تحميلات المصحف بكل صيغه

تحميلات

صفة صلاة النبي{ص}تحقيق الشيخ الألباني

صفة صلاة النبي{ص}تحقيق الشيخ الألباني

https://alnukhbhtattalak.blogspot.com/ صفة صلاة النبي{ص}

الجمعة، 22 أبريل 2022

أعمال عجل الله عقوباتها في الدنيا المؤلف إدريس أبوالحسن الفقيه

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد :

فإن للذنوب والمخالفات آثارًا وخيمة، وأضرارًا جسيمة؛ فهي سبب كل همٍّ وفساد ومصيبة وكَبَد }وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ{ [الشورى: 30].

ومن الذنوب والمعاصي ما يعجِّل الله عقوباتها في الدنيا إمعانا في  التشنيع على فاعليها وترهيبًا من ارتكابها والوقوع فيها، وإليك – أخي المسلم - جملة من المخالفات التي يعجل الله عقابها في الدنيا وقد جمعناها تذكرة وتبصرة؛ }وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ{ [الذاريات: 55].

والله ولي التوفيق

  الحرص على الدنيا – صرف الهموم لغير الله     

الحرص  على الدنيا: وهذه الخصلة يعجل الله عليها عقوبتين هما أصل البلايا والمحن:

الأولى: تشتيت الشمل.

الثانية: الفقر الدائم وانقطاع القناعة؛ فعن يزيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان هَمُّه الآخرة، جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة، ومن كان هَمُّه الدنيا، فَرَّقَ الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له»([1]).

قال ابن رجب الحنبلي رحمه  الله: «فأما الحرص على مال فهو على نوعين:

أحدهما: شدة محبة المال مع شدة طلبه من وجوهه مع الجهد والمشقة.

قلت: ولو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف الذي لا قيمة له وقد كان يمكن صاحبه فيه اكتساب الدرجات العلا والنعيم المقيم.. فالحريص يضيع زمانه الشريف ويخاطر بنفسه التي لا قيمة لها في الأسفار، وركوب الأخطار لجمع مال ينتفع به غيره. كما قيل:


ومن ينفق الأيام في جمع ماله
مخافة فقر فالذي فعل الفقر
فالحرص على الدنيا معذِّب صاحبه، مشغول لا يسر، ولا يلذ بجمعه لشغله، فلا يفرغ من محبة الدنيا لآخرته؛ لالتفاته لما يفنى وغفلته عما يدوم ويبقى!
لا تغبطن أخًا حرص على سعة
وانظر إليه بعين الماقت القالي
إن الحريص لمشغول بثروته
عن السرور بما يحوي من المال


  1. والثاني: أن يزيد على ما سبق ذكره في النوع الأول حتى يطلب المال من الوجوه المحرَّمة ويمنع الحقوق الواجبة؛ فهذا من الشُّحِّ المذموم؛ قال تعالى: }وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ [الحشر: 9].

وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الشحَّ؛ فإنَّ الشُّحَّ أهلك مَنْ كان قبلكم؛ أمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا»([2]) .

والحريص على الدنيا دائم الهموم مستديم الغموم، لا يقنع برزقه، ولا يطمئن لقضاء الله وقدره؛ فذُلُّه قائمٌ لا يزول، وفاقته حاضرة لا تعرف الأفول.

لا تأسفنَّ على الدنيا وما فيها

 

 

فالموتُ لا شك يفنينا ويفنيها

ومن يكن همه الدنيا ليجمعها

 

 

فسوف يومًا على رغم يخليها

لا تشبع النفس من دنيا تجمعها

 

 

وبلغة من قوام العيش تكفيها

النفس تطمع في الدنيا وقد  علمت

 

 

أن السلامة منها ترك ما فيها




صرف الهموم لغير الله: فعن ابن مسعود - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جعل الهموم همًّا واحدًا على المعاد كفاه الله سائر همومه، ومن تشعَّبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أيِّ أوديتها هَلَكَ» ([3]) .

فالاهتمام – أي اهتمام - إذا لم يكن لله جل وعلا على ما يرضيه سبحانه فإنه لا محالة مهلكة لصاحبه مجلبة للشقاء والتعاسة.

قال ابن القيم: «إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله عنه – سبحانه - حوائجَه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه، وفرغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همُّه حمَّله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه؛ فشغل قلبه عن محبَّته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم؛ فهو يَكْدح كدح الوحوش في خدمة غيره»([4]) .

الضَّلالُ بعد الهدى – الكبر - الخيانة

الضَّلال بعد الهدى: له عقوبات مُعَجَّلةٌ كثيرة؛ منها أن المعصية والضلالة تدعو إلى أختها، ومنها الجدل، ومنها أن الله ينسي العبد نفسه فينسى مصالحها في الدنيا والآخرة، وهذه العقوبات إذا اجتمعت في الإنسان أوردته موارد الهلاك والفتن، وأوجبت له المصارعَ والمحن، نسأل الله أن يُجَنِّبَنَا ما ظهر من ذلك وما بطن! 

فعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضَلَّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل»([5]) .

