لعدم تصديق الرسول علية الصلاة والسلام له
210
هم عمر أن يدفن مع الرسول علية الصلاة والسلام وأبي بكر رضي الله عنهما
210
ــــ(246)
هم طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه لأنه لم يسأل الرسول علية الصلاة والسلام
211
همهم أن تقضى ديونهم
211
فصل : صور من صدقهم رضي الله عنهم
212
ذكر حاطب رضي الله عنه للسبب الذي حمله على الكتابة للمشركين
212
صدق بلال رضي الله عنه في إجابته لمن سأله عن حال أخيه
212
صراحة كعب بن مالك رضي الله عنه في إخباره عن أسباب تخلفه
213
صدق الصحابي في رغبته الشهادة في سبيل الله
213
صدق الصحابة في الإجابة على سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم
213
فصل : صور من تواضعهم رضي الله عنهم
214
تواضع أبو بكر الصديق رضي الله عنه
214
تواضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه
214
تواضع عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه
216
تواضع عبدالله بن مسعود رضي الله عنه
216
تواضع أبو هريرة رضي الله عنه
216
تواضع عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه
216
تواضع عبدالله بن عمر رضي الله عنه
216
تواضع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
217
فصل : صور من نصحهم رضي الله عنهم لغيرهم
218
فصل : صور من أمانيهم رضي الله عنهم وهمتهم العالية
220
اغتنام الفرصة لسؤال المغفرة
220
ــــ(247)
أمنية عمر رجالاً مثل أبو عبيدة ومعاذ وحذيفة وسالم رضي الله عنهم
220
طلب ربيعة الأسلمي مرافقة الرسول علية الصلاة والسلام في الجنة
220
تمنى عوف بن مالك الموت ليدعو له الرسول علية الصلاة والسلام
221
طلب عكاشة أن يكون من السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بلا حساب
221
طلب عمير بن الحمام أن يكون من أهل الجنة
221
الصبر على الحاجة والفاقة رغبة في المسابقة إلى الجنة
222
محبة عمرو بن تغلب للكلمة التي قالها الرسول علية الصلاة والسلام
222
غبطة ابن مسعود للمقداد رضي الله عنهما
222
الشجاعة والجهاد من أجل الفوز بالجنة
223
فصل : صور من استشارتهم رضي الله عنهم
224
استشارة عمر للرسول علية الصلاة والسلام في الأرض التي أصابها بخيبر
224
استشارة عمر للصحابة رضي الله عنهم في عقوبة شارب الخمر
224
استشارة فاطمة بن قيس للرسول علية الصلاة والسلام في نكاحها
224
فصل : صور متفرقة من حياتهم رضي الله عنهم
225
الفهرس
236
ــــ(248)

=======

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعَرَّف على الإســلام د. منقذ بن محمود السقار

هدية إلى كل باحث عن الحق من غير المسلمين تعَرَّف على الإســلام د. منقذ بن محمود السقار مقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسل ا...