يقول ابن القيم الجوزية - رحمه الله: «حذار حذار من أمرين لهما عواقب سوء؛ أحدهما ردُّ الحقِّ لمخالفته هواك؛ فإنك تعاقَب بتقليب القلب ورد ما يردُ عليك من الحق رأسًا، ولا تقبله إلا إذا برز في قالب هواك؛ قال تعالى: }وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{ [الأنعام: 110]»

والثاني: التهاون بالأمر إذا حضر وقته؛ فإنك إذا تهاونت به ثَبَّطَك الله وأقعدك عن مراضيه وأوامره عقوبة لك، قال تعالى: }فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ *{ [التوبة: 83].

فمن سلم من هاتين الآفتين والبليتين العظيمتين فليهنأ بالسلامة([6]) .

الكبر: وهو خصلة ذميمة يبغضها الله ويبغض أهلها ويجزي عليها صاحبها بنقيض ما أراد !

فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «ما من آدميٍّ إلا وفي رأسه حكمة بيد ملك، فإذا تواضع قيل للملك: ارفع حكمته، وإذا تكبر قيل للملك: ضع حكمته»([7]) .

قال المناويُّ في فيض القدير: (5/466): "الحكمةُ ما يُجْعَلُ تحت حنك الدَّابَّة، يمنعها المخالفة كاللِّجام، والحنك متصل بالرأس، «بيد ملك» موكَّلٌ به؛ فإذا تواضع (العبد) للحق والخلق قيل للملك من قبل الله تعالى: ارفع حكمته. أي: قَدْرَه ومنزلته، ويقال: "عالي الحكمة". فَرَفْعُها كنايةٌ عن الإعذار؛ فإذا تَكَبَّرَ قيل للملك: دع حكمتَه؛ كنايةً عن إذلاله؛ فإنَّ صفةَ الذليل تنكيسُ رأسه.

فثمرةُ التَّكبُّر في الدنيا الذِّلَّةُ بين عباد الله، وفي الآخرة طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار.

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: مَنْ تطاول تعظيمًا خفضه الله - عز وجل - ومن تواضع لله تخشُّعًا رفعه الله ([8]) .

أخي كم بغى العبادُ على بعضهم بسبب الكبر يوم أن جعلوا ذاك وضيعًا! وهذا رفيعًا! وكأنما خُلق ذاك من الطين! وخلق هذا من المسك الأذفر!!

وما أغلاها – أخي - تلك الوصية النبوية وهي تعلم الخلق أسس الحياة السعيدة! قال النبي - صلى الله عليه وسلم: «إن الله أ وحى إليَّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على  أحد! ولا يبغي أحد على أحد»([9]) .

فيا أيها المتواضع، إنما أنت كأرض انحدرت أركانُها فأمسكت الماء فنفع الله بها الخلق.. ويا أيها المتكبر، إنما أنت كأرض عالية مستوية يمرُّ عليها الماء؛ فلا هي تنتفع منه لنفسها! ولا هي بنافعة غيرَها! ([10]) .

الخيانة: فعن أبي بكرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من ذنب أَجْدَرُ أن يُعَجِّلَ الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة من قطيعة الرحم والخيانة والكذب..» الحديث ([11]) .

قال الذَّهبيُّ في ترجمة المنتصر بالله الخليفة العباسي: «ورد عنه أنه قال في مرضه الذي مات فيه: "ذهبت يا أمَّاه مني الدنيا والآخرة، عاجلتُ أبي فعُوجلتُ. وكان يُتَّهم بأنه واطأ على قتل أبيه، فما أمهل».

وقال الذَّهَبيُّ في ترجمة "ابن هبيرة"، قال ابن الجوزي: استيقظ وقت السحر، فقاء فحضر طبيبه ابن رشاءة، فسقاه شيئًا - يقال أنه سمه - فمات. وسُقي الطبيبُ بعده بنصف سنة سُمًّا فكان يقول: سَقَيْتُ فسُقيتُ. فمات ([12]) .

وما من يد إلا يد الله فوقها

 

 

ولا ظالم إلا سيُبلى بظالم




سوءُ الظَّنِّ بالله ترك الأمر بالمعروف

سوءُ الظن بالله: وهو من أقبح الخصال التي تُنبي عن ضعف التوحيد والجهل بالله سبحانه وبأسمائه وصفاته؛ فلا يُقْدم عليه إلا ضعيف الإيمان موسوس في دينه لا يعرف ربَّه ولا يذكر نعمه وفضله وخيره، وكيف يسوء ظنٌّ بالله - جل وعلا - وهو أرحم الراحمين، وأصدق القائلين، وأحكم الحاكمين! فالظلم كل الظلم، والجور كل الجور أن ينسب إلى الله سبحانه وتعالى: السوء؛ فهو قُدُّوسٌ مُنَزَّهٌ عن العيوب والنقائص.

 لذلك كان حسنُ الظن به واجبًا على المؤمن، ولا يسيء الظن بربه إلا مخذول آذن على نفسه بتعجيل العقوبة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا عند ظن عبدي بي؛ إن ظن بي خيرًا فله، وإن ظن شرًا فله»([13]) .

فاحذر - أخي الكريم - من أن تَظُنَّ بالله ظَنَّ السوء، وأن تعتقد أنه خلقك ليعذبك، أو أنه يسيء إليك ويحسن إلى غيرك، أو أنه منعك رزقه تنكيلا بك، وإنما أحسن الظن به؛ فإنه سبحانه أرحم بك من أبيك وأمك وأحن عليك من الخلق أجمعين وأرأف بك من رأفتك بنفسك.. فكيف يريد لك الأذى فضلاً على أن يلحقه بك!

ولو تأملتَ بعين بصيرة لوجدت أن لله حكَمًا بليغة في أحوالك، وأنه – سبحانه - ما منعك إلا ليعطيك، وما خفضك إلا ليرفعك، وما ابتلاك إلا ليهب لك حسنات لا تستطيع أنت بلوغها بعملك؛ لتستحقَّ بها الدرجات العلا.. تأمَّل في نفسك كم خالفتَ أمرَه، وكم غمست برَّه، وكم عصيت أمره! وها أنت لا زلت تأكل طعامه، وتشرب شرابه، وتشم هواءه؛ أوليس ذلك دليلًا واضحًا على أنه أرحم بك من الخلق أجمعين: }وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ{، ثم تَذَكَّر دائمًا أن الله ما ابتلاك بما ابتلاك به إلا لشيئين:

الأول: أنك أذنبتَ ذنوبًا؛ فالبلاء الذي أنزله بك سَيُكَفِّرها برحمة الله.

الثاني: أن الله قد أراد لك المنزلة العليا عنده؛ فابتلاك ليجزيك على البلاء بالحسنات التي تؤهلك لتلك المنزلة.

قال ابن مسعود: «إن الله يعطي الدُّنيا مَن يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب» ([14]) .

فعلى المسلم أن يُحْسنَ ظَنَّه بالله عز وجل، ويعمل على اجتناب كل ما يغضبه ويسخطه؛ ليكون ظنُّه الحسن قد وافق اجتهاده وعمله الحسن.

يقول ابن القيم الجوزية: وكيف يُحْسن الظَّنَّ بربه من هو شارد عنه حالٌّ مرتحل في مساخطه وما يغضبه، متعرِّضٌ للعنته، قد هان عليه حقُّه وأمرُه فأضاعه، وهان نهيُه عليه فارتكبه، وأَصرَّ عليه، وهل هذا إلا من خدع النفوس، وغرور الأماني ([15]) .

قال الحسن البصريُّ: «إن المؤمنَ أحسن الظَّنَّ بربِّه فأحسن العمل، وإن الفاجرَ أساء الظَّنَّ بربِّه فأساء العمل».

ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فعن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم اسْتَهَموا على سفينة، فصار بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مَرُّوا على مَنْ فوقهم فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا؛ فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا»([16]) .

وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن  الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم»([17]) .

وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: إنكم لتقرؤون هذه الآية: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ{، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمَّهم الله بعذاب منه»([18]).

فهذه الأحاديث تدلُّ على أنَّ تركَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعجِّل الله عليه العقاب في الدنيا، وهو من  أسباب عموم العقوبة على الناس إذا تواطؤوا على تركه.


الرياء - كفر النعمة - عقوق الوالدين

الرياء: فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سَمَّعَ سَمَّعَ الله به، ومن راءى راءى الله به»([19]) .

والرياء في الأعمال هو إرادة غير الله - جل وعلا – بها؛ وهو أنواع وأقسام؛ فمنها ما يحبط العمل من أصله؛ كمن يعمل العمل لغير الله من أصله؛ كأن يؤدِّي الزَّكاة سمعةً وطلبًا للذِّكر والمدح عند الناس؛ لا يقصد بذلك وجهَ الله ألبتة.

ومن الرياء ما يُضْعف العمل ويُنْقصه أجرَه وكمالَه وتمامَه؛ كمَنْ يَقْصد بالعمل وجهَ الله، ثم أثناء العمل يزيِّنه ويُحْسنه لإلفات وجوه الناس، وقد يتخلَّله ذلك في العمل كله، وقد ينزغه الشيطان في ذلك قليلا ثم يذهب عنه.

والمراد في هذا الكتاب أن الرياء من المخالفات الخطيرة التي يُعَجِّلُ الله عقابها في الدنيا ويجازي عليها أصحابها بضدِّ ما قصدوا بأعمالهم.

يقول ابنُ قيم الجوزية - رحمه الله: «لما كان المتزيِّنُ بما ليس فيه - أي المرائي الذي لا يخلص لله في أعماله - ضدَّ المخلص؛ فإنه يظهر للناس أمرًا وهو في الباطن بخلافه - عامله الله بنقيض قصده؛ فإن العاقبة بنقيض القصد ثابتة شرعًا وقدرًا.

 ولما كان المخلصُ يعجَّل له من ثواب إخلاصه الحلاوة والمهابة في قلوب الناس، عجَّل الله للمتزين بما ليس فيه من عقوبته أن شانه الله بين الناس؛ لأنه شان باطنَه عند الله، وهذا موجب أسماء الرَّبِّ الحسنى وصفاته العليا..» ([20]) .

وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بعمله سَمَّعَ الله به مسامع خلقه، وصَغَّرَه وحَقَّرَه»([21]) .

كُفْرُ النِّعْمَة: قال تعالى: }وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ{ [النحل: 112]، وقال تعالى: }وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ{ [إبراهيم: 7].

فَمَنْ كَفر نعمة الله ولم يُؤَدِّ حقَّها من الحمد والشكر فقد استوجب على نفسه حلولَ العذاب الشديد، وتبديل النِّعمة بالنِّقمة، والرغد والسعة بالضِّيق والهوان، والأمن والاستقرار بالخوف والاضطراب، وهذا مشاهد ومعلوم بالضرورة عند الناس عامة، ولا تزال وقائع الأزمان وشواهد التاريخ تروي قصص الكافرين بنعم الله الجاحدين لها، كيف صنع الله بهم وأرداهم خاسرين.

وليس شيء يعطي الله عليه الزِّيادة من غير استثناء غير الشكر، كما أنه ليس شيء يزيل الله به النِّعَم ويمحقها غير كفر النِّعم وجحدها؛ فالكفر بنعم الله من المعاصي الموجبة للعقوبات العاجلة؛ قال – تعالى - عن قوم فرعون الذين كفروا وما شكروا: }كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ{ [الدخان: 25-29].

يقول سيد قطب - رحمه الله: «انظر إلى هوانه وهوانهم على الله، وعلى هذا الوجود الذي كان يشمخ فيه بأنفه، فيطأطئ له الملأ المفتونون به، وهو أضل وأزهد من أن يحس به الوجود، وهو يسلب النعمة فلا يمنعها من الزَّوال، ولا يرثى له أحد على سوء المآل، لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله فيها؛ ذهبوا ذهاب النمال، وهم كانوا جبَّارين في الأرض، يطؤون الناس بالنعال، ذهبوا غير مأسوف عليهم»([22]) .

عقوق الوالدين: ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بابان معجَّلان عقوبتهما: البغي والعقوق»([23]) .

فعقوقُ الوالدين والرَّغْبَةُ عن طاعتهما وزَجْرُهما وعدمُ الإحسان إليهما والنفقة عليهما وغير ذلك من صور العقوق وأشكاله يُعَجِّلُ الله على ذلك العقاب في الدنيا فيقتص من العاق بما يشاء وكيف يشاء! سئل شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن رجل عجز عن الكسب ولا شيء له وله زوجة وأولاد، فهل يجوز لولده الموسر أن ينفق عليه وعلى زوجته وإخوانه الصِّغار؟

فأجاب: الحمد لله رب العالمين، نعم؛ على الولد الموسر أن ينفق على أبويه وزوجة أبيه وعلى إخوته الصِّغار، وإن لم يفعل ذلك كان عاقًّا لأبيه، قاطعًا لرحمه مستحقًا عقوبة الله تعالى في الدنيا والآخرة، والله أعلم([24]) .

الربا - المسألة – الدَّين بنية التَّلف

من الذنوب التي يُعَجِّل الله - جل وعلا - عقوباتها في الدنيا: الربا وسؤال  الناس للاستكثار، وأخذ الدَّين بنية إتلافه لا بنية الوفاء!

وهذه المعاصي جميعها من أبواب الفقر وأسبابه؛ فهي كلُّها تؤول بصاحبها إلى القلة والفاقة ولوازمها من الذُّلِّ والمسكنة والضَّيَاع؛ وذلك لأن العقوبةَ من جنس العمل؛ فكما أنَّ آكلَ الرِّبا إنما أعمل الربا في بيعه وتجارته ليستكثر من المال، فكذلك جزاه اللهُ بالقلَّة والفقر! وكما أن الذي يسأل الناس أموالهم وقد أغناه الله ليستكثر من المال، فكذلك جزاه الله بأن فتح عليه بابًا من أبواب الفقر، وأحوجه بعدما أغناه! وكما أن من أخذ الدَّيْنَ ليتلفه إنما أخذه احتيالاً على صاحبه، فكذلك جزاه الله من جنس فعله فأتلفه وأتلف ماله، وشواهد ذلك في الكتاب والسنة، ومنها:

1- الرِّبا: فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحدٌ أَكْثَرَ من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة» ([25]) .

ففي هذا الحديث دليلٌ واضح على أنَّ المكثرَ من الرِّبا يؤول أمرُه إلى القلة؛ وهي الجزاء النقيض لما كان يطمح إليه من الزيادة والاستكثار بالطرق التي لم يشرعها الله، وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ظهر الزِّنا والرِّبا في قرية، فقد أَحَلُّوا بأنفسهم عذابَ الله»([26]) .

وقال الله - جل وعلا: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ{ [البقرة: 278، 279].

يقول الإمام ابن قيِّم الجوزيَّة: «في ضمن هذا الوعيد: أنَّ المرابي محاربٌ لله ولرسوله، قد آذنه الله بحربه، ولم يجيء هذا الوعيد من كبيرة سوى الربا، وقطع الطريق على الناس: هذا بقهره لهم، وتسلطه عليهم، وهذا بامتناعه في تفريج كرباتهم إلا بتحميلهم كربات أشد منها، فأخبر عن قطاع الطريق بأنهم يحاربون الله ورسوله، وآذن هؤلاء إن لم يتركوا الربا بحربه وحرب رسوله»([27]) . وكيف لا يكون الربا إثمًا معجِّل العقوبة وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعامل به؛ فعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن اللهُ آكلَ الرِّبا، وموكلَه، وشاهديه، وكاتبه، هم فيه سواء»([28]) .

المسألة: وهي أيضًا من الذنوب التي يورث الله بها القلة في المال والشين، والعلامة في الوجه؛ ودليل ذلك ما رواه عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث والذي نفس محمد بيده، إن كنت لحالفًا عليهن: لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا، ولا يعفو عبد عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا رفعه الله بها، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر»([29]) .

يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى: «والمسألة في الأصل حرام؛ وإنما أبيحت للحاجة والضرورة؛ لأنها ظلمٌ في حقِّ الربوبية وظلم في حق المسؤول وظلم في حق السائل».

أما الأول: فلأنه بذل سؤاله وفقره وذله لغير الله؛ وذلك نوع عبودية؛ فوضع المسألة في غير موضعها، وأنزلها بغير أهلها، وظلم توحيده وإخلاصه وفقره إلى الله، واستغنى بسؤال الناس عن مسألة الرب؛ وذلك كله يهضم من حق التوحيد، ويطفئ نوره ويضعف قوته.

وأما ظلمه للمسؤول : فلأنه سأله ما ليس عنده، فأوجب له بسؤاله عليه حقًّا لم يكن له عليه، وعرَّضَه لمشقَّة البذل، أو لوم المنع؛ فإن أعطاه أعطاه على كراهة، وإن منعه منعه على استحياء وإغماض.

أما ظلمه لنفسه: فإنه أراق ماء وجهه، وذل لغير خالقه، وأنزل نفسه أدنى المنزلتين، ورضي لها بأبخس الحالتين، ورضي بإسقاط شرف نفسه، وعزة تعفُّفه، وراحة قناعته بما قسم له استغناءه عن الناس بسوء الهم؛ وهذا عين ظلمه لنفسه ([30]) .

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستكثر»([31]) .

الدين بنية التَّلف: وجزاؤه المعجَّل في الدنيا هو التَّلف؛ فمن أخذ أموال الناس يريد إتلافها جزاه الله بأن أتلف نفسه، وأفقده رشده، وجلب عليه الشرور والمضار؛ فعن  أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله»([32]) . فكيف يطلب عاقل الكثرة بما سيؤول به إلى النَّقص والفاقة والتلف!

قال أبو حازم: «إن كان يُغنيك ما يكفيك فأدنى عيشك يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس في الدنيا شيء يغنيك».

يموت المرء على ما عاش  عليه

سوء الخاتمة - وما أدراك ما سوء الخاتمة - عنوان الخسار.. والضياع الكبير.. وسوء العاقبة في النار من ابتلي بها فقد ابتلي بعظيم.. ليس بعد بلائها بلاء.. فهي الشقاء وباب الشقاء.

وهي معجِّلة ولا بدَّ لمن أسرف في الحياة على نفسه.. وباع دينه بدنياه وأعرض عن ذكر الله.. متبعًا شهواته وهواه.

ولم تزل وقائع الأيام وأحداثها تؤكِّد أن سوءَ الخاتمة هي عقوبة معجَّلة لمن عصى الله ورسوله في الدنيا، كما أن حسن الخاتمة هي بشارة معجلة للمؤمنين؛ فعلى فراش الموت تظهر حقائق الأعمال، ويتميز الصالح من الطالح والمؤمن من المنافق والعاصي من الطائع؛ فحينئذ تتلاشى المظاهر والصور.. وتتجلَّى النَّوايا الدفينة؛ فتظهر على نطق اللسان وعلى شكل الوجه.. وبشارة النفس أو قلقها!

 ولا يمكن للمرء وقتها أن يصبر أو يجلد أو يتحدى أو يصمد.. وإنما الثبات يومها من الله وحده.. قال تعالى: }يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ{ [إبراهيم: 27].

يقول ابن القيم الجوزية - رحمه الله: «فسبحان الله!! كم شاهد الناس من هذا عبرًا، والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم».

فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان، وعقل لسانه عن ذكره، وجوارحه عن طاعته، فكيف الظن به عند سقوط قواه واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع وجمع الشيطان له كل قوته وهمته، وحشد عليه جميع ما يقدر عليه لينال منه فرصته؛ فإن ذلك آخر العمل؛ فأقوى ما يقوم عليه شيطانه ذلك الوقت، وأضعف ما يكون هو في تلك الحالة؛ فمن ترى يسلم من ذلك؟! فهناك }يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ{، فكيف يوفَّق بحسن الخاتمة من قلبه بعيد من الله تعالى، غافل عنه، متعبِّد لهواه، أسير لشهواته، ولسانه يابس من ذكره، وجوارحه معرضة عن طاعته مشتغلة بمعصيته - أن يوفَّق للخاتمة الحسنة؟!

وذكر - رحمه الله - جملة من وقائع سوء الخاتمة عند الاحتضار فقال: قيل لبعضهم: قل لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء ويقول: تاتنا تنتنا. حتى قضى.

وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فقال: ما ينفعني ما تقول، ولم أدع معصية إلا ركبتها. ثم قضى ولم يقلها.

وقيل لآخر ذلك فقال: وما يغني عني، وما أعرف أني صليت لله صلاة. ولم يقلها.

وقيل لآخر ذلك فقال: هو كافر بما تقول. وقضى وأخبرني بعض التجار عن قرابة له أنه احتضر وهو عنده فجعلوا يلقنونه "لا إله إلا الله" وهو يقول: هذه القطعة رخيصة، وهذا مشتر جيد، هذا كذا. حتى قضى! ([33])

وسوء الخاتمة أخطر العقوبات المعجلة على الإطلاق؛ لأنها عقوبة تقتضي الخذلان في الدنيا والآخرة! فهي غبن في الدنيا؛ لأن المعاقب بها كشف ستره ومخبوءه، وظهر عليه علامة سوء عمله، ولربما كان مستورًا في أحواله، وهي أيضًا غبن في الآخرة؛ لأن العبد يُبعث على ما مات عليه!

 وفي حديث أبي هريرة الطويل عند ابن ماجه مرفوعًا: يقال للرجل الصالح في قبره بعد أن يُعرج بروحه إلى السماء ويسأل: «انظر إلى ما وقاك الله تعالى منه، ثم يفرج له فرجة قبل الجنة، فينظر في زهرتها، وما فيها، فيقال: هذا مقعدك. ويقال له، على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله». أما الرجل السوء فيقال له: «انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفرج له فرجة إلى النار، فينظر إليه يحطم بعضها بعضاً، فيقال: هذا مقعدُك؛ على الشَّكِّ كنت، وعليه متَّ، وعليه تبعث إن شاء الله» ([34]) .

فيا هذا سترحل عن قريب

 

 

إلى قوم كلامهم السكوت




وكما أن سوء الخاتمة هي عقوبة معجَّلة لمن ضيَّع أمر الله جل وعلا وغفل عنه وسها، فإن حسنَ الخاتمة بشارة معجَّلة لمن أطاع الله - جل وعلا، واتَّبَعَ سبيلَ الحقِّ والهدى.

 ومن أخبارها ما رواه المغيرة بن حكيم، قال: حدثيني يا فاطمة بنت  عبد الملك. قالت: كنتُ أسمع عمرَ بن عبد العزيز يقول في مرضه الذي مات فيه: «اللهم أخف عليهم موتي ولو ساعة من نهار». فلما كان اليوم الذي قبض فيه خرجت فجلست في بيت آخر بيني وبينه باب، وهو في قبة له، فسمعته يقول: }تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ{. ثم هدأ، فجعلت لا أسمع له حسًّا ولا كلامًا، فقلت للوصيف الذي يخدمه: انظر أمير المؤمنين، فلما دخل عليه صاح فوثبتُ فدخلت عليه فإذا هو ميت، وقد استقبل القبلة، وأغمض نفسه، ووضع إحدى يديه على عينيه، والأخرى على فيه رضي الله عنه»([35]) .

الكذب – البغي - قطيعة الرحم

الكذب: وله عقوبات معجَّلة عامة وخاصة:

الأولى: وهي أنه يهدي إلى الفجور ويسوق صاحبه إليه، فهو من أعظم أسباب الغواية والضلال؛ فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يُكتب عند الله صديقًا وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يُكتب عند الله كذابًا»([36]) .

الثانية: وهي الريبة والقلق والاضطراب وعدم الطمأنينة التي هي أساس السعادة؛ فعن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الصدقَ طمأنينة والكذب ريبة»([37]) .

الثالثة: وهي عقوبة غير معينة من الله جل وعلا؛ فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر أن يجعل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة، من قطيعة الرحم والخيانة والكذب، وإن أعجلَ الطاعة ثوابًا لَصلةُ الرَّحم؛ حتى أن أهل البيت ليكونون فجرة، فتنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصلوا»([38]) .

قال مالك بن دينار: «الصدق والكذب يعتركان في القلب حتى يُخرج أحدهما صاحبه».

ومن أخطر صور الكذب التي يعجِّل الله عليها العقاب ويدع الديار بها خاوية قاعًا صفصفًا اليمين الغموس؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس شيء أطيع الله تعالى فيه أعجل ثوابًا من صلة الرحم، وليس شيء أعجل عقابًا من البغي وقطيعة الرحم، واليمين الفاجرة تدع الدِّيار بلاقع» ([39]).

فليحذر المسلم من هذه الخصلة الذميمة والتي هي من صفة أغلب التجار الذين لا يكذبون في تجاراتهم فقط؛ وإنما يتعدون ذلك إلى القسم الفاجرة الغموس، ويغلظون في ذلك طمعًا في مال سيفنى وشرف سيزول ويبلى! وقد حذَّر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «التجار هم الفجار». قيل: يا رسول الله، أليس أحل الله البيع؟! قال: «بلى؛ ولكنهم يحدثون فيكذبون ويقسمون فيحنثون».

البغي: فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي والعقوق»([40]) .

قال بعض الحكماء: أعجل الأمور عقوبة وأسرعها لصاحبه سرعة ظلم من لا ناصر له إلا الله، ومجاورة النعم بالتقصير، واستطالة الغني على الفقير.

ورغم أن الله - جل وعلا - أوعد الظالم الباغي بتعجيل عقوبته وجزائه في الدنيا فقد جعل للمظلوم دعوةً مستجابةً ليس بينها وبينه حجاب؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا دعوة المظلوم، وإن كان كافرًا؛ فإنه ليس دونها حجاب»([41]) .

وإليك - أخي الكريم - قصة شاهدة على ذلك: فقد روى البخاري أن أهل الكوفة شَكَوْا سعد بن أبي وقاص إلى عمر - رضي الله عنهما - فعزله واستعمل عليهم عمَّارًا، فشكوا سعدًا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق، إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي. قال سعد: أما أنا فوالله إني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين وأخف في الأخريين. قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق. فأرسل معه رجلاً أو رجالاً إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة ولم يدع مسجدًا إلا سأل عنه ويثنون معروفًا، حتى دخل مسجدًا لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له "أسامة بن قتادة" يُكَنَّى أبا سعدة قال: أما إذا نشدتنا فإن سعدًا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية. قال سعد: وأنا والله لأدعونَّ بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا قام رياء وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن، وكان الرجل إذا سئل بعد يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد!! قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطريق يغمزهن ([42]) .

قطيعة الرحم: وقد سبق في الحديث: «ما من ذنب أجدر أن يُعَجِّلَ الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يَدَّخرُه في الآخرة من قطيعة الرحم والخيانة والكذب». فقطيعة الرحم عقوبتها معجَّلة، ولا بد؛ سواء كان الذي ارتكبها صالحًا أم فاسقًا؛ فمغبَّتُها محتضرة معجَّلة لا تزول إلا بالتوبة إلى الله سبحانه، وتوطين النفس على صلة الرحم كما أمر الله سبحانه؛ بل صَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «من قطع رحمه لقي وباله قبل أن يموت». وفي ذلك نصٌّ صريح على أن قاطعَ الرحم يلقى جزاءه في الدنيا ولا بد!

ومن بين العقوبات النفسية التي يعاقب الله بها القاطع للرحم أن ينصر عليه من وصله، وأن يظهره عليه ثوابًا للواصل وعذابًا على القاطع؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله، إني لي قرابة أصلهم ويقطعونني وأحسن إليهم ويسيؤون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ. فقال: «لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك»([43]) .

كشف عورة المسلم وخذلانه

كشف عورة المسلم: أما كشف عورة المسلم فإن جزاءه معجل ولا بد وهو هتك عورة من فعله وفضحها جزاء وفاقًا، ويكون كشف عورة المسلم وفضحه بطرق هي:

الأولى: وهي كشف عيوبه للناس وإظهاره للتَّشهير به، وتنفير الناس منه، وتنقيصه وتجريحه من غير موجب شرعي لذلك، وهذا ديدن كثير من الناس إلا من رحم الله، وقد ورد وعيد شديد في حق من فعل ذلك؛ قال الله جل وعلا: }إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ{ [النور: 19].

الثانية: تتبع عورة المسلم، والاطلاع على عيوبه، سواء عن طريق التجسُّس عليه، أو متابعة أحواله بسؤال الناس واستغفال عماله أو أطفاله أو جيرانه أو أهله وأصحابه أو نحو ذلك من الأساليب الذميمة التي تفضي إلى كشف المخبوء من عورات الناس.

 والمتتبع لعورات المسلمين وإن يكن ساترًا لما يعلمه من تلك العورات فهو عن فضح سريرته وهتك عورته غير بعيد؛ لأن جزاء تتبُّع العورات عند الله هو هتك عورة من فعل ذلك وفضحه؛ لا مجرد جزائه بتتبع عورته؛ وهذا ما يجعل الأمر في غاية الخطورة لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبَّع عورةَ أخيه المسلم يتتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله»([44]) .

لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا

 

 

فيهتك الله سترًا عن مساويكا

واذكر محاسن ما فيهم  إذا ذكروا

 

 

ولا تعب أحدًا منهم بما فيكا




سمع أعرابيٌّ رجلاً يقع في الناس، فقال: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لما يطلب بقدر ما فيه منها.

وأجرأ من رأيت بظهر عيني

 

 

على عيب الرجال أخو العيوب




الثالثة: تعيير المسلم بذنبه؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيِّروهم ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإن من تتبع عورة أخيه المسلم يتتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله»([45]) .

يقول ابن القيم الجوزية: إن تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثما من ذنبه، وأشد من معصيته؛ لما فيه من صولة الطاعة، وتزكية النفس، وشكرها، والمناداة عليها بالبراءة من الذنب، وإن أخاك باء به، ولعل كسرته بذنبه، وما أحدث له من الذل والخضوع والإزراء على نفسه، والتخلص من مرض الدعوى والكبر والعجب، ووقوفه بين يدي الله ناكس الرأس، خاشع الطرف، منكسر القلب - أنفع له، وخير من صولة طاعتك، وتكثرك بها والاعتداء بها، والمنة على الله وخلقه بها، ولعل الله أسقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داء قاتلاً هو فيك ولا تشعر([46]) .

هذا مَنْ عَيَّرَ المسلمَ بذنب قد فعله، فكيف بمن عير المسلم بشيء ليس له فيه يد؛ كأن يكون سمينًا أو طويلاً أو جاهلاً أو قليل الفهم أو نحو ذلك.

الرابعة: الافتراء على المسلم وقذفه في عرضه، وهذا من أعظم الكبائر التي يعجل الله جل وعلا عقابها في الدنيا، وقد ورد التنصيص على ذلك في القرآن الكريم صريحًا؛ قال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ{ [النور: 23].

واللعن هو الطرد من رحمة الله - جل وعلا - في الدنيا؛ فيحرم المسلم بذلك من موارد الخير ومفاتيح الفضل، وفي الآخرة أيضًا؛ حيث لا عاصم من أمر الله إلا من رحم!

وقال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ{؛ فإذا كان مجرَّد حبِّ إشاعة الفاحشة في المؤمنين والرضا به موجب للعذاب الأليم في الدنيا، فكيف بإشاعة الفاحشة نفسها! فلا شك أن عذاب صاحبها أنكى، وعاقبته في الدنيا أخزى وأردى؛ نسأل الله المعافاة في الدنيا والآخرة.

قال أبو عاصم النبيل: لا يذكر الناس بما يكرهون إلا سفلة لا دين لهم. وقال مالك رحمه الله: كفى بالمرء شرًا أن لا يكون صالحًا ويقع في الصالحين ([47]) .

خذلان المسلم: ففي الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ يخذل امرءًا مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته»([48]) .

وهنا أمور يجب التنبيه عليها: الأولى: أن الحديث يشمل المسلم - أي مسلم - ولا يستلزم نصره أن يكون معروفًا لدى من نصره؛ وإنما يجب نصره ويحرم خذلانه بمجرد أن يكون مسلمًا ويصدق عليه اسم الإسلام، وسواء كان ذاك المسلم المنتقص من عرضه حاضرًا أم غائبًا.

الثانية: أن نصر المسلم وعدم خذلانه يكون بأمور هي:

عدم السماح بغيبته وذكره بما يكره.

عدم السماح بالسخرية منه وهمزه ولمزه وتعييره والتجسُّس عليه وكشف عورته وتتبُّعها!

عدم السماح بأخذ ماله وممتلكاته وهضم حقه.

عدم السماح بانتهاك عرضه وحرمته.

عدم السماح بإيذائه بأي شكل من الإيذاء سواء في حضوره أو غيبته.

فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه، التقوى هاهنا، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم»([49]) .

الثالث: أن الله جل وعلا جعل الجزاء في هذه الخصال من جنس العمل وجعلها معجلة في الدنيا؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة»([50]) .


=========================

([1]) رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (949).
([2]) رواه أبو داود وهو في السلسلة الصحيحة (2/539).
([3]) رواه الحاكم وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6189).
([4]) الفوائد (159).
([5]) رواه الترمذي وأحمد وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5633).
([6]) بدائع الفوائد (2/180، 181).
([7]) رواه الطبراني وهو في السلسلة الصحيحة (535).
([8]) الجزاء من جنس العمل (2/124).
([9]) رواه مسلم.
([10]) التواضع لأزهري أحمد محمود (9).
([11]) سيأتي تخريجه بتمامه.
([12]) الجزاء من جنس العمل (2/250).
([13]) رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع (4191).
([14]) رواه البخاري في الأدب المفرد وهو حديث صحيح موقوف على ابن مسعود له حكم الرفع.
([15]) الجواب الكافي لابن القيم (73).
([16]) رواه البخاري.
([17]) رواه الترمذي وحسنه.
([18]) رواه أبو داود والنسائي.
([19]) رواه مسلم.
([20]) إعلام الموقِّعين لابن القيم (3/180).
([21]) رواه أحمد والبيهقي وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/16).
([22]) الظلال (5/3214).
([23]) سيأتي تخريجه.
([24]) مجموع الفتاوى (34/101).
([25]) رواه ابن ماجه وصححه الألباني في صحيح الجامع (5518).
([26]) رواه الحاكم والطبراني في الكبير، وهو في صحيح الجامع (692).
([27]) التفسير القيم (172).
([28]) مختصر مسلم صحيح الجامع (5090).
([29]) رواه الإمام أحمد.
([30]) مدارج السالكين (2/176).
([31]) رواه مسلم.
([32]) رواه البخاري.
([33]) الجواب الكافي: (130).
([34]) جزء من حديث طويل عند ابن ماجه وهو في صحيح الجامع (1964).
([35]) الحدائق لابن الجوزي (3/440).
([36]) رواه البخاري ومسلم.
([37]) رواه الترمذي وصححه.
([38]) رواه الطبراني في الكبير وصححه الألباني في صحيح الجامع (5591).
([39]) رواه البيهقي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (978).
([40]) رواه الحاكم في المستدرك وهو في السلسلة الصحيحة (1120).
([41]) رواه أحمد وغيره وهو في صحيح الجامع (118).
([42]) رواه البخاري.
([43]) رواه مسلم.
([44]) رواه الترمذي.
([45]) رواه الترمذي و هو في صحيح الجامع (7862).
([46]) مدارج السالكين لابن القيم (1/176).
([47]) صفة الصفوة (3/190).
([48]) رواه أحمد وأبو داود وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5690).
([49]) رواه البخاري ومسلم.
([50]) رواه البيهقي وحسنه الألباني في الصحيحة (1217).

===========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعَرَّف على الإســلام د. منقذ بن محمود السقار

هدية إلى كل باحث عن الحق من غير المسلمين تعَرَّف على الإســلام د. منقذ بن محمود السقار مقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسل ا...